
حميد ركاطة ـ المغرب –
تبرز هوية المجموعة ” لست أنا ” كقصص” تجنيسا فضفاضا يجمع بين طياته قصص قصيرة وقصص قصيرة جدا واقاصيص” 10″ بعضها مرموز لعناوينه بأحرف أبجدية ( أ ب ج ..) مندرجة تحت عنوان رئيسي ( جريمة ) إضافة إلى نصوص عبارة عن ” رسائل ” عددها لا يتعدى سبعة نصوص من ص 31 إلى ص 35 في حين رقمت عتبات نصوص أخرى ك ” شكوى ( 1)” ص 25 و “زارع الورد 17 ” ص 45 وهروب زعيم ميت 17 ص 46 وأقاصيص 19 ص 67 .
وتجدر الاشارة إلى أن المجموعة تضم نصوصا مختلفة من حيت الطول والحجم لكنها موشحة بعناوين خاصة أو رامزة كنص ” ب” ص 71 . تحت العتبة ” شقلبان ” ص 71
وإذا كان التجنيس داخل مجموعة ” لست أنا ” للقاص اليمني زيد صالح الفقيه يبرز فضفاضا وموسوما ب” قصص ” فإن طبيعة النصوص في نظرنا هي التي فرضت ذلك كإكراه خاص وصعوبة في تحديد الهوية الخاصة لها كتجنيس دقيق لكن انتماؤها لحقل السرديات سيظل هو المحدد لأن المغامرة في تجنيس خاص أمر فيه مجازفة كبيرة . كما أنه لن ينزع عنها قصصيتها .
وبغض النظر عن التجنيس فإن المجموعة رغم قصر حجمها فإنها كشفت عن تنوع كبير واشتغال ارتكز في مجمله على كتابة منفتحة بما تضمنته من مفارقة وسخرية ورمزية وتناص وتوظيف ميتاسردي وعجائبي ومتقابلات ضدية واستيراد لغوي من حقل دلالي لآخر ولفن التراسل . وهي كتابة عملت جاهدت على انتقاد الواقع السياسي والتناحر القبلي والاستبداد السلطوي والانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان كما أنها ناقشت مفاهيم عديدة من قبيل الحب والموت والحرية والإعجاب والإطراء وصورة المرأة بين الجوهر والمظهر والجنس والتناحر و الأطفال في وضعية الحرب ومنظومة القيم . وهو ما حقق لها تنوعا أبرز مواقف مختلفة وقدم صورة عن واقع الحياة باليمن . لنتساءل عن أسس ومرتكزات هذا العمل وعن الخلفيات الفنية والإبداعية التي تم الاشتغال عليها .
1) الواقع اليمني بين الاستبداد والتناحر القبلي
تقدم المجموعة صورة من الواقع السياسي باليمن حسب نص ” واقع ” ص 69 الذي يكشف فظاعة الحكم العسكري الذي بقدر ما يعمل على ترسيخ وجوده بالقوة يسحق معارضيه تحت أحذية جنوده الثقيلة فمهما بلغ اعتداد المواطن بنفسه يجد نفسه في النهاية فاقدا لهويته يقول السارد ” نزع هويته رفعها إلى مستوى بصره سحبتها (العاصفة) قبل أن يتأمل ملامحها ..لتضعها على رقعة الإسفلت حين انحنى لأخذها داهمته طوابير العسكر بكل تشكيلاتها وهي تعد لاحتفال وطني ” .
فالاستبداد يفرض منطق التبعية ويكرس العبودية بدل الحرية فالمسيطر يحافظ على ثبات الوضع القائم دوما لخدمة مصالحه º ليظل المستعبد مسلما بالأمر الواقع وحتى في حالة ثورته ضد الأسس المكرسة لعبوديته فإن انتفاضته تقابل بمناورة ودهاء يقول سارد نص ” تعالي ” ص 21 ” اعتاد “سين ” أن يستعبد ” ق ” وحين ثار ” ق” على ” س” أراد أن يصور له أن الأرض مسطحة ولن تتكور إلا إذا ظل الوضع على ما كان عليه قبل الثورة ” . فمنطق المستبد لا يعدو أن يكون مجرد حزمة من المبررات الواهية تتحول بفعل القوة والقهر إلى مسلمة يصعب التخلص منها ومن تبعاتها .
