
استطلاع /صقر الصنيدي –
كل الأحداث السياسية تطحنها الأيام وتستبدلها بما هو أدنى أو أعلى منها لكن الأحداث الاجتماعية لا تمحى من الذاكرة لأنها ببساطة تطرق تفاصيل كل فرد ولا تحصر بين مجموعة من الناس يمارسونها كما في السياسة – هذه التعاريف المنتقاة من موارد عدة تجعلنا نؤمن ان ما حدث في 26 سبتمبر 1962 لم يكن فعلا سياسيا بل كان متغيرا اجتماعيا أزال معه مفاهيم قاسية على اليمنيين وزرع مفاهيم جديدة أهمها إنكار التمايز بين الطبقات التي خلقها الجهل وعززها المستفيدون من تصنيف ذاتهم بالأفضل وما سواهم الأدنى .
إليكم بعض المواقف الخالدة بتفاصيلها والتي تؤكد أن الحدث اجتماعي بجدارة وإلا ما شأن رجل تغيرت حياته إلى الأفضل في بلد آخر يمكنه ان يحصل منه على كل ما حرم منه في موطنه الأصلي ومع ذلك ظل يعيش القصة التي ورثها لأبنائه حتى لا يتخلوا عن ما حققه جيل ممن ضحوا لأجل مستقبلنا –
من بروكلين
في السادس والعشرين من سبتمبر قبل 52 عاما كان شاب يهرول في إحدى شوارع بروكلين نيويورك حاملا معه خبرا سيضطر للقسم حتى يصدقه من ذهب لإبلاغهم به هم زملاؤه اليمنيون من المغتربين في الولايات المتحدة الأمريكية والذين يجمعهم مقهى الجمعية اليمنية الخيرية الأميركية وهناك وقف ليتلو ما سمع من راديو لندن عن قيام الجمهورية العربية اليمنية قبل ان يصل إليهم جرى كما لم يجر من قبل كما روى ابنه الدكتور شاكر الأشول الذي يستمر في سرد القصة كما لو كان يشاهدها اليوم كان المقهى في زاوية “كورت ستريت” وكان قلبه يدق حتى كاد يخرج من صدره من شدة الفرح والجري.
صاح من في المكان “بطل كذب يا أشول مش وقتك” , كانوا مشغولين بلعبة الكوتشينة رد والدي “الذي مش مصدق يجي يسمع قلبي” .
لم يقل من لم يصدق فليسمع المذياع بل أصبح قلبه هو الشاهد على ما جرى وهو دليل على أن الأمر يعني كل أحاسيسه رغم المسافات الفاصلة عن الوطن حيث وقعت الثورة الخالدة .
يضيف شاكر وهو أيضا مغترب في ذات الولاية التي حصل منها على درجة الدكتوراة في إدارة التعليم ” قلب أبي هو قلب المغترب الذي عاش به رحمه الله وهو نفس القلب الذي يحمله المغتربون اليوم أينما كانوا قلب معلق بأرض اليمن ومستقبلها بغض النظر عن مكانهم وظروفهم… قلوب المغتربين اليوم مثل قلب أبي حينها تحلم بيمن يعيش اليمني فيه بحرية وكرامة بيمن يشعر كل من ينتمي إليه بالمواطنة أو بالثقافة والتراث بالفخر والعزة .
غادر أحمد الأشول عالمنا قبل نصف عام تقريبا لكن الواقعة لم تغادر حملها أبناؤه الذين حرص على تأهيلهم جيدا لينقلوها إلى من يليهم كحدث له وجه اجتماعي واضح وليس كتاريخ تدير تعقيدات السياسة دفته .
من عدن
هناك قصص أخرى تدعم كون الحدث اجتماعياٍ وصل الى كل قلب متطلع بحياة أفضل مما كان سائدا – حين انتصرت ثورة السادس والعشرون من سبتمبر في صنعاء طار الإعلان إلى عدن حيث يجتمع كل من شتتتهم السياسات الظالمة والحياة البائسة من أبناء الشمال ففروا إلى ارض الجنوب المحتل من بريطانيا التي عثروا فيها على ما لم يجدوه في موطنهم من قيمة وإمكانية عيش كريم فما ان سمعوا الخبر حتى أرادوا أن يطيروا إلى حيث تجري الأحداث كان دائل الأغبري أكثر سعادة بما يسمع بادر للانطلاق عائدا إلى صنعاء التي لم يعرفها من قبل وحان الوقت ليراها وهي تحتفل بفتح صفحة جديدة من حياة اليمنيين التحق الخارج من طفولته إلى شبابه بما عرف حينها بمجندي الدفاع عن الثورة دائل العريقي سافر مع المئات من القادمين لحماية المنجز الذي تحقق أتوا حاملين معهم السلام والعزيمة والحلم بيمن مشرق يقول ” لم نعد إلى قرانا بل قفزنا إلى صنعاء مسرعين ومتحمسين وخائفين أن يذهب ما تحقق بفعل التآمر المحيط ” .
إذاٍ ما شأن هذا الشاب الذي كان ينتظره مستقبل في أي بقعة أخرى من العالم يختارها وبسهولة لو لم يكن الأمر متعلقاٍ بكل يمني يحب السماء التي خلق تحتها ودقق في نجومها – ترك كل جمال ومغريات الحياة المدنية في عدن وما بعدها وأقبل نحو ما كان يعاني من كل ما هو متخلف بحكم الاستبداد والانغلاق المحدق بالجميع .
كان أخو شائف العريقي يدعم الثورة بسخاء من غربته في أفريقيا ولم ينتظر حتى تناديه الأرض البعيدة عنه بل جاء كي يحرس المنجز مع أخيه ومع من كان يساندهم المئات بل الآلاف عادوا ليشكلوا المجتمع الجديد وليعينوا بلادهم على التمسك بثورتها مصرين على تجاوز الماضي وإن دفعوا أرواحهم ثمنا لهذا الخروج الذي يعرفون قيمته جيدا وقد عاشوا القهر والتعسف ورأوا أين أصبح العالم وأين تخلف موطنهم .
تطوع الجميع دون أي مقابل شاركوا الوطن أعمارهم لأنهم أحسوا إن لم يفعلوا ذلك فسوف يسرق العمر كله جاء محمد يحيى من عدن أيضا وقد اكتسب خبرة مهنية في مجال الهندسة المائية من عمله مع الانجليز في إمداد المياه من لحج إلى عدن جاء ليعمل مجانا بلا مقابل ويعرف كما يقول إن الوطن سيعوضه وسيرد له الجميل سواء لي أو لأبنائي من بعدي عرضوا عليه أن يبقى في عدن وسيدفعون له اجراٍ مضاعفاٍ لكنه رفض لأن هناك من ينتظره بفارغ الصبر أنها صنعاء التي قدم إليها مبتهجا بالعمل المجاني وهاهو اليوم وهو يبلغ الثمانين من العمر يشعر بالفخر لأنه قام بذلك وإن عاد التاريخ فسوف يعود: ” قمت بما يجب علي أن أقوم به أنه واجبي في خدمة وطني ” لم يحصل على أي شيء خلال سنوات وظل يكدح حتى علم أبناؤه وشرح لهم الفارق بين ما كان قبل ذلك اليوم وما بعده .