في كتابه الموسوم بعنوان (فلسطيني بلا هوية) يستعرض المناضل الفلسطيني الشهيد صلاح خلف _أبو إياد _ حال الإنسان العربي الفلسطيني منذ الاحتلال البريطاني ثم الاحتلال الصهيوني، مستعرضا ظروف المواطن العربي الفلسطيني وحياته ورؤية العالم له وفي المقدمة رؤية الأشقاء وطريقة تعاملهم معه كلاجئ أو كمقاوم بعد تشكيل حركات المقاومة العربية الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية ومحاولة الأشقاء كلُ على طريقته إدارة وتوجيه المنظمة وكيف كان أي خلاف يحدث بين المنظمة وأي نظام عربي ينعكس على أحوال وظروف اللاجئين الفلسطينيين الذين يعيشون في كنف هذا النظام العربي أو ذاك..!
عرف الشهيد صلاح خلف _أبو إياد _ بالصراحة التي كان البعض يرى فيها (وقاحة) لكنه كان صريحا جدا صادقا جدا.. كان فلسطينيا مخلصا لقضيته وشعبه، وكأن عربيا أصيلا صادقا في مشاعر الانتماء، ولكن كان كثيرا ما يصطدم بالأنظمة الحاكمة لأنه لم يكن يعرف (البرجماتية) ولم يكن يحبذ المراوغة والنفاق بل كان يُسمي الأشياء بأسمائها..
احترمه عبد الناصر ووصفه بـ(الثائر النقي) ومنحه الصلاحية في تقييم أداء الدولة والثورة في مصر بعد أن شعر أن هناك تهميشاً لفلسطين القضية والشعب، لذا حين قبل عبد الناصر عام 1969م مبادرة (روجرز) وزير الخارجية الأمريكي _حينها _القاضي بهدنة بين مصر والكيان لمدة 90 يوما، كانت إذاعة صوت العرب تخصص يوميا ساعتين من البث المفتوح لفلسطين تحت عنوان (صوت فلسطين صوت الثورة الفلسطينية)، ومن هذا البرامج الذي كان يبث من ( ماسبيروا) شن صلاح خلف _ابو اياد _هجوما لاذعا وقاسيا على عبد الناصر، فجن جنون وزير الإعلام في مصر محمد فائق لكنه تفاجأ باتصال من عبد الناصر بأن لا يعترض على برنامج “صوت فلسطين” وما يبث من خلاله بما في ذلك ما يبثه صلاح خلف بصوته..!
كان عبد الناصر حين قبل مبادرة (روجرز) محتاجاً لهدنة مدتها 60 يوما ليتمكن الجيش العربي في مصر من بناء قواعد الصواريخ الخاصة بالدفاع الجوي، وكانت مرحلة المواجهة لم تتح له ذلك نظرا لأن الطيران الصهيوني كان يعربد ويقصف كل ما يشاهد من تغيرات على خط الجبهة، فكانت مبادرة (روجرز) فرصة استغلها عبدالناصر والجيش لبناء قواعد شبكة الدفاع الجوي وهذا ما حدث فعلا.. وهذا ما اكتشفه صلاح خلف والقيادة الفلسطينية لاحقا ومن إذاعة صوت فلسطين اعتذر صلاح خلف ولكنه ذكّر ناصر بوعده له..
لكن علاقة صلاح خلف بالزعيم معمر القذافي لم تكن يوما طيبة منذ تعرفا على بعضهما عام 1970م، فصراحة (أبو إياد) لم تكن تروق للقذافي وظلت علاقتهما متوترة حتى رحلا إلى جوار ربهما شهداء..
اليوم يمكن القول وعلى ضوء ملحمة (طوفان الأقصى) أن الفلسطيني لم يعد بلا هوية ولم يعد بلا كيان ولم يعد ذلك الفلسطيني المهمش الذي تتقاذفه أمزجة الأنظمة العربية، اليوم الفلسطيني يا (ابو اياد) هو الأمة وهو عنوان شرفها وكرامتها وإيقونة نضالها ضد الاحتلال والاستعمار وأعوانهما من الخونة والعملاء العرب.. اليوم الفلسطيني هو عنوان هوية الأمة بل هو الأمة بكل قيمها وتراثها الروحي والمادي، وهو التاج المرصع بـ(اللآلئ من الشهداء) الذين يسطرون بدمائهم أنصع صفحات التاريخ التي تدون عظمة الشعب العربي في فلسطين التي أصبحت هي عنوان عزة الأمة وكرامتها وسيادتها..
إن فلسطين اليوم يا (أبو إياد) لم تعد تلك التي تركتها يوم استشهادك غدرا عام 1991م حين كنت عائدا من العراق تحاول ورفاقك إنقاذ كارثة تحيق بالأمة.. فلسطين اليوم أصبحت فلسطين أخرى، فهي رغم رائحة الدم والموت والدمار، ورغم الحصار وأشلاء الأطفال والنساء والشيوخ والشباب المتناثرة على كل جغرافيا قطاع غزة، ورغم فجور العدو وتوحشه وجرائمه، ورغم التواطؤ الدولي والعربي والإسلامي، ورغم أن (خونة اليوم) أكثر حقارة وانحطاطاً وابتذالاً من (خونة الأمس) إلا أن فلسطين أصبحت بمقاومتها قوة عظمى.. نعم إن المقاومة الفلسطينية اليوم وحدها تشكل قطبا دوليا وتواجه بقية دول العالم وليس العدو الصهيوني، بل (حلف الناتو) بكل قدراته وأجهزته وتقنياته في مواجهة المقاومة منذ أكثر من عام والمقاومة صامدة والشعب صامد رغم الجراحات والألم والقهر والحسرات ليس من عدوانية العدو، بل من خيانة الإخوة والأشقاء والصمت الدولي.. لكن ومع كل ذلك أصبح الفلسطيني صاحب هوية وأصبحت فلسطين أيقونة لكل أحرار العالم وأصبح (العلم الفلسطيني والكوفية الفلسطينية) ترفع في مدن وقرى وأحياء القارات الخمس..!
هل سمعت يوما أيها القائد الشهيد باسم (يحيى السنوار)؟ هذا من أبناء وطنك و(غزاوي) من مواليد (خان يونس)، هذا المناضل الذي اقتفى أثرك هو بطل ومهندس ملحمة طوفان الأقصى التي أذهلت العالم وأربكت كل الحسابات السياسية والجيوسياسية، كان هو بطلها والرقم الصعب فيها وحين استشهد وهو يقاوم تحول إلى أيقونة عالمية وقدوة لكل أحرار العالم، كما أصبحت فلسطين القضية والأرض والإنسان والحقوق قضية رأي عام دولي..
إذ لم يعد ثمة إمكانية للقول إن (الفلسطيني بلا هوية) بل أصبح أحرار العالم يفتخرون بالهوية الفلسطينية وفلسطين التي تُعلَّم العالم معنى الحرية والكرامة والمقاومة في سبيلهما.. فنم ورفاقك الشهداء من (محمد جمجوم) إلى آخر اسم لشهيد فلسطيني يسقط في ملحمة الأقصى.. ناموا جميعا لأن الشجرة التي زرعتموها أثمرت وكان ثمارها أبطال لا يهابون الردى.