ويبرز نص ” أمشاج” ص 20 مضمرات عديدة لصراع بين الجلي والخفي في طبيعة العلاقة التي تربط أفراد القبيلة علاقة باطنها المقت والصراع وظاهرها المحاباة والمجاملة . وهو ما يعكس نفاقا كبيرا فاجتماع ” أمشاج ” القبيلة على الوليمة عكس رغبة في استئثار كل منهم بأكبر قدر ممكن منها وعرى عن صراع يظهر من خلال تواشج السواعد وهو أمر لا تحظى به القبيلة ولا يسعد به أفرادها في أيامهم العادية إطفاء للجوع . كما سيبرز تقاعسهم بعد انتهائها بتمترسهم حسب السارد ” خلف أمشاجهم..” في دلالة على العودة إلى سابق عهدهم في التربص والمراقبة الحذرة الملفوفة بالشك من الآخر مع ما يرافق ذلك من حيطة وجذر ” كل يريد أن يصطاد مشج الآخر ” ص 20
فنص ” أمشاج ” هو كشف عن واقع الصراع القبلي باليمن عن طبيعة فرقائه المتناحرين عبر تاريخ دام ما تفتأ أن تلتئم أواصره إلا وتتعرض للنسف بسبب تضارب المصالح الشخصية أو بسبب الانتماء القبلي والعرقي ذاته .
في حين ستكشف مجموعة من النصوص منضوية تحت عنوان رئيسي ” جريمة ” ص 23 عن الخيانة والانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان كغباء الشرطي في نص ” أ” في إشارة إلى نظامه وعن الجرائم المرتكبة في المعتقلات والسجون في نص ” ب” من خلال ما يمارس من تعذيب في حق نزلائه يقول السارد ” دخل المتهم إلى السجن بقدميه ..خرج منه بقدم واحدة ..” . وقد تم البناء على شاكلة النص الأول وباعتماد نفس التقنيات والإيحاءات للكشف عن فظاعة التعذيب رغم أن السجين مجرد متهم والمتهم بريء حتى تثبت إدانته وهو ما يؤشر على غياب ديمقراطية وعدل ومساواة . في حين ينطوي نص ” ج” عن جريمة أخرى على مستوى عال بين المستعمر( بكسر الميم ) والمستعمر ( بفتح الميم الثانية) وما تؤل إليه الأوضاع بعد الاحتلال . فالشرطي رمز للنظام الحاكم والرجل ذو العينين الزرقاوين ” رمز للغرب الذي تمرِس على نهب خيرات الشعوب الفقيرة والرحيل عن أوطانها بعد استنزافها لعقود طويلة . يقول السارد ” (…) لاعب الشرطي لعبة ربط العينين وبعد أن أحكم ربط عينيه قال :
سأحرس الناقة بدلاٍ عنك حتى تعد إلى المليون .
حين فرغ الشرطي من العد خلع ربطة عينيه وجد في مكان الناقة دجاجة ” ص 23 24
2) المفارقة والسخرية في لست أنا
نلمس أن القصص القصيرة جداٍ في هذه المجموعة بقدر ما ترتكز مفارقاتها على ابراز السخرية من الواقع ومن أفراده تعمل جاهدة على الكشف عن المحظور وتعرية النوايا والقبح . وهي تضع منظومة القيم محط تساؤل . في نص ” جنين ” ص 15 بقدر ما نكتشف زيف البطلة وأقنعتها وهي لا ترى في عشيقها سوى ” الانتفاع المادي ” تواجهه باللامبالاة وبالصد وستعمل على التفكير عن تصرفها البغيض في حقه بتوريطه في حمل سفاح لإبقائه تحت رحمتها يقول السارد ” كانت لا تطيقه لا تتحدث معه ألا لمماٍ لكنها تنتفع منه ..وحين قررت أن تمحو جريمتها به أرادت أن تمكنه من نفسها ”
فالنص يقدم نهاية مفتوحة على تأويل رهيب لا يستقيم معناه المضمر إلا بربطه بالعتبة ” جنين” في إحالته على الحمل السفاح وهو ما يحيل على جريمة مجاسدة على قدر كبير من الدهاء لإطالة أمد الاستفادة المادية وإطالة أمد الابتزاز الممنهج .
