رحيل علم .. وسكوت قلم

علي محمد الأشموري
حياة الإنسان عبارة عن شريط من الذكريات يمر عبر الذاكرة وكأنه فيلم تسجيلي يتذكر الإنسان كل تفاصيله بدقة متناهية ولكن المرارة أن تودع إنساناً عزيزاً عليك عشت معه أجمل الذكريات وتتذكر مناقبه في تلك اللحظة فتصدم ويعطيك الخالق عز وجل قوة تحمل وجلد.. تتمنى أن تخرج الدموع من مقلتيك لترتاح من شدة الذهول التي يصدمك به موظف “الريسبشن” داخل المستشفى.. نعم الموت حق كما هي الحياة ولكن صعوبة الفراق تجعلك شارداً لا تشعر بمن حولك فأنت شارد الذهن واقع تحت أثر صدمة الخبر..
ففي يوم الخميس الفائت كان كاتب السطور متشوقاً لرؤية رفيق الدرب المشاكس البريء صاحب القلم الرشيق والصوت الوطني الحر الزميل الأستاذ محمد علي سعد بعد فراق دام عقداً ونيف من الزمن الجميل.. بعد التأكد من خبر الوعكة الصحية التي ألمت بصديق الحرف ( محمد) والعناية التي احبط بها من قبل مستشفى الثورة قررت الذهاب لزيارته بعد أن فرغت من كتابة موضوعي المتفائل بعودة صديق العمر إلى عشه. ارتديت ملابسي وتوكلت على الحي القيوم الذي عيونه لا تنام صوب مستشفى الثورة كنت قد سلمت الأخ العزيز عبدالكريم الحلالي مقالين لتوصيلها للصحيفة للبحث عن المؤهل وتحييد الاقتصاد.. وأخر عن الصحافي الشقي محمد علي سعد. في بوابة المستشفى وبالصدفة قابلت عبدالناصر محمد الزرقة الذي يبحث عن علاج والروشتة بيده.. سألته عن محمد علي سعد رئيس تحرير 14 أكتوبر رئيس مجلس الإدارة.. قال لا أعرف ولكن نسأل وبعد السؤال قيل أنه في غرفة خاصة الدور الرابع .. غرف خاصة بكبار الشخصيات.. وفي الاستعلامات أجابني الموظف أنه “يغسل” قلت لكن الرجل لا يعاني من الكلى! أجاب لا .. لا في غرفة الغسيل “الثلاجة” لقد لفظ أنفاسه الأخيرة فجراً.
عظم الله أجركم.. صدمت.. وتسمرت للحظة فكاني غير مصدقً لما قاله الموظف.. دارت الدنيا وأحسست أنني أدور في لعبة المراجيح.. ذهبنا للبحث عن المكان للتأكد من الكلام غير مصدق أن زميلي قد فارق الحياة فوجدت أبناءه الأربعة وابنته تقريباً ورجل يشبهه ذا شعر أبيض سألت بحذر فتيقن لي خبر رحيله عن دنيانا الفانية تذكرت آخر كلماته “جئت من هناك لأمنع أجندات السعودية والإمارات وأذيالها”.. لم اتعرف على أحد من الشباب الأربعة لقد تغيرت ملامح الأطفال الأشقياء الذي تعرفت على اثنين منهم وهم أطفال حينما أوقفت عن العمل منتصف 1994م من قبل أعلى هرم في السلطة آنذاك بسبب خلاف تليفوني نشب بيني وبين وزير الإعلام الأعلى الذي أجاب على استفساري بجفاء وحقد الذي لم ينفذ له رغباته أن الرئيس رفض توقيع قرار درجتي دستورياً وقانونياً أسوة بسكرتير مجلس الوزراء وبسبب غضبي وإخراجي عن لياقة الحوار لكزته بكلمة.. واقفت التليفون في وجهه لم تمر دقائق إلا وجرس التليفون يرن وبصوت جلف … باشرني مالك على الأستاذ وتابع “لا تكن تشرب مطيط وتتعالى على الناس!! عرفت أني وقعت في ورطة وأن المتصل رئيس الدولة.. أجبت بحنق بطلوا شرب “المطيط” أنت ومن بجانبك وأغلق أذنيك وأعرف الحقيقة؟؟ قال بنبرة الآمر الناهي اعتبر نفسك موقوف عن العمل.. وبين الحقيقة والذهول رن جرس الهاتف فإذا بالأستاذ الزرقة رحمة الله بهاتفي ويقول ما فعلت..؟؟ أجبته بالحقيقة فأشار علي التوجه إلى عدن.. وبعدها لكل حادث حديث المهم أبحث عن حماية لرأسي. التقطت مكالمته وعلى الفور جمعت ملابسي وتوجهت مع زوجتي وطفلتي الوحيدة حينها صوب عدن قصدت محمد علي سعد الذي عرفته وكان يعمل معنا في أحلك الظروف كان أحياناً يكتب “الافتتاحية” وكنت أرافقه كظله خشية عليه من “النميمة” وعواقبها والمنافسة بينه وبين البعض من الزملاء وكنت أخشى أن يصيبه مكروه.
