الإمام زيد ثورة إصلاحية لا طائفية

عبدالملك العجري

الإمام زيد لم يكن داعية مذهبياً ولا مجرد طامح سياسي يقاتل بهدف المنافسة على السلطة والوصول للحكم كهدف بحد ذاته، وإلى وقت قيام ثورة زيد بن علي كانت المعارضة السياسية حركة بدون عقيدة محددة والجدل العقدي كان لا يزال في بدايته لم يتبلور بعد في منظومات عقدية تتوزع المسلمين إلى فرق وطوائف، ولذلك كان معسكر الإمام زيد لفيفاً غير متجانس مذهبياً ,والزيدية اللقب الذي أطلق على معسكر الإمام زيد فيما بعد ليس مجرد نزعة علموية أو مدرسة نظرية بل إضافة لذلك حركة ثورية وحركة إصلاح شامل بمضامين اجتماعية واضحة والزيدية أول ما ظهرت كنظرية في الثورة لا نظرية في الحكم .
من الافتراضات المنتشرة لـدى فريـق من الكتبة والبـاحثين اختـزال بواعث الحركة الثورية التي قادها ثوار من أبناء الإمام علي في الطموح للسلطة، ومشاعر الحرمان مما يعتقدونه حقاً السياسي، وهي مجازفة غير موفقة، إذ ليس هنـاك مـبرر منطقـي لاستبعاد الـدافع الإصلاحي وراء الحركـة الثورية للثوار من أبناء علي عليه السلام ,ولا تلفت هـذه التفـسيرات إلى أثـر التحـولات الاجتماعيـة والسياسية، وهي تفـسيرات لا تـصح إلا في حالـة مـا إذا كـان الوضـع الإسلامي العـام المرافـق للمعارضـة المـسلحة لا يحتمـل أي دوافع سياسـية أو دينيـة أو اجتماعيـة أو اقتـصادية غـير هـذا العامـل النفسي المدفوع بمشاعر الحرمان السياسي
والتتبع العملي لتطور الأحـداث في المحـيط الاجتماعي الإسلامي آنئذ يوضـح أن التحـولات المتتابعـة والمتـسارعة عـلى جميع الصعد منذ نهاية النصف الأول من القرن الأول الهجـري كانت تفـرض وضعا ثوريا، والسياسة التي ابتعتها الدولة الأموية كانت تزيد من إثارة نقمـة المسلمين عليهـا، ومنـذ قيامهـا واجهـت معارضـة سياسـية وحركـات احتجاجية وثورية، كالثورة التي قادها الحسين بن علي وثورة عبدالله بن الزبير وثورات الخوارج.
يرصـد الـرئيس الإيـراني السابق “خاتمي” في كتابه (الدين في شرك الاستبداد) بعض مظـاهر التحـول الـسياسي والاجتماعـي التي أدت لتعميق أزمة الشرعية الـسياسية وزيـادة الاعـتماد عـلى القـوة العـسكرية والقمع الوحشي للمعارضين وممارسة الإرهاب بحقهم، وتفشي الفساد في الأجهزة الحكومية، والمساوئ الاجتماعية ، واحتدام الخلافات السياسية والكلامية التي صار الـدين محـورا لهـا، والـشك في شرعية النظام السياسي أخذ يمتد إلى الدين الذي يـدعي النظـام تمثيلـه، فظهرت الزندقة والـشعوبية، وأفرغـت البيعـة مـن مفهومهـا الـسياسي والقانوني كعقد اجتماعي بين الحاكم والمحكوم والتزامات متبادلة ملزمة للطرفين من الحقوق والواجبات ليتحول إلى التـزام مـن طـرف واحد (الأمة) بالطاعة المطلقة, كما أقصي المجتمع عن حقه في المشاركة، والمساءلة وتعززت الـسلبية ِ السياسية، ومصادرة آدمية الإنسان.
وفى العصر الأموي كانت العاصـمتان الروحيتـان للإسـلام “مكـة والمدينة” قد فقدتا أهميـتهما الـسياسية والروحيـة، وتحولتـا إلى مـدينتين غنائيتين، واكتظتا بالمغنين والمغنيات، ومـا صـاحب ذلـك مـن المجـون والفساد ولوازم التدني، يقول المفكر المصري العشماوي في كتابه الخلافة الإسلامية “واجتمع في زمـن واحـد مـن مـشهوري الغنـاء “جميلة، وهيت، وطويس، والدلال، وبرد الفؤاد، ونؤومة الـضحى، ورحمة، وهبة الله، ومعبد، ومالك، وابن عائشة، ونافع بن طنبورة، وعزة الميلاد، وحباب، وسلامة، وبلبلة، ولذة العيش، وسعيدة، والزرقـاء، وسعيد بن مسجح، وابن سريج، والغريض، وابن محجر”، ويتابع العشماوي: وهكذا عاشت “المدينة ومكة المقدستان” لفـن الغنـاء، تـسهران كـل ليلة على أوتار العيدان والطنابير والآلات الموسيقية من كل لون، وفيهما ظهر الغزل الصريح والفاحش في العصر الأموي، في حين هاجر الغـزل العفيف أو العذري إلى البادية .
