الرعب من فلسطين

 

صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب “قضية فلسطين: أسئلة الحقيقة والعدالة”، من تأليف الدكتور عزمي بشارة. ويشتمل هذا الكتاب على مقدمة وقسمين وسبعة فصول وملحق، تركز كلّها على بحث واقع قضية فلسطين ومستقبلها في ضوء تجارب المؤلف الطويلة والأحداث الجسام لهذه القضية، مبتغيًا الموضوعية العلمية والنقدية، وليس الحياد الذي يساوي بين الظالم والمظلوم، والمحتل والرازح تحت احتلاله. ويضمّ الكتاب 393 صفحة، شاملةً ببليوغرافيا وفهرسًا عامًّا في الأوساط العامة والأكاديمية، في طلب متزايد لترجمته إلى اللغة العربية (ترجمه الدكتور باسم سرحان). ولا عجبَ من الطلب الكبير على مادة كتاب “قضية فلسطين: أسئلة الحقيقة والعدالة” في وقتٍ يشهد العالم فيه على استمرار النكبة والمقاومة في غزة، وخصوصًا أن بشارة أراد لكتابه أن يكون مراجعةً لتاريخ القضية الفلسطينية من منظور نقدي هو منظور الحقيقة والعدالة.

كانت فكرة الكتاب قد انعقدت في ذهن الباحث بشارة بعد أن لقي كتيِّبُ صفقة القرن، في محاضرة له، ترحيبًا واسعًا، وقد ألحّ كثيرون على نشره باللغة الإنكليزية، فترجمه إلى هذه اللغة، مضيفًا مقدارًا من خلفية القضية الفلسطينية وتحليلها، واستنتاجات من دراسات سابقة، ومقالات باللغات العربية والعبرية والإنكليزية على مدى عقود ثلاثة.

يبدأ الكتاب بالنكبة الفلسطينية، متوقفًا عند المراحل الرئيسة لتطور الحركة الوطنية الفلسطينية والاستعمار الاستيطاني، وصولًا إلى “صفقة ترامب – نتنياهو” التي سُمّيت “صفقة القرن”، منتقلًا إلى تحليل بنية نظام السيطرة في فلسطين وطبيعته، ثم طارحًا الخيارات المختلفة في المستقبل. ويتخلل ذلك كله عرضٌ للمراحل الرئيسة في تاريخ القضية الفلسطينية، ومعالجةٌ لتداخلها مع المسألة اليهودية، ومع “المسألة العربية”، كما سمّاها، وتأثيرهما فيها.

والجدير بالذكر أن الباحث يقارب القضية الفلسطينية بصفته شخصًا عايشها يوميًّا سنوات طوالًا، كما أنه يعرف إسرائيل؛ ذلك أنه عاش في فلسطين، داخل حدود 1948، حتى قَسْرِه على الخروج منها، خائضًا الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية الإسرائيلية، ومتآلفًا مع حياة الفلسطينيين في الداخل والمنافي. وهو يعترف بأنه ليس محايدًا في كتاباته. وعلى الرغم من ذلك، فإنه يكتب بأكبر مقدار ممكن من الموضوعية النقدية والعلمية، على غرار موضوعية النظر إلى المشروع الصهيوني في فلسطين بوصفه استعمارًا استيطانيًّا، فالموضوعية منهجٌ علمي لا يسمح للانتقائية وللأحكام القيمية والأيديولوجية بالتأثير في التفكير المنطقي والاستقراء والاستدلال. ثمّ إنه يُجيد التمييز بين الوهم والخيال في تفسير الحقائق. أما الحياد الذي يعلن المؤلف أنه لا يدّعيه، فهو في نظره موقف سلبي لاأخلاقي؛ إذ لا يقوم على التحيز والاصطفاف، كالنأي بالنفس والحياد بين الظالم والمظلوم، والمحتل والرازح تحت احتلاله؛ ولذلك لم يكن مصادفةً افتتاحُه الكتاب في فصله الأول، “حول السرديات والأساطير والدعاية الكاذبة”، بـــالنكبة وهي بحسب تعبيره “سلب الوطن الفلسطيني من أجل تأسيس دولة إسرائيل في عام 1948 ” وذلك لإظهار أن القضية الفلسطينية ليست وليدةَ عام 1967، وليست رهينةَ حصْرِ السياسة الدولية إياها في قطاع غزة والضفة الغربية المحتلين، بل إنها قضية ظُلم تُحَلُّ من خلال تطبيق العدالة فحسب، وليس وفق الكليشيهات الرائجة ضمن المساومة على الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية (22 في المئة من أراضي فلسطين التاريخية)، كما لا يجب أن يختلّ فيها التوازن الدقيق بين متغيِّرَي الحرية والمساواة، مع الحذر الدائم من تجدد جوهر المشكلة كما يرى بشارة، وهو الاستعمار الاستيطاني المتبوع باحتلال وتطهير اثني وتهجير للسكان وإقامة دولة للأقلية مكان الأغلبية.

