السودان..مجزرة الجنجويد ومشهد السقوط…دروس الثورة المُستفادة

 

عبدالجبار الحاج

نقطة التحول الكبير في مسار الثورة السلمية في السودان تمثلت تماماً في نجاح الإضراب الأول وزيارات تسفر عن انكشاف مفضوح لدور التحالف (السعوإماراتي- مصري) في مسعى وأد ثورة الشعب السلمية في السودان ..هما أمران عكسا قوة الثورة في الداخل وضعف وهشاشة المجلس في البحث عن قوة في المحيط العربي التآمري تعويضا عن خواء وضعف في الداخل..
فقد مثل نجاح الإضراب العام الأول الذي نفذ يومي الـ 28و29 من مايو وبنسبة نجاح تجاوزت أكثر من 90 % الذي دعت إليه قوى إعلان الحرية والتغيير ضربة قوية في جدار المجلس المنهار أصلا, ما يضع قوى الثورة في موقع القوة الضاربة شعبيا, ويضع الثورة الشعبية في الانتقال بقوة وثقة نحو خطوة التصعيد الثوري القادمة الا وهي خطوة العصيان التي لاشك ستكون ذات قوة هائلة في شل فاعلية مؤسسات النظام.
في مقابل ذلك فإن خطوة المجلس العسكري ( قيادة الثورة المضادة ) في جولتي «حميدتي» نحو السعودية و «برهان» نحو مصر والإمارات قد برهنت على طبيعة المجلس وطبيعة النظام باعتباره نسخة أصلية للبشير, بل هما مع كل المجلس امتداد أصيل للنظام المثار عليه شعبيا, ولم تأت خطوتهما سوى بتأكيد الموقع والموقف وذات الحلف الإقليمي السعودية الإمارات مصر, وأكثر من ذلك التأكيد علنا على استمرار قواتهم الخاصة في الحرب ضد اليمن ، وهكذا فإن جولة العسكر للاستقواء بالتحالف الأمريكي الإسرائيلي قد أصابت المجلس بمقتل الانكشاف والتبعية والولاء للخارج وخسر المجلس ورقته اليتيمة .
ففي الوقت الذي مضى فيه و يمضي المجلس العسكري السوداني في طريق معاد للثورة من خلال سلسلة مواقف عبّر عنها دون أن يترك مجالا للشك او التأويل بقرارات في الداخل وبخطوات نحو الخارج باعتباره امتدادا سياسيا لجبهة الإنقاذ ويعبّر بأكثر من ذي قبل عن جذور وفروع واضحة الاتجاه والموقع في إطار حلفاء أمريكا الإقليميين ويقدم رسالة لمحور أمريكا بأنه على استعداد أن يقدم ما لم يستطع تقديمه السلف البشير..
هذا ما قالته رسالة المجلس في تسارع زياراته لكل من السعودية ومصر والإمارات إلى, ذلك فإن ورقة التفاوض الذي لعب عليه المجلس قد ذهبت في مهب الريح ولم تعد قوى الثورة بحاجة إلى الرهان على هذه الورقة بل غدا أمام الثورة خيار وحيد, إسقاط ورقة التفاوض من الحساب لأنه مبدئيا فإن الثورة لا تفاوض بل تنجز أهدافها على الأرض بعد هذه الزيارة انكشف مستور أهدافها على الفور وأسفرت عن مذبحة الاثنين الدامي.
اللجوء إلى استخدام القوة المفرطة في فض الاحتجاجات والاعتصامات وتجمعات الثوار السلميين هو قرار لا يعكس في أي حال من الأحوال إلا فشل وعجز النظام في البقاء وفي الصمود أمام قوى التغيير وتعبير عن مدى ضعفه وخوائه أمام قوة الشعب الثائر ، فاللجوء الى القوة المفرطة هي آخر الخيارات في محاولة نظام ما للبقاء ما استطاع..
قرار البقاء وتمديد السلطة المنهارة بارتكاب المذابح لإخماد نار الثورة قرار لا يتخذ في الداخل فحسب بل هو قرار إقليمي ودولي. و هو ما عاد به المجلس العسكري من جولته في (السعودية ,الإمارات, مصر )، وفي السودان منذ الأول وأنا أتابع ردود الفعل ألمس نضجا متفاوتا لدى قوى الثورة وقوى التغيير ..
