يبدو أن سؤال الوحدة اليمنية بدأ يطرأ من جديد في واقعنا السياسي، حيث بدأت الأطراف السياسية تعيد طرحه، لكن هذه المرة بقوة غير مسبوقة طوال سنوات الصراع التي شهدتها اليمن، حيث كانت أفكار الانفصال هي الحاضرة، وخاض دعاة الانفصال تجربة -على مدى عقد من الزمان – حرية الحكم في المحافظات الجنوبية، ومارسوا كل أنواع التفكيك والتهجير والتبغيض، وصدروا مشاعر الكراهية الوطنية، وفشلوا كل الفشل في تقديم نموذج يحقق أهدافهم في إعلان دولتهم التي يدعونها .
طوال عقد من الزمان أصبح الجنوب في حكم الدولة المنفصلة التي لا ترتبط بصنعاء من قريب ولا من بعيد, وتوفر لقوى الانفصال الدعم اللازم من دول الخليج، لكنهم فشلوا في إدارة الدولة، وفي تقديم النموذج الذي يكرس مشروعهم الانفصالي في وجدان الجماهير التي خرجت في المحافظات الجنوبية اليوم رافعة علم الوحدة، ورافعة حناجرها شعارات منددة بمشروع الانفصال، وتحمل عبارات الحنين إلى الدولة التي غابت كل الغياب في الجنوب، فلا هناك خدمات، رغم الأموال التي تتدفق اليهم من دول الجوار ورغم المساعدات الإنسانية الأممية، ورغم الاعتراف الدولي، إلا أنهم كانوا من العجز والفشل في المكان الذي جعلهم يرسمون صورة غير مستقرة من الانهيار والانتهازية والفشل والعجز، فالأمن أصبح مفقودا، والإنسان في عدن لا يأمن على نفسه ولا على سربه، والحياة في الجنوب أصبحت كجحيم لا يُطاق، وكل جماعة أو طُغمة تمارس غريزة الوحوش في الغابات، فالقتل يتم في الشوارع والحارات والأزقة، والجوع يفتك بالكل دون استثناء عدا ” عيال القرية ” الذين يمتصون دماء الجائعين على أرصفة الحاجة في الشوارع، وعلى قوارع الطرق في القرى والتجمعات السكانية النائية .
المحافظات الجنوبية كلها تعيش على برامج المساعدات الإنسانية العالمية والعربية وقدرة الإنسان في الجنوب على الإنتاج أصبحت محصورة في زوايا ضيقة، وبرز هناك صراع الطبقات، وهذا الصراع هو نفسه الذي سوف يعمل على عدم استقرار الجنوب في قابل الأيام، وهو نفسه من يجعل عودة الدولة الواحدة في الجنوب من سابع المستحيلات، فالدولة التي عرفها الإنسان قبل 22مايو 1990م، لن تعود إلا بصورة مجزأة وغير مستقرة، والغالب ستكون هناك عدد من الدول، فوَعْيُ القرية للانتقالي لن يستعيد الدولة الموحدة التي كانت قبل الوحدة، وهذا أمر تدركه النخب الثقافية والسياسية من خلال معطيات الواقع الاجتماعي والسياسي اليوم ومن خلال عوامل مكونات الدولة التي مرت في تاريخ المحافظات الجنوبية .
في الشمال دولة محاصرة براً وجواً وبحراً وتخوض معركة وجود مع قوى الشر العالمي ومع التحالف العربي، وعلاقاتها الدولية غائبة كليا، ونشاط برامج المساعدات الإنسانية العالمية توقف منذ سنوات، والإنسان فيها يكابد الجوع ويصارع أسباب وجوده في الحياة، وبرغم ذلك كله فقد استطاعت الدولة في صنعاء توفير الأمن النفسي والاجتماعي، وتوفير الخدمات، ويجد المظلوم فيها من يصغي إلى أنينه وآهاته ومن يحاول أن ينصفه، كما أن مظاهر الحياة – رغم الغارات المكثفة وتدمير مقدرات الحياة والاقتصاد – ما تزال قائمة في حدود الممكن والمتاح، كما استطاع الإنسان في الشمال أن يقدم نموذجا في الدفاع عن القضايا العادلة كقضية فلسطين، وأن يحقق معادلة ردع جديدة، ويكسر أطر الصورة النمطية لقوى الشر العالمي، فالتضحيات التي قدمتها صنعاء كانت جديرة بتقدير واحترام كل شرفاء العالم وأحراره، فالفضائل والدفاع عن إنسانية الإنسان تجعل العالم من حولك يكن لك التقدير وإن أجبرته الضغوط السياسية على قول ما يجانف الحقيقة، لكن في كوامن النفس يكون التقدير وهو من يفرض وجودك في خارطة الحياة، وهذا مسار تاريخي لكل الأحرار والشرفاء الذين يقفون موقف الشرف والبطولة في مواجهة الصلف والطغيان، أما الخونة في مسار التاريخ فمصيرهم واضح تنفر منهم النفوس، ولا يحظون بتقدير أحد، ووجودهم في خارطة الحياة يصبح عدما، ونماذجهم تملأ صفحات التاريخ، فابن العلقمي الذي باع الدولة الإسلامية إلى هولاكو في مقابل وعد بالسلطة رفضه هولاكو بعد أن تمكن من تدمير بغداد ونفاه، ومثله كثر في كتب التاريخ فمن باع وطنه يرخص ثمنه مهما شعر بالقيمة وقت البيع .
ما لفت نظري في الاحتفاء بالعيد الخامس والثلاثين في مختلف الفضائيات التي تمثل تعبيرات سياسية مختلفة هو التعامل مع التاريخ كما هو دون وعي التزييف والتضليل، وهذا أمر مستحسن وبادرة دالة على تقدم في الوعي، فالتاريخ حين يصبح مادة للتضليل تكون عواقبه غير محمودة، ومعظم مشاكل اليمن تكمن في العامل التاريخي الذي يعيد تكرار نفسه في الحياة دون القدرة على السيطرة على مقاليده من خلال القراءة الجدلية والعادلة والمنطقية له، لذلك يتكرر بصورة عبثية دون تصحيح للمسار، ولعل أصدق عبارة وردت في مجمل الخطابات التي قيلت من قبل فرقاء العمل السياسي اليمني هي قول رئيس المجلس السياسي الأعلى مهدي المشاط: “إن الأخطاء لا يمكن أن تعالج بالتقسيم والانفصال بل بالإنصاف والعدل والإصلاح، وبما يضمن الحقوق والمشاركة العادلة لكل اليمنين ” وقال .. أن الرهان على الخارج طريق الدمار والخذلان، والتمسك بخيار الشعب هو الطريق الآمن إلى المستقبل الأمثل ” وربما قالت تموجات الأحداث مثل تلك الحقائق للناس لكنهم قوم لا يفكرون.
المتأمل في مضامين الخطابات كلها التي قيلت بمناسبة عيد الوحدة يجد خطاب رئيس المجلس السياسي مهدي المشاط هو الخطاب الأمثل من حيث الحرص على وحدة اليمن وحريته واستقلاله، ومن حيث الحرص على توحيد الصف وترك التنازع، والتأكيد على مبادئ العدل، وخيار الشعب، والإصلاح، والحقوق، والمشاركة العادلة، وما دون ذلك كانت خطابات للمزايدة السياسية ليس أكثر من ذلك .
ليكن خطاب رئيس المجلس السياسي هو النواة التي تؤسس لمرحلة جديدة وفي ذلك بيان للشرفاء وأحرار اليمن إذا أرادوا إصلاحاً لهذا الوطن .