صدرت بعد رحيله :خمسة دواوين جديدة للشاعر الراحل فيصل البريهي

 

منح الشعر عمره، وظل يتدفق بالإبداع حتى آخر لحظة من حياته.
ذلك هو الشاعر الكبير الراحل فيصل عبدالله البريهي الذي رحل قبل عدة شهور..
ورغم فاجعة رحيله إلا أن ما خفف ذلك الوجع هو صدور المجلد الثاني من الأعمال الشعرية الكاملة له والذي صدر بعد وفاته بصنعاء والذي جاء في 550 صفحة من القطع المتوسط وضم في دفتيه خمسة دواوين شعرية من الأعمال الشعرية التي لم تنشر من قبل والتي كان الشاعر الراحل قد أعدها للنشر وهي:
• ديوان “العبور إلى مرافئ الضوء”
• ديوان “على ضفاف الأمنيات”
• ديوان “ومضات هاتفية”
• ديوان “خواطر شعبية”
• ديوان “أجراس القلوب”
وفي هذه الدواوين الشعرية الخمسة يكرس الشاعر الكبير فيصل عبدالله البريهي تجربته الشعرية المتميزة وملامحها الخاصة التي تقدم مساره الشعري وخصائصه الفنية.
كما أن هذه الدواوين تعد إضافة شعرية فارقة في مسار الشاعر والقصيدة اليمنية، وتقدم جوانب جديدة لهذا الشاعر الكبير الذي خاض تجارب متقدمة في كتابة القصيدة عبر شكلها العمودي وتناولت قضايا عالمه وعوالمه بلغة وبأسلوب وبصورة مدهشة ومبدعة ومختلفة عن قصيدة العمود السائدة.
إن هذه الأعمال الشعرية الجديدة ستفتح الباب أمام النقاد لتناول تجربة شاعر كبير متطور ومتجدد منح القصيدة اليمنية آفاقا مشرفة وجديدة.
تجدر الإشارة إلى أن طباعة وصدور هذا المجلد الشعري الأنيق طباعة ومضموناً جاء نتيجة جهود بذلها أصدقاء الشاعر وفي بادرة مشكورة وكريمة تمت طباعته برعاية الشيخ ضياء بن يوسف السامدي الذي تحمل تكاليف طباعة هذا العمل الشعري وإصداره بصورة تليق بالشاعر الكبير وبإبداعه المتميز.. فتحية شكر وتقدير له.
بحار الإبداع
وفي تقديمه لهذا المجلد كتب الشاعر محمد إسماعيل الأبارة قائلا:
تهيبتُ كثيراً حين طلب منى أن أكتب مقدمة للأعمال الكاملة “المجلد الثاني” للشاعر الكبير / فيصل البريهي، والذي يضم خس مجموعات شعرية هي: “العبور إلى مرافئ الضوء”، “على ضفاف الأمنيات”، “ومضات هاتفية”، “الخواطر الشعبية”، “أجراس القلوب”.
وكيف لي أن أكتب عن جبل من نور تجاوزت هالات ضوئه الوطن، إذ حلَّق بالقصيدة الوارفة بالشعرية المتشحة ببروق الدهشة لتنسج بخيوط الألق برود القصيدة العربية متكئة على جدران منيعة من المفردات، التي تحيكها أصابع وجدان يكتنز بحاراً من الإبداع، وجدان يمتطي باقتدار وثراء صهوة البنية الأجد لمداميك القصيدة العربية بكل تجلياتها، وبكل فضاءات ألمها وحنينها، منذ قرابة ثلاثة عقود هي الأوار الزمني لتجربة الشاعر / فيصل البريهي الفريدة:
وحدي أضمد أحزاني بأحزاني
في مهجتي.. والأسى دربي وعنواني
وحدي أعلل أشواقاً مسافرة
في قبضة الريح ألقاها وتلقاني
أطوي مسافات وهمي غير متجهٍ
نحو الحقيقة في آفاق بهتاني
عرفته منذ تسعينيات القرن الماضي، وكنت مثل غيري أزاحم لأقبس فرصة مشاركته في الصباحيات والأمسيات التي ينظمها اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين وبعض المؤسسات التي كانت تعني بالشأن الثقافي، وباقتراب من هذا الشاعر.. ما كنت أتخيل مجرد خيال أن يكون شاعراً بهذا الحجم.