بعد المذبحة ومنذ لحظات من ارتكابها وردود فعل الشارع السوداني وفي محيط المنطقة فإن المجلس فشل في إخماد النار من حيث انه زاد الثورة اشتعالا واتساعا. بات وضع المجلس في خارطة اللعبة ومربعاتها على هيئة لعبة الشطرنج .. «كش ملك .. كش مات».
فماذا بعد مذبحة المجلس في فض الاعتصام.؟!
لا اخطر من لعبة التفاوض مع المجلس العسكري التي انقضى أمرها وفق بيانات قوى التغيير مجتمعة إلا اسطوانة لجنة التحقيق حول المجزرة .. لعبة أخرى خطرة تحاول إعادة قوى الثورة الى دائرة المجلس العسكري وألاعيبه..
بالنسبة لقوى الثورة عليها ان تمضي نحو تصعيدها الثوري وإسقاط المجلس والمجالس ومؤسسات دولة الإخوان القابضة منذ زمن على شمفاصل ومقادير كل البلد وحتى اللحظة لا تزال قائمة وممتدة بالمجلس العسكري كامتداد للنظام المثار .. وهو هذا النظام بعينه وشحمه لحمه مسؤول عن هذه الجريمة وكل الجرائم المرتكبة خلال أكثر من ثلاثة عقود ..
سيكون من باب الغباء والغفلة ان يسقط الثوار في لعبة جديدة اسمها لجنة تحقيق حول المجزرة إذا ما انشغلوا بها فإن وجهتها واحدة لتمييع وتضييع الحقيقة وحصر الجرائم وعزلها عن بعضها البعض, اقصد سلسلة الجرائم الممتدة عبر حقبة الاخوان فلا تنحصر في جريمة واحدة بل هناك مئات الجرائم السياسية والاقتصادية في البلد
بعد فوات الأوان وبعد المجزرة جاءت في نفس اليوم مواقف وبيانات قوى التغيير بإعلان قرار وقف التفاوض .. ولكن للأسف بعد أن استنفد المجلس العسكري واستهلك ووظف كل ما أراد وأخذ كل ما احتاجه من زمن لعبة التفاوض لإعادة ترتيب وضعه واستعادة تموضعه وتموقعه في المنطقة عامة لضمان تأييد الحلفاء خارجيا وفي البلد خاصة لإعادة ترتيب متارسه وعناصره..
في البيان الصادر عن الحزب الشيوعي السوداني الصادر اليوم السابق للمجزرة أي يوم الثاني من يونيو 2019 وذلك قبل قيام المجلس العسكري بتنفيذ خطته بفض الاعتصام بالقوة وارتكاب المجزرة ومن قراءتنا للبيان بما هو قوة رئيسية في خضم الثورة الشعبية, يتضح بجلاء ان الحزب الشيوعي كان قد وصل الى قناعة ان البقاء على مراوحة ومواربة الموقف من التفاوض أمر بات يشكل قوة للمجلس وضعفا للثورة وكأن الحزب الشيوعي بانفراده بهذا البيان اراد ان يقول لشركائه او حلفائه في قوى التغيير ان الثورة لم تعد في الوضع الذي يمكنها إلا ان تخسر لعبة التفاوض لصالح قوى الثورة المضادة في المجلس العسكري الممثل لنظام الجبهة الإسلامية والحليف القوى للحلف الأمريكي الإسرائيلي العربي في السعودية والإمارات ومصر وغيرها ، ثم يأتي موقف حزب الأمة الذي ظل يعبر عن تمسكه بخيار التفاوض ويقف على ضفة مناهضة للصوت الداعي لوقف التفاوض.
لم يكن أمام حزب المهدي إلا ان يساير الموجة فالحزب كان قد أرسل منذ أيام موفدته ابنة المهدي إلى قطر بحثا له عن موطئ قدم في تركيبة سلطة تحاصصية لا يهمه منها سوى كم حصته فذلك من طبيعة الحزب السياسية الذي اعتاد منذ الاستقلال على الأقل في خوض معركته نحو السلطة بعيدا عن قضايا الشعب او بمنأى عنها ..
