رافقت إعلان التوصل إلى اتفاق بين واشنطن وصنعاء على وقف إطلاق النار بوساطة عمانية، تسريبات أمريكية على لسان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب والناطقة بلسان وزارة الخارجية الأمريكية، تنصّ حرفياً على ما وصفته باستسلام اليمن وأنصار الله، ولم يكن الإعلان العمانيّ عن الطابع الثنائيّ للاتفاق الذي يتوقف بموجبه كل طرف عن مهاجمة الآخر لتبيان أن أمريكا تنسحب من خيار اتخذته قبل سنة وخمسة شهور في 30-12-2023 بتشكيل تحالف الازدهار لحماية السفن الإسرائيلية في البحر الأحمر من قرار الحظر اليمني، بينما لم يتراجع اليمن عن قرار 13-11-2023 بمساندة غزة عبر فرض الحظر على السفن الإسرائيلية ومواصلة استهداف العمق الإسرائيلي.
قيمة الكلام الصادر عن اليمن أنّه حرّك الإعلام ليسأل الأمريكيين عما سوف يفعلونه إذا واصل اليمن حظر السفن الإسرائيلية من عبور البحر الأحمر وواصل استهداف عمق كيان الاحتلال. وهذا ما حدث فقد طرح السؤال على الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، فقال لا أعرف، ثم أضاف الأكيد أنهم لن يهاجموا السفن الأمريكية، لكن السفير الأمريكي لدى الكيان مايكل هاكابي كان أشدّ وضوحاً فردّ على السؤال ذاته بالقول، إن واشنطن لا تحتاج إلى إذن تل أبيب لتعقد اتفاقاً يجنّب سفنها الهجمات، وربط أي موقف أمريكي من الاستهدافات اليمنية عمق الكيان بأن يطال مواطنين أمريكيين.
وضحت الصورة في شقّ نظريّ، وواشنطن تعترف أنّها تخلّت عن قرارها بشنّ الحرب على اليمن، رداً على إجراءاته الموجّهة ضد «إسرائيل» إسناداً لغزة، واليمن يثبت تدخله ضد «إسرائيل» إسناداً لغزة، لكن الصاروخين اليمنيين اللذين استهدفا عمق الكيان مؤخراً، وغياب أي تعليق أمريكي سوى ما قاله السفير الأمريكي لدى الكيان، يؤكد أن ما قاله اليمنيّون هو الصحيح وأن الكلام الأمريكي عن استسلام يمنيّ ليس إلا عملاً دعائياً لتبرير التراجع، بعدما بدأت تنكشف التقارير التي كانت محجوبة إعلامياً عن حجم المخاطر المحيطة بالأسطول الأمريكي مع فشل الدفاعات الجوية المرافقة للأسطول في حمايته وبدء دخول المواجهة مرحلة خطيرة تمثلت بسقوط طائرتين حربيتين أمريكيتين من طراز إف 18 عن سطح الحاملة هاري ترومان واحتمال إصابتها إصابة بالغة وربما تعرّضها للغرق، بينما الكلفة الفنية من إنفاق للذخائر الدقيقة يصعب تعويضها بسهولة، والكلفة المالية تجاوزت المليار دولار وهي إلى ارتفاع، وقد باتت الأمور بين خياري الانسحاب أو الاستعداد لحملة حربية كاملة تمتدّ لسنوات على طريق حرب فيتنام.
عندما تقرّر واشنطن الانسحاب من حرب اليمن التي صمّمتها لحماية «إسرائيل» وردع قوى المقاومة، وتأكيد رفضها لوحدة الساحات، فهي تدرك أن النتيجة ضعف «إسرائيل» من جهة، وصعود في مكانة الردع اليمني الذي تسبّب بإخراج أمريكا من الحرب من جهة ثانية، وتسليم بأن وحدة الساحات تحكم معادلة حرب غزة، حيث اليمن يضغط بقوة عبر الرأي العام الإسرائيلي الغاضب من ذعر الهروب اليوميّ إلى الملاجئ تحت وطأة مواصلة الصواريخ اليمنية بالتساقط فوق رؤوس المستوطنين، والرأي العام الإسرائيلي الضاغط له وجهة واحدة هي إلزام حكومة بنيامين نتنياهو بوقف الحرب.
إذا كان الانسحاب الأمريكي تعبيراً عن غضب أمريكي من «إسرائيل» والضغط على حكومتها لقبول وقف الحرب على غزة، بعدما فشلت محاولات ردع اليمن وظهور الكلفة العالية للحرب والمخاطر الهائلة في احتمالات توسيعها، أو كان الموقف الأمريكي تعبيراً عن الفشل نفسه وخشية المخاطر بذاتها، فإن ما يترتّب على ذلك هو فتح المسار أمام الضغط اليمنيّ على «إسرائيل» باتجاه وقف الحرب على غزة، فإن النتيجة المترتبة على ذلك في الحالتين هي تسريع وتيرة الضغط لصالح وقف الحرب على غزة، وهذا كان أول مطلب لليمن من خوض غمار جبهة الإسناد لغزة.
ربما لم ينل الاتفاق حيزاً يناسب حجمه مقارنة بوقف إطلاق النار على جبهة لبنان أو وقف إطلاق النار في غزة، لكنه في الحقيقة أهم منهما معاً، لأنه يردّ الاعتبار لفكرة وحدة الساحات ومشروع محور المقاومة، بالاعتراف الأمريكي العلني بالعجز عن ردع اليمن الذي يمثل محور المقاومة اليوم ويترجم وحدة الساحات عملياً، من جهة، وبالمسار المترتب على الاعتراف الأمريكي وما نتج عنه من تراجع، وهو مسار الضغط العملي لصالح وقف الحرب على غزة، وهذا جوهر مهام محور المقاومة ووحدة الساحات.
* رئيس تحرير صحيفة البناء اللبنانية