يظهر كتاب بشارة “قضية فلسطين: أسئلة الحقيقة والعدالة” في أحلك الظروف والأوقات التي تمر بها القضية الفلسطينية، فهي تتعرض لتهميش شديد، ثمّ إنّ دولًا عربية كثيرة طبّعت علاقاتها مع إسرائيل، وبات انحيازها إليها أعمى وغيرَ مشروط؛ ما فرض على الفلسطينيين واقعًا من التوترات الدائمة والمعاناة اليومية. فهل فتَّ ذلك كلّه في عَضُد الفلسطينيين؟

إن الواقع يشهد بتشديد الفلسطينيين أكثر فأكثر على النضال من أجل العدالة في فلسطين، فقد توارثت أجيالهم المتعاقبة القضية التي لا تنبع من كونها عربية فحسب، بل من كونها كفاحًا ضد استعمار استيطاني متواصل في قلب العالم العربي جعل المحنة الفلسطينية رمزًا لمكافحة الظلم وسببًا للانتفاضات الشعبية في عامَي 2011 و2019؛ إذ أن الأحداث الفلسطينية التي بدأت في عام 2021 مع اقتحام جنود الاحتلال المسجد الأقصى في عملية “حارس الأسوار”، بالتزامن مع طرد عائلات مقدسية من منازلها في الشيخ جراح وسلوان وأحياء أخرى لإحلال يهود مكانها، ثم تفجُّر موجات احتجاج جماهيري دفاعًا عن الأقصى والعائلات، وإعلان حركة المقاومة الإسلامية “حماس” عملية “سيف القدس” وقصفها غلاف غزة بالصواريخ … إلخ، كلها أحداث نسفت مقولة دونالد ترامب المتمثلة في زعمه أنه قادر على نقل سفارة بلاده إلى القدس من دون أي مضاعفات.

أما هرولة الدول العربية للتطبيع (أو إعلان التطبيع، على نحو أصح) والتحالف مع إسرائيل، بدعوى الحفاظ على استقرارها وحماية نفسها من إمكانية تخلي الولايات المتحدة الأمريكية عنها كما حصل مع حلفاء مقرّبين لها في أثناء الثورات العربية، فيرى بشارة أنه يجب الكشف في هذا المضمار عن حقيقة أن التحالفات بين دول خليجية وإسرائيل كانت قد سبقت التطبيع؛ إذ إنها أُقيمت بعد انتفاضات 2011، وقبلها أيضًا، وكان ما يجمع الطرفين خشية إسرائيل من الانتقال الديمقراطي في العالم العربي أولًا، وخشية العرب من إيران التي تقوم سياساتها على أسوأ استغلال للتنوع الطائفي في البلدان العربية وتفتيت مكوناتها المجتمعية ثانيًا.

قد يعجبك ايضا