فالبناء المفارق سنلمسه في نصوص أخرى ولعلها أسس اشتغال المجموعة كما في النصوص المنضوية تحت عنوان رئيسي ” أقاصيص 19″ .
ففي نص ” وردة ” ص 67 سيرفض البطل إهداء وردة لجميلات المدينة وبالتالي قدمها ل” مجنون بشعره المجعد وثيابه الممزقة المتسخة ” وهي إحالة على حب العطاء والإحساس بالمسحوقين أمر نستشفه من إحساس البطل الذي ” انصرف منشرح السريرة وسط ذهول صديقه ” ص 68
وإذا كانت الوردة في النص الأول تمنح السعادة لواهبها فإنها في نص ” إعجاب ” ص 69 ستبرز عكس ذلك وستكشف غيرة المرأة منها وتوقها للإعجاب والإطراء والمديح والتلميح . فبطلة النص بعد استنشاقها لعطر الوردة القت بها على الأرض وقد تأففت منها وهي بحضرة مجموعة من المدعويين في حفل خيري ولما هم أحدهم بالتقاطها نهره صديقه قائلا ” اتترك وردة السماء لتنحني لوردة الأرض ” وهي الجملة السحرية التي كشفت عن مشاعر الأنثى وغيرتها واعتدادها بنفسها كوردة أجدر بالاهتمام حسب ما برز من رد فعلها ” تبسمت ضاحكة وانصرفت ” ص 69 .
فالمفارقة ستكون بألوان الطيف وستتخذ لها محاولات بناء مختلفة في إحالتها الجنسية الدالة على المجاسدة مثلا كما في نص “رغبة ” ص 16 بلغتها الشفافة والدقيقة وبرشاقتها التي تنتصر فيها الصورة الشعرية على المعنى وهو ما يعكس نوعا من شاعرية البناء المفارق الذي يربط بين التوتر الحدثي وتداعي الصورة الفنية الدالة على العلاقة الجسدية بل على الهتك الأول والالتحام الحقيقي. ولعل التوسل بقاموس لغوي رامز هو ما منح النص هالته من قبيل ( طعن / أرنبة / شق / لذة ..) وأبرز استبدالا واستيرادا لغويا من حقول أخرى وظفت داخل سياق جديد لبناء معنى مغاير للمعتاد وهو ما أكسب النص جرأة عالية وقدرة على البوح يقول السارد ” بعد أن طعنت تلك ( الأرنبة ) المختفية في أعلى الشق المظلم وسال دمها على ضفتيه أخذتني الرأفة لكنها دعتني لمزيد من تلك الطعنات ..اللذيذة ” ص 16
3) السخرية والتوظيف الميتاسردي
تتجلى السخرية في أغلب نصوص المجموعة لكنها شيدت على مفارقة وتناص في بعض النصوص بالإضافة إلى لعب ميتاسردي عمل على تكسير خطية السرد وأبرز تداخل صوت أكثر من طرف داخل مضمار اللعب السردي ومنها صوت الكاتب الذي تنكشف ملامح تدخله أكثر من مرة في ثلاث نصوص ” شكوى ” ص 25 “و ” عودة حماير ” ص 36 و” سيرة ذاتية لحذائي ” ص 61 .