مر الشريط في ذاكرتي وكيف استطاع الراحل الأستاذ الزميل محمد أن ينسيني ما حدث واستضافني في “موفمبيك” لمدة تقارب الشهر أو أكثر.. كان يمر عصر كل يوم لينقلني بسيارته إلى الصحيفة وكان رجل المواقف العم معروف حداد يلح عليّ كل يوم أن أكتب ولا يتركني إلا وقد كتبت مقالة.. رحمك الله يا عم “معروف” فقد كان بداخلك كنز أخلاقي لا يقدر بثمن.. أحداث الولد الشقي في عدن بصحبة محمد ومعروف انستني الألم الذي تعرضت له وانستني درجتي المستحقة بسبب الخلاف بيني وبين الوزير الأعلى والحاكم الفعلي للإعلام والإعلاميين؟؟
وما زاد من حنقي أنه جعل كاتب السطور في الهامش رغم تدخل رئيس مجلس النواب السابق وبدأ المناكفات بينه وبين الرجل الأول بسبب طلبه لدرجتي الذي عملت لديه منتدباً سكرتيراً صحفياً بدون حقوق تذكر اللهم حسب الراحل الأستاذ الزرقة ظهر وحماية لرأسي.. مرت هذه الخواطر وما خفي كان أعظم وأنا أرى صديق العمر مسجاً ملفوفاً في كفنه مفارقاً للحياة تاركاً دعوته لأبناء المحافظات الجنوبية والشرقية بعدم انجرار الوطن إلى الاحتلال وبسبب تكالب الصحف الصفراء عليه والحروف السوداء المنهمرة بالحقد عانى الرجل وتوجه نحو الدراسة..
توجه الجميع إلى جامع دار الرئاسة فقال ابنه الأصغر “عبدالرحمن” نوصلك معانا.. ركبنا بسيارتهم حاولت أن اكسر حاجز الصمت سألت أخاه جمال ماذا حدث له؟؟ أجابني بصوت خافت كان عنده جلطة في القلب وكان يكره الأبر بشكل عجيب قلت في نفسي “محمد” كان يحب المهنة بعشق ونصحته بأن لا يجهد نفسه في كتابة افتتاحية أكتوبر يومياً ولا رحم الله من اخترع “خليك في البيت” قبل وبعد 2011م فصاحب القلم الرشيق والعقل الكبير رغم نحالة جسمه قد سقط في بوابة أكتوبر سابقاً مرتين نتيجة إجهاد “الافتتاحية” والمراجعة الأخيرة للصفحات يومياً وفي نهاية المطاف ركنه “الدنبوع” وقال “خليك في البيت” وإذا ” امتد الثور كثرت السكاكين” أتذكر مقولة للإمام الرازي “اليمن مقبرة العقول” وأحلامه المكبوتة تجاه ما يعمل للمحافظات الجنوبية من الإمارات والسعودية رجع صديقي إلى حضن الوطن.. رتب لعودته أحد أصدقاء اللذان جمعتهما الدراسات العليا. كان يدرس الماجستير وصاحبه يدرس الدكتوراه .. عاد إلى صنعاء الحضن الدافئ لكل اليمنيين فأستقبله بحفاوة معالي الوزير الأستاذ ضيف الله الشامي كتب صديق العمر محمد آخر مقالة بخط يده كما حال الرعيل الأول فطبعها الدكتور وأرسلها لرئيس تحرير “الثورة” الزميل الأستاذ عبدالرحمن الأهنومي عرفت ذلك من مكالمة التأكد مع الدكتور أثناء واجب العزاء.. وكان محمد رحمة الله تغشاه يستعد لإصدار مطبوعة 14 أكتوبر من العاصمة التاريخية صنعاء