فاذا كان المجلس العسكري أداة السعودية والإمارات فحزب المهدي يريد نصيبه لا مشاركة وتضحية عن طريق الثورة ولكنه يريد من كعكة الثورة حصته عبر بوابة قطر وهي البوابة التي ترى قطر هي الأخرى بقاءها في السودان من خلال حزب الأمة .. وكلنا يعرف دور قطر المختلف عن دور السعودية .لكنه دور اختراق الثورات وحرفها وإفراغها بأدوات سياسية كما أدت هذا الدور الخطر عام 2011 في اليمن وتونس مثلا واعتقد ان الثورة السودانية وقواها الحية ستتعلم من تجارب فشل ثورات 2011.
بهذا الصورة والمشاهد التي نرى بها وضع الثورة السودانية فإننا نترسم خيار التصعيد الثوري وصولا لانتزاع السلطة الثورية انتزاعا لا تشوبه شائبة اللجان واللجان المشتركة لأن الثورة لا تُحاصص بل تُحقق أهدافها لا غير ، وبهذه المشاهد اعتقد ان وضع المجلس بعد المجزرة بات اضعف أخلاقيا وسياسيا على الصعيدين الوطني والدولي وباتت قوى الثورة الحقيقية في وضع أقوى كثيرا وخاصة اذا ما أحسنت القيادة والثوار وسارعوا في خطى التصعيد وليهيئوا قيادتهم وخطتهم التصعيدية نحو الإضراب الشامل والعصيان وصولا لإعلان سلطتهم الثورية والاستمرار في توجيه الضربات للسلطة ممثلة بمجالسها العسكرية ومؤسساتها العميقة العفنة.
• السودان ودرس الثورة المستفاد
اعتقد واثقا أن الثورة السودانية تحث خطاها بدقة حسابية لا تخطئ موطئ القدم ولا تعدم الوسيلة والسبل الكفيلة بتحقيق الهدف ، ففي السودان على اثر مذبحة الثالث من يونيو التي ارتفع عدد شهدائها حتى اليوم بحسب بيان لجنة الأطباء المركزية الى 118 شهيدا لم ينفلت من يدها من هول الفاجعة الدامية زمام مبادرتها في إحكام قيادة الثورة الشعبية السلمية ولم ينفلت عقالها عن الحكمة الثورية لتطلق العنان للحظة غضب وحزن لتستنجد ببندقية تطلق بارودته لترد فتقع في فخ ملشنة الثورة بداعي الدفاع كما سقطت ثورة اليمن عام 2011 فانتقلت الثورة من مربع الشعب الى مربع المليشيات وتجار الحرب. ومن ثم سقطت كليا في فلك المبادرات وعودة النظام بشقيه الحاكم والمعارض..
قوة الثورة السودانية تكمن في رهانها على عوامل وشروط انتصارها النابعة من:
-اعتمادها على إرادة شعبية تنشد العدالة والوحدة بالتغيير الشامل.
– وتمسكها بخيار سلمي يعطل مفاعل سلاح مليشيا للجنجويد وعصاباته
-بقدرتها الفائقة على تمييز نفسها عن سواها وفضح الخيانات المتسللة من صفوفها من قبل تلك القوى السياسية المخاتلة والمخادعة للشعب بالتسلق عبر تضحياته وبعناوين من نوع المصالحات والحوار ولمشاركة ورفض الإقصاء وعبر هكذا مفردات اغوائية وغوغائية متلهية بأحاديث صيانة السلام وحفظ الدم نحو المحاصصات والنسب في كعكة كل سلطة سابقة قادمة .
أكثر من أربعة عقود من الوحشية العسكرية الاستخباراتية المتوحشة القمعية لم تفت في عضد وقوة النقابات التي قدمت نفسها في هذه الثورة من خلال الإضراب وأظهرت وحدة وصلابة وتنظيما قاهرا بسلاحه السلمي الى جانب شعب السودان المتشابك اللحمة من دارفور الى كردفان الى النوبة من الشمال الى الوسط ، ولم يغب الجنوب السوداني المفصول قسرا او كسرا عن المشهد فقد استحضرته ذات السلطة التي تواطأت في فصله عن جغرافيته وتاريخه وذلك عبر قيامها بتنفيذ حملة اعتقالات لأحد رموزه «عرمان» ..