في النص الأول تتجلى ملامح السخرية من خلال الرسالة التي كتبها أحد الشخوص إلى منظمة وصفها ب ” منظمة حقوق الانسان في العالم الأول والرفق بالحيوان في العالم الثالث ” ص 25 وهو تلميح يتضمن تصريحا مبدئيا وأوليا بعدم مصداقية المنظمة وممارستها للتمييز العنصري بين الشعوب والدول. وسيكشف الحوار عن شخص “الزوجة حورية ” الأمية التي كانت أقرب بحدسها إلى الواقعية وإلى فهمه بعمق حسب ما تجلى من تدخلاتها المتكررة وأسئلتها القلقة يقول السارد ” هيا أيش قصدك بحيوان العالم الثالث ¿ ” ص26 ” من تقصد بالرجل البدين والحكومة ¿ ” ص 26 ومن خلال نقاشها الذي برز نديا لزوجها عبر إجابات دقيقة وتعليلات دالة ” المجتمع الدولي أعرف بحالتك منك ” ص 27 وانتقادها الساخر لخطابه ” أنتم الرجال نحن سنسؤس ديمقراطية حقة وإلا نسيت الملكة بلقيس مش مثل “جملكية ” العالم الثالث حقكم ” ص 28 وكذلك بعد نظرها وفهمها لواقعها وأزماته يقول السارد ” والله إن اقتراحك سيضاف إلى آلاف الاقتراحات التي وضعتها في كل الانتخابات طوال حياتك ولم يتحقق منها شيء ” ص 29 فآراؤها بقدر ما استمت بالحسم اكتست واقعية ” أيوه ولكنك استفزيتني بتفاؤلك هذا الذي تعتقد أن العالم سيحقق لك ما لم تحققه لنفسك ” ص 29
فحورية هي صوت الأغلبية الصامتة من الشعب رغم أميتها استطاعت أن تكشف عن خيوط اللعبة السياسية العالمية وعن أسباب فشل كل تنمية محلية يضع أسهها الحالمون فقط من الأغبياء على الورق .
فالنص بارتكازه على الاشتغال الميتاسردي عمل على مناورة القارئ ‘ فحورية” في الواقع ما هي إلا وعي الكاتب الباطن ومشاعره الحقيقية الصادقة المناقضة لتصرفاته الناتجة عن إحباطات حاضر بائس يقول السارد ” الله ..الله ..الله ..زوجتي اليوم عالمة بالديمقراطيات الناشئة خيرة الله عليش أرقدي خليني أكمل قراءة شكوى المواطن المسكين وإلا سوف أطلقك من القصة ” ص 28
وهذا الاشتغال سنجده كذلك في نص ” عودة حماير ” ص 36 من خلال استمرار دور حورية وصوتها الكاشف عن زيف الادعاء وبناء الأحداث وتلفيقها على الورق من خلال إشارتها إلى تناقض السارد حول مكان السهرة الباذخة وتواجد النساء بملابسهن الشفافة ” إلى جانب عضوات الوفد يقول السارد ” هذه كذبة منك كيف بيت بدائي ولمبة قاز وتقول أن النسوة يجلسن إلى جوار الرجال عريانات ما تركبش ” ص 37 وكذلك مقاطعتها لأحداث القصة ” ليش ما وسط لوش وساطة قوية ¿ دبلوماسية أو سياسية ..حتى لو وسط بل كلينتون نفسه ¿ ” ص 38
فالسخرية السوداء تبرز بقوة محملة بدلالات رامزة ومن خلال كتابة سير ذاتية كما في نص ” سيرة ذاتية لحذائي ” ص 61 . وهي سخرية في الاساس من الحكم العسكري بتحول الحذاء نفسه إلى ديكتاتور متسلط ” أسير بزهوُ كالديناصور من شدة غروري وغبطتي بنفسي ” ص 61
فحيثيات النص تكشف العديد من الاشارات الدالة على استمراره في الحكم ” ولم استطع ومعي الجماهير تغييره أو صنع غيره رغم أنه كان قد عفى عليه الزمن ومزقته السنون ” ص 62 .
