التاريخ يصنع وعينا (6): أهمية القيادة الجهادية.. الإمام المنصور بالله القاسم بن محمد (ت1029هـ/1620م) نموذجا
حمود عبدالله الأهنومي
ولد الإمام المنصور بالله القاسم بن محمد في بني مديخة (مديرية الشاهل) في 12 صفر 967هـ (13 نوفمبر 1559م)، ونشأ في بيئة جهادية، وأخذ العلم عن شيوخٍ كثيرين، وتنقل في مراكز وهجر العلم المختلفة، ثم ألف المؤلفات الكثيرة، وتتلمذ عليه أبرز أعلام عصره.
خلال ذلك عاش متنقلا بين القرى والمدن اليمنية وهو يشاهد اليمنيين يرزحون تحت الاحتلال التركي، الذي استقطب زعامات يمنية بل وحتى زيدية إلى صفه، بأن أرضى غرورها بمناصب معينة، ووظائف دنيوية، فدانت له بالولاء، وسوقت له المبررات والأعذار، ومثَّلت بذلك أخطر الإعاقات أمام مشروع التحرر الإيماني والوطني الذي قاده الإمام القاسم بن محمد.
لقد توفر عدد من الأسباب والعوامل للثورة على الأتراك في اليمن، منها شدة وطأة العثمانيين على اليمن واحتلالهم له، وانحرافهم الأخلاقي الذي صوره الإمام القاسم نفسه بقوله: «المحارم قد انتهكت، والخمور قد شربت، والذكور قد نكحت، والدماء قد سفكت، والشرور قد كثرت، والفتنة قد عظمت»، بالإضافة إلى ضخامة الأعباء المالية الملقاة على عاتقهم من قبل هذا الاحتلال، حيث كان يجب عليهم أن يصدّروا كميات ضخمة من الذهب إلى العاصمة العثمانية، سوى تكفلهم بنفقات ومرتبات 20 ألف جندي في اليمن، ومنها سوء تصرفات الولاة والأمراء والجنود العثمانيين ضد المواطنين اليمنيين.
كانت تلك العوامل كفيلة بتأجيج روح الثورة في نفوس اليمنيين رغم وجود قياداتٍ مجتمعية ربطت مصالحها الذاتية بالغزاة فروّجت لهم وقاتلت في صفهم، ونفذوا من خلالها إلى التأثير سلبا على المجتمع، وما يقوم به العدو السعودي الأمريكي اليوم من خلال استقطاب بعض العناصر الثقافية والإعلامية والسياسية والعسكرية إلى صفه، والمحسوبة على المجتمع اليمني، ولا سيما على المناطق ذات العمق الاستراتيجي للثورة اليمنية، ليس إلا خطوة مشابهة لما كان يقوم به الغزاة السابقون، لكي يعملوا على تفكيك قوة هذا العمق الذي أقضَّ مضاجع الغزاة على مر التاريخ.
غير أنه إذا كان السابقون قد نجحوا إلى حدٍّ ما في تفادي مكتسبات الثورة ولو إلى حين، بفعل بعض الظروف والعوامل، ورغم ذلك كانت الهزيمة في نهاية المطاف من نصيبهم، إلا أن غزاة اليوم فشلوا في هذا فشلا ذريعا، حيث نرى هذا العمق الاستراتيجي متسلحا بوعي الحساسية الوطنية والثورية والفكرية يتّحِد كله في مواجهتهم، بخلاف عصر الإمام القاسم حيث شهدنا في بداية ثورته تشتتا وتفككا وانقساما في ذلك العمق، وكانت النتيجة إعاقة عملية التحرر عن تحقيق نتائجها في زمن أقصر، وبجهود أقل.
بتراكم المظالم التركية تنامى الوعي الثوري، ليس في شمال اليمن فقط بل حتى في جنوبه، فقد سجّل المؤرخون انتفاضة للقبائل اليمنية في يافع ضد طغيان الأتراك سنة 1006ه/1597م، وفي نفس السنة شبَّ تمرُّدٌ في الحجرية في تعز بقيادة الشيخ علي الشرجبي، وجدير بالذكر أن هذه السنة هي السنة التي أعلن فيها المنصور بالله ثورته، وبويع إماما من قبل العلماء، وكان محل إعلانها منطقة قارة (مديرية قارة) في ريف حجة شمالا.