أمميا أغلقت الصين وروسيا على الإدارة الامبريالية العالمية ذريعة التدخل في السودان من بوابة الأمم المتحدة بفيتو أطاح بمشروع قرار أممي كان يعتزم المضي في تنفيذ مشروعه التدميري لهذا البلد العربي الأفريقي الأصيل ، وأحسن الاتحاد الأفريقي صنعا بقرار يمنع التدخل في الشأن السوداني والأفريقي من قبل حلف عربي أمريكي إسرائيلي يقوده أبناء سعود و نهيان و السيسي الأمريكي ووجهت المنظمة الأفريقية رسالة قوية بدلاتها ومضمونها الرافض للتدخل في الشأن السوداني.. ..
يعكس قرار الاتحاد الأفريقي حالة من التعافي السياسي لقمة جامعة لأكثر من خمسين دولة وبحد معقول ومقبول من التضامن المتوازن ولئن لم يبلغ بعد أعلى ما تريده الشعوب الأفريقية إلا انه في وجهته الراهنة عامة والتفاتته المستعجلة نحو الحالة السودانية يعكس في قراره إرادة تحترم سيادة و إرادة الشعب السوداني وقرار لا يتوانى أمام نوايا التدخل القادم من خارج القارة بالتلميح ان لم يكن بالتصريح ..
حتى لكأننا نقول ان تضحيات هذه القارة من جنوب أفريقيا الى الجزائر مرورا بزمبابوي وانغولا والكونغو وموزمبيق ومن السنغال الى غانا ومن غيرها الى غيرها من دول القارة لم تذهب بعد هدرا .. فهذا الاتحاد في اعتقادنا ‘بأي قدر ومستوى على هذا النحو الذي ظهر فيه في المسألة السودانية هو اتحاد أفريقي مابرح يحمل معه موروثا وإرثا تخجل منه قمته ان تصد عنه بما هو تراث يجتمع فيه باتريس لوممبا وهواري بومدين وعبدالناصر ونيكروما ولعله تراث أفريقي يتلاقى فيه مع ما هو من السودان برصيد نضالي سوداني رواده عبدالخالق محجوب وعلي محمود طه وغيرهم وحتى الطيب صالح..
لكني على هذا الإطراء اللازم والمستحق للمنظمة الأفريقية أقول جازما انه لا يجوز مطلقا لثورة شعبية تخط طريق التغيير الثوري الجذري التعويل او الاتكاء على قرار القارة المتشعبة الجغرافيا وتعقيداتها السياسية بالعكس تماما من ذلك فإن الثورة السودانية لا تراهن على إرادة شعب وعلى انجازات على الأرض ترفع الثورة الى مستوى الانتزاع الكامل للحكم المدني وفق قرار قوى الحرية والتغيير وصنع واقع جديد.
وقولنا بعدم جواز الرهان على العامل الخارجي ليس استهانة بالمنظمة الأفريقية بقدر ما هو استجابة لواقع ومسار الثورة السودانية التي تراهن على إرادة شعب السودان الذي سيقرر وحده مشروعية ثورته.
على الرغم من قرار الاتحاد الأفريقي بتسليم المجلس العسكري الحكم للمدنيين لم تنحرف قوى الثورة وتتهافت وراء توجهات الإقليم بل التزمت بصرامة خط برنامجها في التصعيد الثوري وشرعت تنفذ إضرابها الشامل الذي دشنته يوم الأحد الفائت وحقق نجاحا رغم كل محاولات تعطيله بالاعتقال والإجبار كما حدث في المطار ومع ذلك فقد نجح بنسبة الثمانين في المائة.
لم ترفض قوى الحرية والتغيير الوساطة الأثيوبية لكنها فرضت وأضافت إلى الميدان نقاط قوة جديدة بإضراب شامل .

قد يعجبك ايضا