لي مع الشوق موعد حين يأتي
أتهجاك فيه من ذكرياتي
فامنحي الذكريات عمراً جديداً
نتساقى به رحيق الحياة
كيف ألقاك؟! لا التناهيد جفت
من ضلوعي ولا ارتوت أمنياتي
سوف تبقين نشوة تحتسيها
جمر نفسي في لهفة المغريات
ورؤى الفاتنات تجتاح صدري
يتزاحمن في الحشا بالمئات
وعلى عجالة وحتى لا تزاحم هذه المقدمة عقود الضياء التي تزين أعناق الصفحات التي تضم قصائد البريهي أشير إلى أن الشاعر يجوب سماوات الشعر باحترافية عالية حيث يكتب القصيدة العمودية والقصيدة المدورة وقصيدة التفعيلة والقصيدة الشعبية والغنائية باقتدار.
كما أنه يكتب القصيدة الوطنية بوجدان يتفجر حنيناً لوطن أخضر، لا موطئ قدم فيه للظلام والطغيان والبغض والحرب، ويكتب القصيدة العاطفية من محبرة الحب الذي لا ينضب تضوعاً واشتياقاً ولوعة.
لحظك سحر.. أمامي وذات اليمين.
كلامك سحر ورائي وذات الشمال
وحبك من فوق رأسي سماء..
تظللني بالحنان.. وتمطرني بالشجون..!
فأين المفرد؟!!
قد تموت العبارات في كل سطر وتطوى المسافات
ما بين شرق وغرب،
لكن ذكرى الأحبة في مهجتي
لن تموت فقلبي هو المستقر
كما أن في قصائد كائنات جميلة جليلة لا تدمدمها إلا رعود شاعرنا الكبير “الإنسان/الوطن” المرحوم / فيصل البريهي.
في الختام كل الشكر والثناء للشاب الشيخ المسكون بحب الأدب ورعاية الأدباء والمبدعين.. الذي كان له الفضل في أن يرى هذا الديوان النور وهو الأخ / ضياء بن يوسف السامدي.
خواطر هاتفية
وفي تقديمه لديوان “ومضات شعرية” في هذه المجموعة كتب الشاعر الراحل فيصل البريهي:
من المسلم به أن للإنسان في هذه الحياة وشائج متينة مع ما بين يديه من الطبيعة التي هو جزء منها وهو العضو الأبرز في جسدها والأكثر حيوية بما يمتلكه من عقل ومشاعر وأحاسيس تتناغم مع كل مكوناتها الحسية والمعنوية حتى كأنه متحمل على كاهل قلبه هذا الكوكب الذي يعيش عليه بما فيه من أفراح وأحزان وسعادة وتعاسة.. ولأنه من ترابه فإن مشاعره ترتبط ارتباطاً مباشراً بكل ما يصيب هذا التراب من ظمأ وارتواء وجدب وخصوبة.. ومثل ذلك إذا جدبت الأرض جفت القلوب والأرواح من معين الراحة والطمأنينة وإذا جاد الغيث بالمطر وانتعشت خلايا التراب المتظامئة انتعشت أرواح البشر هذا من ناحية ارتباط الإنسان بالطبيعة الأم علاوة على ما يحدث عليها من متغيرات سواء كانت طبيعية أو مصطنعة فإن لها آثارها على النفس البشرية التي منها انبثق الشعراء بمشاعرهم الجياشة وأحاسيسهم المرهفة.. وإن ما يكتبونه من شعر لم يكن إلا انعكاسا روحياً لما ينتج عن أحداث تلك العلاقات الجوهرية بين الإنسان والطبيعة.