كان قبل ذلك قد هيّأ الناسَ لهذه الثورة بعملية نفَّذها مع رجلين من حجور في سوق طهننة (السوق القديم) بمديرية (كحلان الشرف) اليوم، وكان ذلك بمثابة استطلاع جريء حرّك المياه الراكدة، وزلزل النفوس المتجلِّطة على حب الأجانب والخضوع لهم، واختبر مدى استجابة الناس لدعوةٍ جهادية مثل هذه، وكانت النتيجة أن طُرِد جنودُ الأتراك وأعوانهم في السوق، ونهبت بنادقهم التي طالما أرهبوا الناس بها وسلبوهم أموالهم.
من المفيد التذكير اليوم بأن اشتغال الإمام المنصور بالله بالعلم والتأليف فيه لم يمنعه من الانغماس في الجانب الجهادي الثوري، وتلمس حاجة الناس إلى التغيير الاجتماعي والسياسي، وكذلك لم تمنعه الثورة ضد الاحتلال التركي والمنتفعين حوله من ممارسة النشاط العلمي والتدريس وتخريج قادة اليمن علما وعملا آنذاك، فقد وصفه العلامة الحسين بن ناصر المهلا بأنه كان «مؤثراً للفقراء، متفقداً للضعفاء، رؤوفاً بالمؤمنين، شفيقاً عليهم؛ وهو في خلال هذا يشن الغارات على الظالمين، وينظر في أمور المسلمين، ومع هذا فلا يفتر عن إرشاد الطالبين، وإحياء علوم الأئمة الهادين، والنظر في حل المشكلات، وفتح المقفلات»، كما أنه من المفيد تذكير الضعفاء المهازيل بأنه لم يظلّ يبحثُ عن التعلات والأعذار السرابية بقصد الفرار من الواجب المحتَّم عليه في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل كسر جدار الصمت المنسدل على كل ربوع اليمن آنذاك، بقوة إيمانه، وعظيم وعيه، وعمق وشمول فهمه لمقاصد الإسلام الكلية.
لقد ضرب الإمام القاسم بن محمد مثالا حيا للحركة الإسلامية في العمل على جبهات ومجالات عديدة، والتحرك في إطارات متنوعة، وواجه صعوبات بالغة هدّدت حياته وأولاده وأهله، لكنه أخلص لقضيته وثابر فيها، وأثمر في نهاية المطاف أن أسّس الخطوات الأولى المهمة والأساسية التي قادت إلى تحرير اليمن من الاحتلال التركي الذي تحقق في عهد ولده الإمام المؤيد بالله محمد بن القاسم سنة 1045هـ/1635م، ثم إلى توحيدها على يد المتوكل على الله إسماعيل بن القاسم (ت 1087هـ/1676م).
ذات مرة هدّده الأتراك بقتل أبنائه المأسورين لديهم، إن لم يعقد معهم صلحا، ويوقف الحرب ضدهم، وكانت الظروف غير ملائمة له من وجهة نظره، فرفض الصلح، ولم يأبه بتهديداتهم قائلا: افعلوا ما بدا لكم، فسلَّم الله، ولما جاءت الظروف المقتضية للتصالح ووقع الصلح رفض الأتراك إطلاق ولده المجاهد العالم الحسن، إلا بشرط أن يتخلى لهم عن مكان صغير في بني مطر غرب صنعاء، لكنه رفض ذلك أيضا لحاجة حركته الثورية له، مع اشتياقه لولده كاشتياق يعقوب لولده يوسف، لكنه ليس أغلى من اشتياق الأم اليمن لتلك المنطقة الصغيرة في بني مطر.
من حسن حظنا اليوم أن هذا الغزو على بلدنا لم يأت إلا ولدينا قيادة قرآنية من أعلام أهل هذا البيت الطاهر عليهم السلام، ممثلة بالسيد القائد عبدالملك بدر الدين الحوثي، الذي زاده الله بسطة في العلم، وباعا في الفهم، وشجاعة في القرار، وميزه عن سواه بالحكمة والسداد، وزانه بالعلم والعمل، وبارك جهوده المتنوعة ووعيه الشامل، في سبيل تحرير اليمن ونهضته، والتي هي اللبنة الأولى لتحرير الأمة ونهضتها، وعزتها، واستقلالها، وكرامتها.