لكن الأمل طول.. والأجل قطع. وكان الزميل العزيز عبدالرحمن الأهنومي قد خصص له عموداً أسبوعياً في الأخيرة.. تعرفت على شخصيات عديدة أثناء الدفن منهم محافظي عدن وحضرموت وتعرفت عن قرب على الرجل الخلوق الأستاذ ضيف الله الشامي الذي حدثني عنه كثيراً وكان دائم الزيارات للاطمئنان على صحة الزميل سعد في المستشفى.. حدثني عن دماثة أخلاق الوزير الشامي أحد أصدقائه وهو قريب واحد أفراد الأسرة، وكان ينصحني بأن أذهب إليه حينما كان يرأس وكالة الأنباء اليمنية سبأ قبيل تسلمه منصبه الحالي على رأس وزارة الإعلام لكن الظروف لم تكن مواتية والعبد لله لا يريد إحراج أحد..
رحل أخيراً الرجل الوطني والقلم الحر المقاوم لتشظي الوطن وتقسيمه وتقزيمه تحت أجندة ما يسمى بالشرعية والانتقالي وكان رحمه الله يرفض أن تكون اليمن “حلبة” اقتتال لتنفيذ أجندات السعودية والإمارات ومليشياتهما كانت فاجعة لكل من عرفه من داخل المهنة وخارجها لأنه استطاع بعد صيف 94 م أن ينتزع وينفض الغبار عن ملفات ومؤهلات والإرشيف الفني الذي تبعثر ونهب إثر حرب صيف 1994م فأنقذ مستقبل زملائه من العامل إلى الفني إلى صاحب القلم..
وداعاً للصديق العزيز محمد علي سعد فالقلب يحزن والعين تدمع ولا نقول إلا ما يرضي ربنا سبحانه وتعالى إنا لله وإنا إليه راجعون ولا حول ولا قوة إلا بالله تعازينا لأفراد أسرته الكريمة فرداً فرداً..وعصم الله قلوبهم بالصبر..
الشكر لمعالي وزير الإعلام ولكل إنسان من المجلس السياسي ومحافظي المحافظات عدن وحضرموت ومعالي دولة رئيس الوزراء د. عبدالعزيز بن حبتور ولكل الحضور من داخل وخارج المهنة والشكر موصول لأخي وزميلي الأستاذ القدير عبدالرحمن الأهنومي رئيس مجلس الإدارة رئيس تحرير “الثورة” على تفاعله وتخصيص يوم في الأسبوع للزميل محمد علي سعد ليتفيأ يوميات “الثورة” كما علمنا ولا عزاء للشامتين أصحاب الأقلام المأجورة والصحف الصفراء الذين تكالبوا على القلم الرشيق والعلم الراحل..
أخيراً
انبذوا الخلافات المدفوعة والأجر وانظروا إلى الوطن ووحدته وعزته وكرامته
اجعلوا من الكلمة نبراساً لفضح كل أبواق وأبواب الارتزاق فالسعودية والإمارات لا تريدان الخير لليمن.. وانظروا إلى هرولة جهال زايد نحو التطبيع وسدنة نجد والحجاز ومن لف لفهم.
اليوم البدو الرحل يتذكرون زايد حينما كان يأتي وينظر إلى الحالمة عدن ويقول “يارب تجعل من دبي مثل عدن” وهم على أرصفة عدن بائعين متجولين يبحثون عن الفتات في الخيام كي يعيشوا فارتموا في أحضان الصهيونية على حساب قضية العرب الأولى فلسطين.. وتعتبر في نظر كافة الأحرار وشرفاء العالم خيانة وطنية عظمى.

قد يعجبك ايضا