ويضيف العشماوى: ” في عز الخلافـة الأمويـة وفي ضـحى التاريخ الإسلامي كان الفسق كثيرا والفجور سـافرا؛ يقـع في قـصور الخلفاء ويحدث بين صفوف المسلمين، فكانت الخمر والغناء واللواط والتخنث والتشبيب بالنساء.. إلخ، وحدث ما لا يمكن أن يحـدث في وقتنا الحالي؛ أن تصلي جارية مخمورة بالمسلمين بدلا من الخليفـة، وأن يجاهر الخلفاء بالفسق والزندقة والفجور، وأن يسرع أمير المـؤمنين في وضع مقصف له فوق الكعبة، يلهو ويسكر ويتلوط فيه”.
وفي خطبة مشهورة عن الخليفة الأموي عمر بـن عبـدالعزيز يـصور فيها حجم الانحراف الذي أصاب المجتمع الإسلامي في العهد الأموي “إن الله بعث محمداً رحمة ولم يبعثه عذاباً إلى الناس كافة، ثم اختار لهم ما عنده فترك لهم نهرا شربهم فيه سواء، ثم ولي أبو بكر فـترك النهـر على حاله، ثم ولي عمر فعمل عمل صاحبه، فلـما ولي عـثمان اشـتق مـن ذلك النهر نهرا، ثم ولي معاوية فشق منه الأنهار، ثم لم يـزل ذلـك النهـر يشق منه من يزيد ومروان وعبدالملك وسليمان حتى أفضى الأمر إليَّ وقد يبس النهر الأعظم، ولن يروى أصحاب النهر الأعظم حتى يعود إليهم النهر الأعظم.
وعلى المستوى الاجتماعي والاقتصادي حصلت انتكاسة لمجتمع الأخوة وتوفرت جملة من العوامل ساعدت الأرستقراطية القديمة المتشكلة من القوى التي اعتنقت الإسلام قسراً على استعادة نفوذها وإعادة تشكيل المجتمع الإسلامي والتغلب على قوى مجتمع الأخوة التي بناها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وكانت الأرض والتوزيع العصبوي للمال حجر الزاوية في صياغة التشكيلة الاجتماعية الجديدة كان من نتائج الفتوحات الإسلامية وتوسع جغرافية الدولة الإسلامية واقتطاع أراض واسعة ضمن نفوذها ضمت مجتمعات فيضية يغلب عليها النظام الإقطاعي احتكرت الدولة الأراضي الزراعية للأقاليم المفتوحة عنوة واعتبرتها ملكا للدولة وتركتها في يد أصحابها ، مقابلا لضريبة معينة تسمى الخراج، يفترض أن عائداته تعود لمجموع الأمة وتوزع بينهم بطريقة عادلة .
إلا أن السياسة العصبوية في توزيع عائدات الأراضي الخراجية أدى إلى نشوء طبقة اجتماعية ثرية تمكنت من تعزيز نفوذها والقفز إلى السلطة واحتكار عوائد أراضي الخراج وتوزيعها على شكل هبات إقطاعية ضمن عصبية الحكم أو طبقة الحكم أو كما عبر سعيد بن العاص “إنما السواد بستان قريش “.
في ظل هذه التحولات تكونت معارضة إسلامية من القوى المتمسكة بمجتمع الأخوة, القوى الاجتماعية المحرومة والمستضعفة والفئات المهمشة والفلاحين والأقنان وأهل الحرف وصغار الملاك, واللامنتمين كالموالي وغيرهم من القراء ورجال الدين .
الحركة الثورية التي قادها الإمام زيد كانت تمرداً على التراجع السياسي والاجتماعي وتعبيرا عن مصالح معظم القوى جمـاهير المستضعفين المتحلقين حول الثوار العلويين فهم ملاذ الجماهير كلما ساءت أحوالها وأرادت أن تحتج على وضعها أو تعبر عن ضيقها، وقد تـنجح الجماهـير في مسعاها وينجحون معها، وقد تخفق ويخفقون معها على حد الحكيم اليماني عبدالله البردوني .
وثورة اجتماعية في صميم حركتها إعادة التوزيع العادل للفيء، وعلى حد الدكتور محمود إسماعيل في كتابه (الأدارسة) إن ثورة الإمام زيد رغم التأييد الواسع لها بين الموالي والعرب والفقهاء إلا أنها تعرضت لخذلان من قبل الزعامات الأرستقراطية والإقطاعية في العراق وخراسان وغيرها من المحسوبين على المعارضة نظرا لتخوفهم على مصالحهم من تنبي الحركة أهدافا اجتماعية واضحة كرد الفيء إلى من حرموا منه وتوزيع الخراج بالعدل ولذلك أقدم المستضعفون من العرب والموالي على تعضيدها لكن في نفس الوقت لم يتقاعس أثرياؤهم على مناهضتها.

قد يعجبك ايضا