لم تكن سفينة «مادلين» المتجهة إلى غزة مجرد من نافل القول إن إحياء ذكرياتٍ وأيام مَعلمية لها أهمية وحفر عميق راسخ في صميم الوجود والمعتقدِ والمصير لنا كأمة وكهوية وروح وثقافة كيوم الوَلاية وعيد الغدير الأغر، ليس تدبيجا مناسباتيا آنيا لمفاهيم عابرة تمر مرور السحابِ وتتلاشى بمجرد انتهاء مناسبتها الزمنية، وإنما هو إحياء وتكريس لأساسيات عقائدية وجودية أُريد لها أن تُهمَّش وتُغيب بفعل عوامل تاريخية وموضوعية عديدة، ويتعين بحكم الضرورة أن تعود إلى سياقها الطبيعي ويُردَّ إليها اعتبارها، وهذا هو شأن قضية الوَلاية في مضمونها الإلهي الإيماني الراكز وعنوانِها العلوي المرتبط بصميم مصير الأمة وفق محدِّد إلهي نبوي لا لبس فيه تضمَّنه حديثُ الغدير وحادثتُه الواقعين في أوثق وأوضح مواضع يقين الأمة وإجماعها، وإن كان العازفون على النشاز من أبنائها قد تسببوا في ما وقعت فيه من مأزق ومآسٍ ومتاهات مجرورةِ الذيول إلى اليوم بسبب نشوزهم وانحرافهم ذاك الذي قدم أجلَّ خدمة للأعداء، إذْ وجدوا أمامهم الطريق سالكا للنيل منها وتحقيق مطامعهم ومآربهم اللامتناهية والمتوحشة فيها بعد تجريدها من أهم أسلحتها الاستراتيجية المعتَدِّ بها في معتركات خطيرة ومحطات مصيرية كالتي مررنا بها وما زلنا في صراعنا المرير المزمن مع هؤلاء الأعداء.
فبشيء من القراءة الحريصة والمهتمة للواقع والتاريخ وملموسهما الفعلي من الأحداث والتجارب، يَظهر لنا بكل وضوح وجلاء أن عدونا الأخطبوطي اللدود الصهيوني اليهودي العنصري المستكبر الذي يناصبنا كعرب ومسلمين العداء الصريح بل المترجَمَ بالمذابح والمجازر والإبادات والدماء وشتى أشكال العدوان والحروب الخشنة والناعمة..هذا العدو يرى بالخصوص في نموذج ونهج الإمام علي (ع) – الذي هو تجسيد للإسلام المحمدي القرآني الإلهي الأصيل – أخطرَ أعدائه وألدَّهم، وهو يَحتمل ويُطيق أن يُهزم أمام أتباعه عسكريا في حروب هو، عمليا، من يوقد نيرانها على الدوام، لكنه لا يطيق أبدا أن ينجحوا في تجسيد ذلك النموذج المضيئ في شكل مشروع حضاري نهضوي متكامل على الأرض يلمس الناسُ ثماره وخيراته في العدل والبناء للحياة الكريمة والتآخي والتراحم والتلاحم بين كل مكونات مجتمعهم ، فهذا – في نظر هذا العدو الخطير اللئيم – يعني هزيمته الأشد والأقسى والتي ستسقطه أرضا في كل جبهات الصراع وليس فقط في الجبهة العسكرية كما هو الوضع حاليا ، وهذا ما يعمل العدو بكل وسعه لاستدامته قدر الإمكان كوسيلة للإشغال والحيلولة دون القيام الكامل المتكامل لذلك المشروع الذي سيُنهض الأمة بكاملها – لو نجح – من كبوتها ويعيد إليها كرامتها وحقوقها المسلوبة، وهذا أخشى ما يخشاه عدونا ويدأب بكل مكره وخبثه وإمكاناته لتفاديه والحيلولة دونه .
وهذا يعني بالضرورة أننا عندما نسعى ونجدُّ في البناء الداخلي، وأولُ مقتضياته إرساءُ موازين العدالة وتداركُ مكامن الخلل في كل المجالات والمرافق والمؤسسات والمحاربةُ التي لاهوادة فيها لكل الفاسدين والمفسدين خصوصا أولئك المتمرسين في التلون وارتداء اللبوس والأقنعة والذين أثبتت التجارب والواقع الملموس أن لا خير فيهم للبلاد والعباد، والسيرُ في هذا الاتجاه على نحو يتيح تغييرا جديا ملموسا نحو الأفضل ويثمر نهوضا حضاريا حقيقيا في كل المجالات، وبنفس مستوى ووتيرة سيرنا في عملية الإسناد المشرِّف لأهلنا في غزة ودفاعنا عن أمتنا وبلدنا العزيز في مواجهة العدو الصهيوني الأمريكي ومن معه..وبذا نقصِّر المسافةَ أكثر نحو النصر النهائي المتكامل والحاسم على هذا العدو ووضعِ حد لشروره وطغيانه وإجرامه وتخليص البشرية من كابوسه البغيض، ولْيكن لسان حالنا حقا وفعلا هو «كما جسَّدنا علياً في ذي فِقاره، سنجسده في عدالته»، وهذا ما نحسب أنه المصداقُ العملي الأهم والتجلي الأقوى لجوهر «الولاية» ومضمونها الإلهي المحمدي العلوي الإيماني الحضاري القويم والسديد والمحكم..