فالحكم العسكري ظل على الدوام متورطا في جبهات عديدة : خارجية : كأفغانستان ضد المعسكر الشرقي وأرو باء الشرقية وداخليا بقمع المظاهرات المحلية ” حينما تعجز قوات الأمن والشرطة والقوات الخاصة عن صد المظاهرات الموجهة من قبل الاشتراكية والامبريالية العالميتين ” ص 62 وهو ما يجعل تشكله الفظيع بدون هوية أو ميزة خاصة سوى الاستبداد . فمنطق الحاكم العسكري ومزاجه هو منطق متقلب لا يعرف سوى لغة القمع كما أنه ارتجاليا في “(سياسته) ” و”( مخططاته )” و( تسييره ) … يقول السارد ” ومن سيرة حذائي النضالية أنه كان متقلب المزاج متغير الحالات ” ص 63 وهو ما ينعكس في سوء تدبيره للموارد البشرية والطاقات المحلية الفاعلة يقول السارد ” أضع متخرج السياسة في وزارة النقل وتوزع متخرج القانون في وزارة المالية وتوزع متخرج ( ..) في البلدية ” ص 65 .
فسيرة ذاتية لحذائي ” هي في الواقع سيرة الحاكم العسكري المستبد المتحكم في البلد بقوة الحديد والنار لخدمة مصالحه واستمرار خلوده في السلطة .
ويكشف نص” هروب زعيم ميت ” ص 46 أن الاشتغال فيه تم على أكثر من صعيد : كالتناص القرآني الذي برز في الاستهلال ” إذا الشمس كورت ..” ص 46 ثم فن الخطابة ” فأما بعد فقد كان من رجالات الدولة كما هو معهود عند بقية الزعماء ” ص 46 والبناء العجائبي ( والغرائبي ) من خلال رصد حياة الزعيم بعد موته مع ما يتضمنه الموقف من سخرية دالة على الإصرار على الخلود يقول السارد ” مرت الساعات وصلت إلى ( 24) استيقظ الأب في قبره ” ص 49 . وكذلك من خلال التهكم من طبيعة الحكم الوراثي وعدم امتثال الوريث لبعض المراسيم التي لها رمزيتها الخاصة كطقس العزاء واستقبال المعزين يقول السارد ” تهامس …بعض الخبثاء من المعزين عن سبب غيابه ” ص 48 مضيفا ” انتهت مراسم الدفن واستلام العزاء وعاد الزعماء إلى مقار إقامتهم ” ص 48 .
فالزعيم رغم عودته للحياة سيظل ميتا بالقوة في نظر دائرته الصغيرة باستثناء بعض جنوده في حين طارده الاطفال في باب المقبرة ” يصرخون ميت.. ميت ..ميت ” ص 49 وعدم استقباله في البهو ” تعرض له الجنرالات محاولين طرده ” ص 50 في حين كانت نهايته مخزية على يد وريثه ” وجد ابنه قد جلس على عرش الحكم أعلن رفضه لذلك لكن الابن أجهز عليه ..و …” ص 50
ويبرز الاشتغال على المتقابلات الضدية وعلى القلب المفاهيمي وعلى التشكيل في مجموعة من النصوص مثلا في نص ” تعاكس ” ص 72 يتم الارتكاز على المتقابلات الضدية لإبراز فظاعة التحولات التي تستمد غرابتها من جراء تحول على مستوى الوضع ” أو الصفة الدالة عليها ” فدحض المسلمات بنفي ثوابتها في الأصل وماهيتها يحيل في مجمله على المسخ وعلى العبث . فإذا كان في عرف الناس أن ” الأسد ملك الغابة والفيل كبير الغابة والثعلب جبان الغابة والقرد حقير الغابة والغزال أنثى الغابة ” ص 72 فإن هذه الصفة سرعان ما سوف يشوبها مسخ وتحول في الجوهر وليس المظهر ( لأن لحمار سيظل حمارا رغم تتويجه ) يقول السارد ” كل هذا الوضع تغير داخل الغابة حين دخل الغابة حيوان اسمه حمار الغابة فأصبح الحمار ملك الغابة والثعلب شجاع الغابة والقرد عظيم الغابة والغزال فحل الغابة ” ص 72 وهو ما وجه طعنة قاتلة للوسط ذاته لتضحى ” الغابة ليست بغابة ” ص 72
إن الارتكاز على القلب المفاهيمي والأنسنة يعري عن فظاعة التحولات الاجتماعية والسياسية وعن طبيعة المتحكمين الجدد في السلطة .ما شكل خرقا للمنظومة المألوفة وتسبب في خلخلة بنياتها المادية والمعنوية أعلانا عن عد عكسي لانهيار وشيك .
