الأخلاق وواقعنا المعاصر

يكتبها اليوم / عبدالرحمن مراد

 

 

من اللافت للنظر هذه الأيام في زيارة رئيس الولايات المتحدة الأمريكية ترامب لمنطقة الخليج العربي عدم اصطحابه أي أحد من أفراد عائلته كما حدث في زيارته السابقة، في ولاتيه الأولى، التي اصطحب فيها بعض أفراد عائلته، وكانت ابنته إيفانكا حديث الإعلام والمجتمع السياسي يومذاك، ومثّل ذلك تقليداً دأبت عليه المجتمعات السياسية الغربية, لكن هذا التقليد غريب على المجتمع السياسي العربي، ماعدا مصر، والأردن، وسوريا، لكن هذا الأمر يبدو غريبا في المجتمع البدوي, والمجتمع القائم على تقاليد القبيلة العربية الصارمة، ولذلك يستغرب الناس خروج زوجة أمير قطر، ومشاركتها في مراسيم الزيارة، رغم عدم وجود من يماثلها من الطرف الزائر، كعرف كان يبرر لها المشاركة العلنية في المراسيم .
في سوريا هذا التقليد أصبح مقبولاً من المجتمع، ولم ينكره الرئيس السوري الجديد الذي ينحدر من مرجعيات دينية وقبلية، وقد رأينا زوجة الشرع تشارك في بعض مراسيم المجتمع السياسي وتظهر للناس، وليس في الأمر ما يثير الاستغراب فالمجتمعات التي كانت على تماس تاريخي مع الحضارة الرومانية واليونانية وتعددت الانتماءات العرقية لها, تغريها مثل التقاليد بحكم العامل التاريخي, لكن المستغرب هو في المجتمع العربي البدوي الذي يرى التمدن والحضارة في قشورها الخارجية دون النفاذ إلى جوهر الاشياء، فترامب – الذي استغرب فنجان القهوة العربية في قصر ابن سلمان – احترم تقاليد المجتمعات العربية البدوية, ولم يصطحب معه عائلته، بعد تجربة الزيارة الأولى له، لكن أمير قطر لم يحترم تقاليد مجتمعه ولذلك حدث هذا الشرخ في البناء الثقافي .
ما يحسب لترامب في أيامه الأولى في البيت الأبيض قيامه بتوقيع مصفوفة من الأوامر التنفيذية التي تحافظ هوية المجتمع, وعلى النوع الإنساني، وتمنع الضياع، وقد كان سلفه بايدن أثقل كاهل المرحلة بانسياقه وراء الدعوات الفكرية الهادفة إلى التشكيك في السرديات القديمة، وإنكار وجود قيم وأخلاقيات، وقالت بذاتية الفرد في تحديد وجوده، ومن تلك الأوامر إلغاء حقوق الشواذ، وجنون التحول الجنسي، وقد كان هذا التوجه يسبب قلقاً لعلماء الاجتماع, الذين ناقشوا فكرة مجتمع ما بعد الحداثة، وأبدى الكثير منهم الخوف من الكوارث التي سوف يتركها هذا التوجه إلى مجتمع الذاتية وإلغاء السرديات الأخلاقية في زمن ما بعد الحداثة .
وزمن ما بعد الحداثة في المفهوم الغربي « هو حركة فكرية واسعة نشأت في النصف الثاني من القرن العشرين كردة فعل على ادعاءات المعرفة القديمة المنتهية والمرتبطة بحداثة عصر النهضة ولإنهاء الافتراضات المزعوم وجودها في الأفكار الفلسفية الحداثية المتعلقة بالأفكار والثقافة والهوية والتاريخ وتحطيم السرديات الكبرى وأحادية الوجود واليقين المعرفي وتبحث في أهمية علاقات القوة، والشخصنة أو إضفاء الطابع الشخصي، والخطاب داخل بُنية الحقيقة والرؤى الشمولية وينطلق العديد من مفكري ما بعد الحداثة من إنكار وجود واقع موضوعي ومن إنكار وجود قيم أخلاقية موضوعية والتشكك في السرديات الكبرى والبحث عن خيارات جديدة وتشمل الأهداف المشتركة لنقد ما بعد الحداثة الأفكار العالمية للواقع الموضوعي والأخلاق والحقيقة والطبيعة البشرية والعقل والعلم واللغة والتقدم الاجتماعي.
