بعد خمسين عاما◌ٍ.. مقبرة الشهداء تبالغ في أسرارها


إستطلاع/ معين النجري –

بعد خمسين عاماٍ.. مقبرة الشهداء تبالغ في أسرارها

سلامَ عليكم.. دار قوم مكرمين!!

إستطلاع/ معين النجري

< الزهور تذبل.. لكنها وسيط أمين .. قادر على إيصال رسائل الحب والوفاء بين الأحياء والشهداء < ثمة أضرحة مجهولة.. لشهداء طمست أسماءهم عوامل التعرية دون التفاتة!! < مجهولون في قبورهم .. مجهولون في نضالهم.. مجهولون في وسائل الإعلام!!
< هل لاختيار موقع مقبرة الشهداء أمام بوابة صنعاء الرئيسة (باب اليمن ) دلالة معينة¿
ربما اعتقد صاحب الفكرة أن شهداء سبتمبر سيظلون حراسا لعاصمتهم التي قدموا أرواحهم فداء لها.
وربما جاء الاختيار هكذا بلا تخطيط ولا دلالة لكنها أصبحت شاهدا على فترة زمنية ماتزال مفتوحة حتى الآن ولم تصل بعد إلى ورقتها الأخيرة لتغلق مقبرة الشهداء أبوابها ويفتح اليمن صفحة جديدة لا علاقة لها بالماضي لا بالمدح ولا بالذم إلا من باب التذكير بحقبة زمنية عاشها اليمن تحت نظام له حسناته مثلما له سيئاته وان رجحت كفة عن أخرى ولو بفارق كبير .
لمقبرة الشهداء حكايات ومذكرات كثيرة ربما لم يحن الوقت لقولها وربما لن يحين بعد أن بدأت تفقد أسماءها واحدا بعد آخر دون أن يلتفت لها احد.
مقبرة الشهداء ليست الأسوار الأنيقة والقبور المنظمة فقط, انها أشجان وأسرار وقصص ومواقف وأسماء تروي أحداث نصف قرن من الصراع والسياسة والحرب والنضال والسلام.
على جانبي بوابة الزوار تنتظم صفوف شهداء ثورة سبتمبر المباركة التي قامت في 26 سبتمبر عام 1962م تحت أهداف طموحة وجذابة مايزال الشعب اليمني يتمنى تحقيقها حتى الآن.
على جانبي البوابة جناحان من الشهداء أرادوا أن يطيروا بها إلى المستقبل الذي قاتلوا وقتلوا من اجله , سرايا وكتائب من الشهداء دخلوها فرادا وجماعات منذ ان دشنها أول شهيد بعد قيام الثورة السبتمبرية بأيام لتصبح مأوى أكثر الناس إخلاصا ووطنية وحبا لهذا الوطن.
رغم أن زيارتي لمقبرة الشهداء جاءت بتكليف رسمي لإعداد مادة صحفية عن هذا الشاهد الحقيقي عن حجم التضحيات التي قدمها البعض من اجل اليمن إلا أن التجول بين الأضرحة والتعرف إلى بعض أصحابها قد يخرجك من أجواء المهمة ويفتح في خاطرك عشرات المحاور والأبعاد والأسئلة والإجابات والحقائق, أنها ماتزال تبعث لنا برسائلها حتى الآن علنا نلتمس الطريق الصحيح.