وسنلمس توظيف المتقابلات الضدية كذلك في نص ” ب” ص 71 الذي يدخل ضمن ممكنات كتابة مررنا بها في نص سابق ضمن النصوص المنضوية تحت عنوان موحد جريمة ص 27 باعتماد نفس التقنية ” دخل( ضد) خرج جميلة ( ضد ) قبيح ..) مع الاحتفاظ بملامح المكان لبناء مفارقة تروم الخلخلة وإحداث صدمة للمتلقي . كما أن النص سيعمل على انتقاد عيوب مضمرة ومقيتة داخل مؤسساتنا الصحية وخدماتها المتردية في تأثيرها على صحة المواطن وخدعه .
وسيبرز الاشتغال على توظيف مكونات اللوحة التشكيلية داخل قالب قصصي من خلال نص ” شقلبان ” ص 71 من خلال سياقين الأول يبرز لوحة يظهر فيها ” كلب كبير الرأس أمامه أشلاء عجل سمين وفوق رأسه حمامة ” ص 71 ورغم ما تعكسه الفقرة من تناقضات في رمزيتها فإنها تعكس واقعا سياسيا واجتماعيا ما يتحكم في خيراته جبارة بينما تظل الحمامة ( كرمز للسلم ) في إشارة إلى الشعب الذي يتخذ له مسافة في انتظار تغير محتمل ..وقد عبر الرسام عن مضمون اللوحة قائلا ” إن الكلب يمثل الحاضر والحمامة تمثل المستقبل ” ص 71 .
غير أن هذا الطرح سرعان ما سوف يتعرض للنسف بتحول مؤثثات اللوحة ذاتها في نفس اللحظة التي سيعود فيها الوفد ثانية لمشاهدتها يقول السارد ” فوجد الحمامة قد ذبحت وظل الكلب مكشرا أنيابه ” ص 71
فالكشف عن الفظاعة والمنظور إلى السلم والمستقبل يبرز قوة الحاكم الذي لا يسعى إلا من أجل بقائه ولا يفكر إلا بمنطق القوة والعنف ولا يرضى إلا بسماع ما يبرز الخضوع والخنوع والتمجيد والانقياد سواء بالإكراه أو عن طواعية نحو الموت . لذلك فهو يبادر إلى نسف كل ما من شأنه أن يغير وضعا ظل مستميتا من أجل تكريسه واقعا محتوما حفاظا على كرسيه وتدعيما لخلوده .
وتتخذ الكتابة لها مسافة بين الدلالة والرمز كما في نص ” رأس خارج القانون ” ص 18 الذي بقدر ما سيبرز صراع بين رأس وصاحبه يكشف عن إحساس بالقهر وعن سأم من ملازمته لصاحبه بالقوة ما فرض تصالحا مرحليا بعد صراع مرير وتعايشا بالقوة والإكراه . تعايش كشف عن رغبة في الانتقام منه في النهاية ” إن أراد أن أرفعه عن كتفي بكفي الأيسر وأرفع له قبعتي بكفي الأيمن أو أن أرميه في مزبلة الزعماء العرب ” ص 19 . وهو ما يدخل في نطاقه رؤوس أخرى متعفنة ومتجاوزة لا تكلف نفسها عناء التفكير أو البحث عن حلول جذرية كحال رأسه الخامل والعدواني وتعمل على البقاء بكل أثقالها عالة فوق رؤوس الشعوب .