وبما أن الشاعر هو واحد من المجتمع الإنساني المتعدد الأطياف والأصوات واللغات، والمتجانس العادات والأعراف المجتمعية، والمتوحد في الإثارات النفسية والغرائز البشرية.. فإنه “أي الشاعر” صاحب النفوذ الأول إلى مكامن تلك المثيرات المتفاعلة الحسية والمعنوية مع كل مداركه.. وإن الشعر وحده هو صاحب الحصانة التي تتمتع بالمرور دون أي تأشيرات أو تصاريح إلى أغوار النفوس وشغاف القلوب بما يلعبه من أدوار جذابة بوسائل وعوامل سهلة ممتنعة في رصد ونقل كل ما يدور بين ما تتنازع عليه النفوس وبين المتنازع عليه.
ومن خلال هذا فإن كل إنسان له شؤونه وصفاته الخاصة به ونوازعه وغرائزه الفطرية المشتركة مع كل أبناء جنسه.. وقد تكفيه بضع سنوات من عمره تكسبه الكثير من مقومات حياته ويبني العديد من علاقاته الشخصية مع من حوله ممن سنح له التعرف بهم من الأصدقاء خاصة في العصر الحديث عصر التفوق العلمي وتقنية المعلومات مما أصبح من السهل على الشخص أن يكوِّن شبكة كبيرة من الصداقات وديمومة التواصل معها أو فيما بينها في وقت قصير.
ومن نتاج هذه الثورة العلمية، ومن رحم شبكة الصداقة جاءت هذه المجموعة الشعرية وبالخصوص من بداية ظهور “الهاتف النقال” الذي تولى نقلها بين العديد من الأصدقاء كتعبيرات وجدانية وانطباعات ودية وغرامية وتهان مناسباتية وانفعالات نفسية وعتابية وغير ذلك مما تمخضت عنه حياة الصداقة والمحبة المخلصة.
ومما يميز هذه المجموعة عن سابقتها أنها لم تأت من تصورات خيالية شاعرية محضة ولكنها أتت عن حياة واقعية التقطت “بكاميراتها الفكر وجدانية” صوراً لبعض المشاهد الدراماتيكية المطلة من على مسرح الحياة بألوانها المختلفة، والذي تسنى لي بعد أن أودعت الكثير منها في أدراج الرياح حفظ ما تبقى منها وتوثيقها وأرشفتها في ملف الذكريات، وقد أخذت منى وقتاً طويلاً وجهدا كبيراً في تنقيحها وترتيبها وإخراجها مرقمة ومبوبة ليسهل على القارئ اختيار ما يريد منها.
من قصائد المجموعة:
في ضيافة الموت
ها هنا كنت شامخاً لا ضعيفا
بعد أن صرت للمنايا حليفا
سوف تبقى في أعين الموت دهراً
فوق ظهر الحياة طوداً منيفا
مت كما شئت فالردى في بلادي
لم يعد مفزعاً لنا أو مخيفا
لم يعد موحشاً هنا أي موت
صار فينا الردى ذلولاً أليفا
أصبح الموت وحده مستضافاً
كل يوم في أرضنا أو مضيفا
كلنا في ضيافة الموت كم ذا
أولمتنا الحروب زاداً خفيفا
كم غمرنا موائد الموت لحماً
ناضجاً أو دماً مراقاً شفيفا
كلما جاع في الثرى بطن لحد
يحتسينا الردى رغيفا.. رغيفا
والسياسات كالفصول الدوامي
يتراءى الشتاء فيها مصيفا
بعدما أزهر الربيع سيأتي
حينما تنضج المنايا خريفا
نقتفي مبدأ السلاح انتهاجاً
مثلما يقتفي الكفيف الكفيفا
في يد البندقية الكل يمضي
في خضم الحياة موجاً عنيفا
ليس يأبى الخنوع والذل إلا
من يعيش الحياة حراً أنيفا
إن غدا الموت للدناءات وكراً
صار وجه الردى شريفاً عفيفا

قد يعجبك ايضا