أرقام مجهولة
مثلما لا احد يمكن أن يؤكد لك رقم صحيح لعدد الشهداء وغير الشهداء من سكان هذه المقبرة , لن تستطيع التعرف على الكثير من أضرحة الشهداء خاصة شهداء ثورة سبتمبر التي تحتفي بعيدها الذهبي اليوم, رغم أن شواهد القبور الموحدة في الشكل والهيئة ماتزال منتصبة عند كل الأضرحة دون استثناء ولكن معظمها شواهد لا تحمل أسماء أصحابها رغم أنها نحتت للتعريف بهم وقد خصصت مكانا لأسماء الشهداء.
يقول احد الحراس أن الأسماء كانت مكتوبة على جميع شواهد القبور ولكنها اختفت متأثرة بعوامل التعرية ولم يهتم لها احد, وذلك لأن الأسماء كتبت بمادة الرنج ولم تنحت على الرخام مثلما يحدث الآن أو مثلما نحتت باقي الكلمات على الشاهد . إذ يحمل كل شاهد نحتا على اللوحة الرخام (ضريح المغفور له الشهيد) ثم مستطيل مخصص لاسم الشهيد الخالي تماما من أي نحت ثم (تغمده الله برحمته وأسكنه فسيح جناته).
وهكذا أصبح معظم شهداء ثورة سبتمبر مجهولين في قبورهم مثلما كانوا مجهولون أثناء نضالهم واستشهادهم ومثلما هم مجهولين في وسائل الإعلام وذاكرة الثورة من كتب ومذكرات وصور.
وهنا أتساءل لماذا لم تقم الجهات المشرفة على المقبرة بواجبها لحماية ذاكرتها من الاندثار أو على الأقل حتى يتعرف أبناء وأحفاد الشهداء على أضرحة دويهم , وهل مايزال بالإمكان تلافي هذا التقصير¿ هل هناك خريطة معينة أو وثائق أو كشوفات تحدد القبور وأسماء أصحابها , هل مايزال بالإمكان إعادة ذاكرة ثورة 26 سبتمبر إلى دماغ مقبرة الشهداء¿
وهنا أقول ذاكرة شهداء سبتمبر لأن القائمين على المقبرة تنبهوا إلى هذه الحالة وأصبحوا يشترطون على المقاول الذي يتعهد بتجهيز الأضرحة ضرورة نحت اسم الشهيد على الشاهد ولا يقبل حراس المقبرة أي شاهد مجهول الهوية أو مكتوب اسم الشهيد بمادة الرنج وليس منحوتا بالرخام.
حدث ذلك منذ خمسة عشر عاماٍ فقط ولذلك فإن جميع قبور الشهداء منذ هذا التاريخ تحمل أسماءهم.
لكن هذا لا يعني إن جميع شهداء ثورة سبتمبر مجهولوا الهوية فهناك أضرحة تحمل أسمائها ولكن قليلة جدا مقارنة بباقي الأضرحة بالإضافة إلى قبور الشهداء المعروفين مثل الشهيد محمد محمود الزبيري الذي يتمركز بمقدمة مجموعة كبيرة من الشهداء مجهولي الأضرحة وكأنه يواصل مسيرته النضالية على نفس الخط الذي كان عليه.

لا نريد المزيد
أبواب مقبرة الشهداء مقفلة في وجوه الزوار طوال الأسبوع باستثناء يوم الجمعة فقط لذلك كان علي أن أعود لزيارة المقبرة يوم الجمعة .
المقبرة تفتح أبوابها أمام الاحياء يوماٍ في الأسبوع لكنها مقفلة تماما في وجوه الشهداء منذ أكثر من ثلاث سنوات . لم يعد بإمكانها استقبال المزيد من الجثث , ربما تريد أن تقول لنا كفى قتلا وكفى شهداء , التفتوا إلى البناء والتعمير واتركوا القتل والتدمير لكن يبدو أن رسالتها لم تصل بوضوح فقد استمر الشعب اليمني في تقديم الشهداء والاقتتال لتضطر إلى فتح فرع جديد لها في مكان آخر , هو الآن يستقبل نتائج حماقاتنا ولكننا الآن نتحدث عن أماكن لها علاقة بثورة سبتمبر 1962م .
مقبرة الشهداء الأم التي تضم جثامين عدد كبير من شهداء ثورة سبتمبر وحصار السبعين وعدد كبير أيضاٍ من شهداء اليمن ممن سقطوا في مواقع متعددة على مدى خمسين عاماٍ تقريبا وتضم أضرحة رؤساء ما كان يسمى اليمن الشمالي وعدد من رموز الدولة والشخصيات الكبيرة وقادة عسكريين لم تعد قادرة على استقبال المزيد , فقط مابين خمسة عشر إلى عشرين مكانا مايزال شاغرا وهذه ربما يحتفظون بها لحالات الطوارئ أو لشيء آخر.