ووفقًا لذلك، يتميز الفكر ما بعد الحداثي على نطاق واسع بالميل إلى الوعي الذاتي، والإحالة الذاتية، والنسبية المعرفية والأخلاقية، والتعددية، وعدم الاحترام.» .
ونحن اليوم نتعامل مع هذا التوجه الفلسفي والفكري لابد لنا من الوعي به، ومعرفة أبعاده وأنساقه حتى نتمكن من السيطرة على قيم المجتمع العربي المسلم من الانهيار والتفسخ القيمي، وعلينا أن ندرك أن التقدم المستمر للعلوم والتقنيات، وثورة التكنولوجيا – التي نصحو كل يوم على جديد في عالمها – قد أدخل إلى الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية عوامل جديدة للتغير والتبدل من طور إلى طور مما ساهم في انهيار المعايير والقيم الثقافية والاخلاقية للمجتمعات، فنحن نعيش عصر العولمة وذوبان الثقافات والهويات في بوتقة واحدة، وهذا الانهيار يخدم في نهاية المطاف مصالح النظام الر أسمالي، حيث تحدد الحرية الفردية القدرة ونمط المصالح المتبادلة، وفي ظل هذه الصيرورة الاجتماعية بمختلف اتجاهاتها تحدد السياق العام « لمفهوم الحداثة بوصفه ممارسة اجتماعية ونمطاً من الحياة يقوم على أساسي التغيير والابتكار.»
ومن الملاحظ أن الحداثة في التجربة العربية لا تحيد عن طابع التقليد والمحاكاة الجوفاء لمظاهر التمدن الغربي ونماذجه الثقافية والحضارية فالعرب اتباع كل ناعق لا يبتكرون واقعا حضاريا يشير إلى وجودهم وهويتهم ولكنهم يصرون على تمثل التجارب الغربية، وفي الغالب فالثقافة الغالبة أو ثقافة الأقوياء تفرض وجودها على وعي المجتمعات، وهذا أمر من المسلمات التي لا جدال فيها فهي متواترة في النسق الاجتماعي والثقافي التاريخي .
“وغالبا ما يظهر أن هذه النماذج الحضارية تتعارض مع النسق الحضاري العربي في أصوله وتجلياته الذاتية. وهذا يعني أن استجلاب مظاهر الحداثة من الغرب قد يؤدي إلى مزيد من الضياع والاحتضار. وقد يعني ذلك – وهذه هي الحالة على الأغلب في عالمنا العربي- تعايش منظومتين اجتماعيتين متنافرتين في آن واحد هما: مجتمع تقليدي يمارس حياته وفق معايير وقيم تقليدية، ومجتمع حداثي يعيش وفق أحدث المعايير العصرية دون أن يتمثل روح هذه المعايير ويتشرب من تدفقاتها الذاتية. ووفقاً لهذه التصور فإن التحديث العربي في التاريخ المعاصر يأخذ صورة متناقضة مع الحداثة الحقيقة.” .
وهذا يعني بأننا نعيش قشور المدنية وأن الروح الحقيقية للمجتمع المدني لم تستطع أن تأخذ مكانها في بنية الحياة الاجتماعية والروحية في المجتمع العربي.
فنحن نعيش على قشور المدنية وتتأصل فينا البداوة الشرسة التي تغيب معها القيم الإنسانية الأصيلة التي تضع الإنسان في صدارة غاياتها، رغم أن الغاية الكبرى للإسلام هي القيم والبنية الاخلاقية التي تعمل على ترتيب نسق الحياة وبما يتسق مع مضامين الرسالة المحمدية وغايتها المثلى .

قد يعجبك ايضا