4) صورة المرأة بين النبذ والإقصاء
تنجلي صورة المرأة في هذه النصوص متقلبة المزاج وغير ثابتة وتبدو بمظاهرها الخارجية تمارس خداعا متحجبة بحجاب الورع والتقوى وهي تحفر لها مسافة خاصة . لكنها مسافة تظل محاطة بنوع من الصلابة في المواقف أو في النظر إلى الأشياء والآخر . وهو ما مثلته بطلة نص ” اغتيال ” ” حاكمة ” ص 11 سواء في لباسها ” كانت مغلفة بكساء أسود لا يظهر منها سوى عينيها الواسعتين شديدتي السواد في الوسط يلفهما بياض ناصع ” ص 11 . بالمقارنة مع زميلتها المعتدلة في زيها وسلوكها ” كانت الرفيقة تضع على رأسها غطاء رأسُ (وردي) .. تلبس بلوزة تدلت إلى نصف الفخذ وبنطالا طويلا ” ص 11 .
ورغم تعاظم القيم عند صاحب المكتب وتلبية طلبهما ما فتئت ” حاكمة ” ترميه بنظرة وداع حارة وهي تجر آخر قدم عند كوة الباب” ص 12 . وسنلمس أنه من خلال زيارتها في اليوم الموالي كشفا عن هواجسها ورغبتها يقول السارد ” لا يعلم كيف عرفت أن مؤسستهم الحكومية تعمل في هذا اليوم دون سائر المؤسسات ” ص 12 وهي إشارة تحمل في طياتها الكثير من الأسئلة المغرضة والمحيرة . وكذلك مبرر لتصرفها الغريب في اليوم الموالي يقول السارد ” …لم تطرق الباب الذي كان موصدا ولم تقرئه السلام لكنها حطت ثقل مؤخرتها على الكرسي المقابل له ” ص 12 كما أن الأحداث ستكشف جرأتها وهي تميط عنها ملابسها قطعة قطعة كمومس ما أدخله في حيرة زرعت في كيانه الشك خوفا من عمل ارهابي مدبر ” خلعت حياء جسدها : الجلباب وضعته على كرسي جلوسها ..خلعت نعلين أحمرين أزالت غشائين أسودين خفيفين لمع من تحتهما ساقان أبيضان لم يطمئن وعدها ضمن الخدع العصرية للتمويه التي يتفنن فيها تنظيم القاعدة ” ص 13
فالبطلة ستتعرى من كل ثيابها وسوف لن تحتفظ سوى ب ” خمارها الوحيد الذي لم تنزعه قائلة : حدثني شيخي أن كشف وجه المرأة حرام وأنا لن أخالف شيخي وأنض خماري ” ص 12
فالمفارقة بقدر ما استمدت مشروعيتها من غرابة التصرف شيدت على أنقاض تهتك وقناعة باهتة مستسقاة من فتوى شيخ ما وكأن الإيمان والعفة منحصران فقط في ” خمار الرأس ” وما عداه مستباحا ومشروعا تقديمه لقمة صائغة لممارسة المتعة يقول السارد ” تقدمت منه أكثر ..فأكثر …تسمر جالسا على كرسيه مكتبه ..أدارت ظهرها له ..واغتالته بطريقتها وقد غشتها قشعريرة الرغبة ” ص 14 .
فقصة اغتيال هي إحالة إلى قتل العفة مع سبق الإصرار والترصد وتعرية لزيف المظهر وخبث الجوهر والمقاصد للعديد من الأفراد المتظاهرين بها خلف قناع التدين والتحجب .
فالمجموعة تبرز صورة المرآة الجامحة التي تمتلك جرأة عالية وقدرة رهيبة على انتزاع ما تريده باللين أو بالقوة عن طريق الاغواء والدهاء وهو ما سيكرس صورة نمطية عنها من خلال نص ” الكل x 1 ” حيث يقول السارد ” كل النساء واحدة .. والفارق الوحيد فقط هو حسن إجادة الماكياج ” ص 17 .