انتظار حتى الموت
ما يميز مقبرة الشهداء عن غيرها من المقابر حسن التخطيط والتنظيم , فهي موزعة بدقة إلى حارات وقد خصصت بعضها لشهداء تجمعهم حالة واحدة أو صفة واحدة, فمثلا هناك عند مدخلها من شارع تعز خصصت حارتي اليمين والشمال لشهداء ثورة 26 سبتمبر بينما خصصت حارات أخرى في أقصى المقبرة لشهداء حروب صعدة وهكذا .
بالإضافة إلى التوحيد في حجم القبر ومساحته وشكله ومكونات الضريح وحجم الشاهد إذ تجد معظم الأضرحة متشابهة حد التطابق , فقط قبور المشهورين والزعماء هي التي تتميز عن غيرها سواء بحجم الضريح أو حجم الشاهد أيضا هناك شبك حديدي يحيط ببعض قبور القادة العسكريين أو السياسيين أو الزعماء , مادون ذلك فالموت قد وحد كل شيء , الصفة , والحالة , والتراب, والمكانة والسكون.
الموت هنا هو السيد والباقي ينتظمون بصفوف متراصة وانضباط عجيب ربما اعتاد معظمهم على هذا النظام باعتبارهم كانوا جنودا أو ضباطا أو قادة في الجيش والأمن .

شاهد حي
مقبرة الشهداء شاهد حي على ما قدمه الإنسان اليمني من اجل مستقبل وطنه وستظل كذلك بعد أن دفنت في بطنها الكثير من الأسرار والمعلومات والوقائع التي نجهلها وقد تظل مجهولة إلى الأبد ولكنها ستظل تذكر الأجيال القادمة أن هناك من قدم روحه ونفسه وجسده واسمه فداء لهذا الوطن , قدم كل شيء من اجل هذه الأجيال ومستقبلها الذي كان يؤمن بأنه سيكون أفضل بهذه التضحية.

مشاقر وورد
لا أدري إذا ما كانت أرواح قادرة على التمييز بين أنواع الورد وروائح المشاقر التي تنتظم في محيط الأضرحة أو توضع بإتقان عليها أم لا ¿
وهل تتمتع أرواح الشهداء بمميزات تفتقدها غيرها من أرواح الموتى استنادا إلى الآية الكريمة (لا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاٍ بل أحياء عند ربهم يرزقون).
لكن المشاقر المزروعة على محيط بعض أضرحة الشهداء تبدو أكثر إصراراٍ على إنها تقدم شيئاٍ ما لأرواحهم.
إنها تنظر بشموخ إلى القادمين وكأنها ترحب بهم وتحذرهم من تجاهل تلك الأضرحة أو أن تدوسها أقدامهم .
مشاقر ورياحين مختلفة تحيط بالأضرحة , ربما زرعها محبو أو أصحاب أو أقارب لكن الحراس يهتمون بها باستمرار , إنهم يسقونها كلما عطشت ويحمونها من أيدي المتطفلين وهذا يكفي لتستمر هي بتقديم خدماتها للأضرحة.
لقد كنت اعتقد أن لا أحد يفعل ذلك باليمن , لكنني حين زرت مقبرة الشهداء وجدت عدد لا بأس به من باقات الزهور موضوعة على الأضرحة.
الزهور تذبل لكنها وسيط أمين وقادر على إيصال رسائل الوفاء والإخلاص والحب بين الأحياء والأموات. رحم الله شهداء اليمن في كل زاوية من هذه الأرض الحبيبة على قلوب أبنائها ولنقرأ فاتحة الكتاب على أرواحهم وأرواح موتانا جميعا وأرواح الأنبياء والصالحين والأولياء في كل زمان ومكان.

————
قبر الإمام أحمد…
بين هامشين¿¿

استطلاع/ معين النجري

> أمتار فقط تفصل بين الحياة بأعلى صخبها ونشاطها وبين الموت بأبلغ معانيه .. تفصل بينهما نقابة الأطباء والصيادلة في محاولة لإيجاد شيء من التوازن بين الحياة والموت.
حين تبحث عن قبر الإمام أحمد حميد الدين آخر حكام دولة الأئمة الزيديين في اليمن لن تجد من يدلك عليه بسهولة, ولن يتبادر إلى ذهن احد أو يتوقع المكان الذي يرقد فيه جثمان الإمام أحمد. ربما كان الصحفي إبراهيم الحكيم أول من كتب عن هذا الضريح وحين سألته أكد لي المكان الذي أقصده.
عند بداية شارع جمال الأشهر تجاريا في العاصمة هناك لوحة كتب عليها نقابة الأطباء والصيادلة معلقة أعلى باب صغير يقودك إلى مبنى النقابة ومنها إلى فناء صغير.
في إحدى زواياه يرقد جثمان الإمام أحمد, حين كنت هناك قادني رجل مسن يعمل حارسا للنقابة إلى باب خلفي ليشير إلى الزاوية القريبة من الباب وهو يقول (هنا قبر الإمام أحمد) الحارس الذي قال إنه لا يتذكر حتى اسمه يؤكد بشكل قطعي أن هذا هو قبر الإمام.

