أمة الرحمن من محافظة صعدة الآبية ليست ككل النساء، هي نموذج فريد للمرأة المؤمنة المجاهدة الصابرة المضحية بروحها في سبيل الله، حتى صارت خير قدوة لمن بقيت خلفها أو ارتحلت بعدها، أكتب هذه القصة القصيرة عنها اعتزازًا بهذه المجاهدة العظيمة واستذكارًا لبعض مآثرها وتخليدًا لذكراها، ففي اليمن المرأة تجاهد وتبذل المال والروح كالرجل، فهي الشريك الداعم لأخيها الرجل وسيدة كل جبهة، أكتب عنها وأنا أعلم أنني لن أُوفيها حقها مهما كتبت ومهما قلت، فما قدمته لا تعادله الكلمات.
بدأت قصة جهاد أمة الرحمن منذ الحرب الأولى على محافظة صعدة 2004م حينما تحركت جيوش الداخل والخارج لوأد المشروع القرآني الذي انطلق به الشهيد القائد حسين بدرالدين الحوثي -رضوان الله عليه- آنذاك، فانطلقت في مسيرة جهادها وعطائها بكل شجاعة واستبسال في وقت لم تكن ثقافة الجهاد والاستشهاد معروفة، لكنها انطلقت بهمة عالية وعزيمة لا تلين لا تخاف في الله لومة لائم بعدما تشربت نفسها نهج الثقافة القرآنية من محاضرات الشهيد القائد التي كان يُلقيها، فزادها الرحمن هُدى فازدادت وعيًا وإيمانًا، فكانت أشجع من أغلب الرجال –آنذاك- الذين خافوا سطوة النظام السابق وإجرامه.
لم تكن الحرب الأولى تشبه غيرها من الحروب، فالقتال لم يهدأ طرفة عين، والمجاهدون لم يَهِنوا نبضةَ قلب، فالحرب المستعرة استهدفت البشر والحجر بمختلف أنواع الأسلحة الجوية والبرية وبألوية عسكرية وأمنية، وفي قلب المعركة كانت ثمّة مهمّة صعبة وخطيرة أوكلت لأمة الرحمن برغم كبر سنها، فهي تجاوزت الأربعة والخمسين عامًا، كانت مهمتها أن تنقل المونة فوق ظهرها من أكياس القمح وحُزم الحطب والماء والأسلحة الخفيفة التي كانت تخفيها في أكياس القمح وتحملها لمسافات طويلة غير آبهة بوعورة الجبال وكثرة جنود أعداء الله ونقاط التفتيش وقصف الطيران.
مرت الأيام والشهور والحرب الضروس الظالمة الآثمة والحصار الخانق على مران يشتد، حتى نفد القمح ولم يتبقَ ما تصنع أمة الرحمن رغيف خبز واحداً للمجاهدين، ولكن رغم كل هذا لم تتوقف ولم تستسلم، فكانت تذهب لجلب الماء وليس في بطنها كسرة خبز واحدة ولم يكن قوتها وقوت المجاهدين الأبطال إلا أوراق الأشجار ورشفة الماء فقط، فلم يكن الحصول على الماء بالأمر السهل؛ لأنها كانت تجلبه بمشقة وهي تتخفى من جنود الأعداء لدرجة أنها لم تكن تستطيع إلا ان تحضر دبة ماء واحدة للمجاهدين والشهيد القائد والجرحى، وتسير في طريق وعر بعيداً عن أنظار الجنود، فكانت حصة كل واحد منهم طوال اليوم رشفة ماء واحدة فقط تسد رمقه وتقيه من الموت.
استمرت الحرب العدوانية واستمرت معها المعاناة والألم والظلم، لم تكن الحرب متكافئة ولم يكن لها أدنى سبب أو ذنب للشهيد القائد والمجاهدين سوى أنهم انتهجوا القرآن منهجًا وأعلنوا شعار البراءة من أعداء الله أمريكا وإسرائيل، فسقط الكثير والكثير من المجاهدين ما بين جريح وشهيد، ولم يكن لديهم الدواء ولا حتى المسكنات لتسكين جراح الجرحى، فمن سقط جريحًا كان يعاني من آلامه وجراحه حتى يستشهد، وفي أحد الأيام صعدت أمة الرحمن جبل مران ومعها الماء لتعطي كل واحد منهم حصته، فدخلت المترس لتسقي أحد المجاهدين فرأته قد استشهد، والضرب والقصف حينها كان حامي الوطيس عليهم من قبل جيش النظام السابق ومن معه من الأعداء، فما كان عليها إلا أنها وقفت بثبات وحملت البندقية وأخذت تنكل بالأعداء في موقف بطولي قل أن نجد له نظيراً.
وهكذا استمر الحال حتى أتى يوم الإثنين الخامس من شهر سبتمبر عام 2004م، في ذلك اليوم أحست أمة الرحمن بدنو أجلها، فجسمها نحل من التعب والجوع والمعاناة فقررت تسليم أوراق الشهيد القائد للمجاهد محسن غابش، فقد كانت خائفة أن يستولي عليها الجنود أو تستشهد والأمانة عندها فتضيع، أخذت الأوراق ومشت وهي متخفية بين التلال والجبال تعاني من وعورة الطريق وقصف الطيران المتواصل ليل نهار، كان ذلك اليوم شاقاً وصعباً عليها ولكنها واصلت رغم كل تلك التحديات حتى وصلت للمكان الذي كان ينتظرها فيه محسن غابش، وأثناء ما كانت تناوله الأوراق لمحها بعض من جنود النظام السابق آنذاك، فرموها برصاصاتهم الغادرة، وانهالت تلك الرصاصات الآثمة على جسدها الطاهر الصابر الثابت أكثر من عشر رصاصات، فارتمت أمة الرحمن وكانت آخر كلماتها قبل أن تستشهد هي:” هذه أوراق سيدي حسين اعطيها له ” ،” ثم فاضت روحها إلى بارئها وأرتمى جسدها الطاهر وهو ينزف بجراح الظلم والقسوة والاستبداد والطغيان.
استشهدت أمة الرحمن قبل استشهاد الشهيد القائد بأيام قلائل، وهي تحمل هم الشهيد القائد ومن معه وهم الأمانة، فكانت أول شهيدة في المسيرة القرآنية كسمية بنت الخياط أم عمار بن ياسر أول شهيدة في الإسلام، استشهدت وقد سطرت بصبرها ومواقفها الشجاعة المثال العملي في الوقت الحالي لتنفيذ توجيهات القرآن من جهاد وتضحية وبذل وعطاء، فكانت نِعم الشهيدة التي بذلت روحها في سبيل الله، لم ولن تغيب أمة الرحمن عنا فهي الحاضرة بيننا نتعلم منها الدروس في الجهاد والثبات والتضحية والعطاء، كزينب -عليها السلام- التي سارت على نهجها في جهادها ومواقفها الثابتة وصمودها وصبرها العظيم، فلو كانت كل النساء مثلها لفُضلتِ النساء على الرجال، فلن تهزم أمة نساؤها كأمة الرحمن يحملن هم الدين وهم الأمة، لم تغب أمة الرحمن عنا، فمن بعدها انطلقت مئات الآلاف من المجاهدات العظيمات اللاتي بذلنّ وسطرنّ مواقف مشرفة كأمة الرحمن التي بقيت نبراسًا لمن التحق بعدها بالمسيرة القرآنية ومبعث فخر لليمن؛ لأن كل ما فيها يحكي عن أسطورة جهاد وتضحية كتبت بالدم ورويت بالعزة.