غير أنه لنا موقف مخالف في الواقع من هذا الطرح لوجود اختلافات عديدة في الطبائع والسلوك والتنشئة الاجتماعية والثقافية . فاختزال كيان الأنثى في خصوصية التجميل أو ” إجادة الماكياج ” هو طرح يقصي من حسابه الكيان والروح وصورة المرأة كإنسان له نفس الحقوق وكشريك أساسي في الحياة واستمرارها . بما تنفح العلاقة والمشوار الحياتي من دفء ومودة وحب تبرز قيمته هذا الأمر ودلالته الرمزية في القدرة على المنح والعطاء ونكران الذات .
5) القيم الإنسانية وإنسانية
حظي مفهوم القيم الإنسانية بحيز خاص داخل المجموعة وقد برز في نص ” زارع الورد” ص 16 في تناصه مع مقولة مأثورة ” زرعوا فأكلنا ونزرع فيأكلون ” كقيمة أخلاقية وإنسانية محضة يتم تنميتها بفعل التربية وغرس روح العطاء والقيم النبيلة منذ الصغر يقول السارد ” نمت الوردة البيضاء في أعماقه منذ نعومة ( أظافره) كبرت مع نبضات قلبه ..أثمرت ..وجد تربة خصبة …بذرها نبتت امتدت أورقت ..تفرعت تطاول ظلها ..آوى إليها الناس ..مات الناس وظلت وارف الظلال ” ص 45
فالتربية على القيم بقدر ما تبرز في النص مفارقتها السلبية من انتقادها لمن استفادوا من ظل الوردة البيضاء دون العمل على تقديم شيء لها فإنها تظل محتفظة بروح الغارس الأول الذي ظل عمله يفرض استمرارية في الزمان والمكان والنفوس ونفس الفكرة يطرحها نص ” قيم ص 73 يقول السارد ” حين كانت الشمعة مشتعلة أذابت نفسها لتضئ العالم وحين انطفأت ذاب العالم من حولها ” وهو ما يعكس القيمة الكبيرة للتضحية التي لا يدرك كنهها إلا بعد فوات الأوان .
في حين يبرز نص ” نهاد ” ص 59 الآثار السلبية للحرب على نفسية الأطفال وبالتالي على قيم السلم والحب والخير والبراءة ولعل تساؤل البطلة الصغيرة نهاد يكشف بعمق هذا الطرح ” نهاد ” لا تعرف كيف سقطت آلة الموت ¿ ..ومن أين مصدرها ¿ وما هي خلفياتها وما هي أبعادها ¿ ” ص 59 بعدما حصدت رفاقها وأهلها لتضحى وحيدة شريدة في ” شارح الحرية بمدينة صيدا ”
فتفاصيل النص بقدر ما تضع قيمة انتهاك حرية المدنيين وأرواحهم في فترة الصراعات المسلحة تطرح واقع استهداف الأطفال واستباحة أرواحهم في النزاعات المسلحة كما تبرز ضراوة العدوان الإسرائيلي وتبعاته النفسية على الأطفال في ظل حرب تحصد في طريقها الأخضر واليابس ولا تخلف سوى المآسي والفواجع .
على سبيل الختم
قدمت مجموعة ” لست أنا ” للكاتب اليمني زيد صالح الفقيه اشتغالا ثريا ومتنوعا بالارتكاز على المفارقة والسخرية والتناص والرمزية والبناء العجائبي والمتقابلات الضدية والاستبدال اللغوي وفن التراسل لتقديم صورا من المجتمع اليمني في ظل التناحر السياسي والقبلي مبرزا الانتهاكات الجسيمة لحقوق المواطن اليمني في ظل حكم عسكري مستبد . كما ناقشت المجموعة مفاهيم من قبيل التربية على القيم وانتقدت السلوك والدعارة والجنس والنظرة الدونية إلى المرأة كما ناقشت الآثار السلبية للحرب على نفسية الأطفال . وهو ما جعلها مجموعة جديرة بالاهتمام والدراسة .
( 1) زيد الفقيه ” لست أنا ” قصص إبداعات يمنية صنعاء 2012 ط 1