أعشاب وخردة
فناء مليء بالأعشاب وشجرة القطب وبقايا خردة , هذا كل ما في الفناء الخلفي للنقابة , حتى الزاوية التي تضم جثمان الإمام أحمد لا تختلف أبدا عن باقي الزوايا الأخرى, لا ضريح ولا شاهد قبر ولا علامة, ولا شيء يدل على أن ثمة أحداٍ قد دفن هنا.
الرجل الذي شارك في حرب التحرير ضد الأتراك في بداية القرن الماضي ونجا من أكثر من محاولة اغتيال وأحبط أكثر من انقلاب وأفشل عدداٍ من المؤامرات للإطاحة بحكمه الذي امتد من عام 1948م حتى عام 1962م بلا ضريح ولا شاهد ولا علامة تميز ملامح المساحة التي خرج بها من الدنيا.
هل كان الأمام أحمد يؤمن بالحديث الشريف (رحم الله قبراٍ لا يعرف)¿ وهل أوصى ورثته بأن لا يبنوا له قبرا¿ أم أن هذا التجاهل والإهمال جاء كتصفية حسابات بأثر رجعي ينفذها المنتصر ضد الخاسر .
لا شيء في تلك المساحة يدل على الحياة , الأعشاب يابسة والأرض مهجورة حتى البيوت المجاورة تفصلها مساحات هوائية غير مبررة وكأنها ماتزال تخشى الاقتراب من رجل كان يهابه الجميع .
رجل حكم اليمن بالحديد والنار حتى المؤرخ لم يذكر له حسنة أو ميزة واحدة إلى درجة تشكك القارئ بحيادية كاتب التاريخ.

أخبار غير مؤكدة
ومع كل هذا التجاهل هناك من يقول إنه تم نقل جثمان الإمام أحمد إلى مكان مجهول ولا أدري إذا كان هناك مكان مجهول أكثر من هذا . وهناك من ينفي هذا الطرح ويؤكد أن الجمهورية عينت حراسة أمنية على القبر لفترة من الزمن .

المسجد النقابة
يفصل بين شارع جمال الأشهر تجاريا ونشاطا وبين قبر الإمام أحمد حميد الدين مبنى شبه متهالك تشغله نقابة الأطباء والصيادلة, حين تمر من خلال هذا المبنى إلى الفناء لا يخطر أبدا في بالك انه مقر لنقابة الأطباء, أنه أشبه بمكان خصص لتجهيز الموتى . ربما هناك علاقة بين الطب بشكل عام وتجهيز الناس للانتقال إلى حياة البرزخ ولذلك اختارت النقابة هذا المبنى مقراٍ لها .
وقبل أن يتساءل البعض لماذا اختار الإمام أو ورثته دفن جثمانه في هذه المساحة سأقول لكم أن مبنى النقابة كان حينها مسجدا صغيرا يسمى جامع الرحمة, وربما أصر الإمام على أن يكون قبره هنا تفاؤلا بالإسم .
حتى أحجار المسجد التي طالما ارتوت بالذكر والدعاء والصلاة والترتيل أفقدتها أمصال الأطباء وحقنهم الدوائية والكلامية ذاكرتها الروحانية تماما .
ومع هذا مايزال الإمام أحمد حميد الدين مصرا على انه مدفون في فناء مسجد الرحمة كما كان يفعل أجداده.
بين حارسين
كنت قبلها قد زرت مبنى بيت الإمام الذي خصص متحفاٍ . وبقدر ما كان حارس قبر الإمام أحمد مسناٍ كان حارس بيته شاباٍ لكنهما متفقان تماماٍ على جهل ما يحرسانه.
ومع هذا كان الدخول لزيارة قبر الإمام أحمد حميد الدين أسهل بكثير من الدخول لزيارة مقبرة الشهداء التي تضم رفات الكثير من شهداء ثورة 26 سبتمبر وما بعدها وكان حارسهما أكثر تفهما من حارس مقبرة الشهداء الذي كان يتحدث إليِ وهو مستلقُ على سريره وأنا خلف باب المقبرة الذي لا يعرف مفتاحه إلا كل جمعة, رغم إن حارس المقبرة يبدو بسيطاٍ جداٍ وقد حاول مساعدتي لكنها الأوامر حسب قوله.

قد يعجبك ايضا