بات كلُّ يمني حرٍّ اليوم ببركة هذه القيادة وتوجيهاتها يشعر أنه يقرأ آيات الله عز وجل فكرا وروحا وواقعا وسلوكا واتجاها وممارسة، وليس مجردَ استظهارٍ لمعارفَ ونظرياتٍ ومعلوماتٍ وأحكام وحالات، لا تمت إلى الواقع بصلة إلا في ما ندر، وفي ما لا تعم به البلوى على هذه الأمة.
أدرك العدو السعودي الأمريكي أن هذه القيادة هي أكبر عامل من عوامل كينونة هذه الأمة، وقوتها، وتوحُّدها، واعتصامها، وسر منعتها، وصمودها وثباتها في وجه عواصفهم العقيمة، وأهدافهم الرجيمة؛ لهذا استنسخوا ما فعله أسلافهم من شراء بعض الزعامات المحسوبة على المجتمع الثائر والمجاهد، فجندوا بعضهم لمواجهة المجتمع بالقتال ضده، وبعضهم بالطعن في مسلَّماته، والتشكيك في قيمه وأفكاره، ومنهم من أُوكِل إليه الإثارةُ الجانبية من الصَّخَب الغوغائي، والضجيج الإعلامي، والفحيح الفكري، للتغطية على جرائم العدوان، وإغراق الناس بمشاكل يومية، معظمها مفتعل، تلهيهم عن الخطر الأعظم، والإجرام الأكبر، والترويج لأفكار عنصرية مقيتة، ليتم على إثر ذلك تفكيكُ المجتمع وعمقه الاستراتيجي، ثم في نهاية الأمر يتم لهم صناعة الإذعان الفكري والنفسي والسلوكي في وعي أبناء المجتمع، ومن خلال ذلك يعبرون إلى أهدافهم التي عجزوا عن تحقيقها عسكريا وأمنيا وماليا طوال السنوات الماضية.
إن أهم أمر يجب أن يدركه هؤلاء الغزاة اليوم أن المجتمع اليمني اليوم في أقوى مراحله التاريخية؛ إذ لم يشهد عمقُه الاستراتيجي هذا التوحّد، والتماسكَ، والالتحامَ، والارتباط القوي بقيادة عظيمة، وحكيمة، على هذا النحو الذي هو عليه اليوم، فكل القادة الثائرين، وأبرزهم الإمام المنصور بالله القاسم بن محمد على عظمتهم ومؤهلاتهم العلمية والقيادية إلا أنهم واجهوا معضلات خطيرة، ونقاط ضعف كبيرة، تمثلت في انكسار هذا العمق المجتمعي، وتفككه، وبروز نتوءات خطيرة، بطموحات شخصية، وأنانية، أتاحت الفرصة للغزاة أن يؤخّروا النصر ولو إلى حين، أما اليوم وبسبب عدد من العوامل، وأهمها انتشارُ الوعي بالمشروع، فيتميز عمقُنا الاستراتيجي بتماسك والتحام ليس له نظير في التاريخ، لا سيما بعد هزيمة مشروع فتنة الثاني من ديسمبر؛ الأمر الذي انعكس وينعكس على أدائه ومخرجاته في مواجهة الغزاة، والتنكيل بهم، والإسراع بإلحاق الهزيمة النكراء والمدوية لهم في أقرب وقت، وأسرعه.
ومن خلال هذا نخلص إلى:
-أهمية القيادة الحكيمة والشجاعة، وأنها نعمة من الله تعالى، على يدها تنتظم أمورُ الجهاد، وتتحقَّق نهضة وعزة وكرامة هذه البلاد.
-وأنه بقدر الاتباع لهذه القيادة الحكيمة، والالتفاف حولها، بالطاعة، والانقياد، والمسارعة إلى العمل بأحسن القول، يكون حجم وسرعة الانتصار وتحقق النهضة الشاملة.
-وضرورة التنبُّه والتيقُّظ والحذر من سموم تلك القيادات والعناصر التي سقطت في كف العدوان، وأخطرها تلك التي تحاول التشويش الجانبي على الثورة تحت عنوان الحياد، وتعيش حالة الثرثرة خارج السياق الجهادي والوطني، من أجل استنزاف مقدّرات العمق الاستراتيجي، بقصد كسره، وتفكيكه، وتطويعه، تمهيدا لتركيعه.
-وأنه كما انتصر شعبنا في تلك المراحل على انقسامه، سينتصر اليوم بأسرع وقت، وأقل كلفة، لوجود القيادة الحكيمة، والالتفاف الشعبي الجهادي الواعي، والاستعداد العالي للتضحية.
(إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُونَ).