منذ أن انزلق السودان في اتون حرب مدمرة منتصف أبريل 2023م، ينتقل الجيش السوداني للمرة الأولى من مربع الدفاع إلى الهجوم لاستعادة العاصمة الخرطوم في أكبر عملية عسكرية يقودها بعد أكثر من عام من سيطرة قوات الدعم السريع عليها في ظل استمرار الصراع الذي تسبب بأزمة إنسانية واسعة النطاق ونزوح أكثر من 10 ملايين نسمة ودفع مناطق عدة من البلاد إلى حافة المجاعة.
الثورة / أبو بكر عبدالله
مرة أخرى تحولت العاصمة السودانية الخرطوم إلى خط معارك أول بين قوات الجيش السوداني وقوات الدعم السريع بعد إطلاق الجيش أوسع عملية عسكرية لاستعادة مناطق استراتيجية في العاصمة تخضع لسيطرة قوات الدعم السريع وسط مقاومة شرسة من هذه القوات التي تخشى أن يقودها فقدان العاصمة إلى هزائم أخرى في مناطق تمركزها.
خلال أيام قليلة تعرضت قوات الدعم السريع لهجمات مميتة، أسفرت عن سيطرة الجيش على مناطق في وسط وغرب وجنوب مدينة الخرطوم بعد توغله في بعض الجسور الرابطة بين مدن العاصمة وخصوصا جسر الحلفايا الرابط بين مدينتي بحري وأم درمان، ما أفضى إلى تعزيز الجيش سيطرته على مواقع استراتيجية وسط العاصمة بالتزامن مع قطع خطوط الأمداد عن قوات الدعم السريع التي باتت شبه محاصرة في بعض مناطق العاصمة.
المشهد الجديد للسيطرة هو الأول من نوعه منذ أبريل 2023م عندما سيطرت قوات الدعم السريع على أجزاء كبيرة من العاصمة، ما أرغم مجلس السيادة الانتقالي تاليا على نقل الحكومة إلى مدينة بورتسودان، لإعادة ترتيب الأوراق والسعي لاستعادة أكثر المرافق الحيوية التي خضعت لسيطرة قوات الدعم السريع وسط حالة دمار واسع.
كان الهجوم الواسع الذي شنه الجيش السوداني والقوات الشعبية المساندة مؤخرا على مناطق تمركز قوات الدعم السريع في العاصمة الخرطوم هو الأقوى منذ اندلاع الحرب بين الجانبين قبل 17 شهرا، وقد أفلح في فتح الطريق لقوات الجيش من ثلاثة جسور رئيسية تربط ضفتي نهر النيل نحو المناطق والأحياء التي استولت عليها قوات الدعم السريع في وسط وغرب وجنوب الخرطوم.
أعنف المواجهات اندلعت عند محاولة قوات من الجيش عبور جسور فوق نهر النيل تربط المدن الثلاث المتجاورة التي تشكل العاصمة الكبرى وهي الخرطوم وأم درمان وبحري، واستطاعت العبور في جسرين رئيسيين فوق نهر النيل ظلت طوال الشهور الماضية تفصل بين أجزاء العاصمة الخاضعة لسيطرة الجيش والأجزاء الخاضعة لسيطرة قوات الدعم السريع في أول مكاسب ميدانية يحققها الجيش منذ أبريل 2023م.
وتزامنت العملية العسكرية مع أخرى أطلقها الجيش السوداني في منطقة ود مدني بولاية الجزيرة جنوب العاصمة الخرطوم بقوة قوامها 40 ألف جندي تساندهم المسيرات والطيران الحربي، تقدموا من 5 محاور وتمكنوا من السيطرة على محلية أم القرى شرقي ولاية الجزيرة ومناطق أخرى في بمدينة شمبات وطرد قوات الدعم السريع التي سيطرت عليها منذ ديسمبر العام الماضي.
تداعيات متسارعة
وفقا لخريطة المعارك المرسومة قبل عملية الخرطوم، ظلت قوات الدعم السريع تسيطر على مواقع استراتيجية في غرب العاصمة الخرطوم، وأجزاء من الخرطوم بحري (شمال) وشمال وغرب كردفان، وولاية الجزيرة وكادوقلي فضلا عن سيطرتها على معظم مدن إقليم دارفور باستثناء الفاشر التي تشهد حاليا موجة قتال عنيف بين الجانبين.
أما سيطرة الجيش فقد ظلت على حالها في أكثر الأراضي السودانية، من الولاية الشمالية وشمال دارفور وولايات البحر الأحمر ونهر النيل شمالا، وصولا إلى كسلا والغضارف وسنار وولايات النيل الأزرق والنيل الأبيض غربا وكذلك جنوب كردفان وباندوسة جنوبا.
ويبدو أن الدعم الذي حصلت عليه قيادة الجيش بالسلاح والذخائر وكذلك حشدها قوات إسناد شعبي، قد مكنها من إحداث تغيير في موازين القوة، مكنها من شن هجمات على اهم المناطق الاستراتيجية التي كانت خاضعة لسيطرة قوات الدعم السريع وخصوصا المواقع الاستراتيجية والحيوية في العاصمة الخرطوم، وكذلك في ولاية الجزيرة ومدينة الفاشر في إقليم دارفور.
وعلى أن مدينة الفاشر التي يتجمع فيها النازحون من كل أرجاء السودان وتأوي حاليا نحو 1.5 مليون نسمة من السكان والنازحين، قد شهدت الحرب في مرحلة متأخرة خلال هذا العام، فإن معارك العاصمة الخرطوم حظيت بأهمية استراتيجية وعسكرية كبيرة دفعت الجيش إلى تركيز تحركاته نحو عملية عسكرية واسعة لاستعادة السيطرة عليها ولا سيما في الأجزاء الوسطى والغربية والجنوبية من العاصمة، بما في ذلك المواقع العسكرية والسيادية التي أدت سيطرة قوات الدعم السريع عليها إلى حالة ارباك ارغمت الحكومة السودانية على نقل نشاطاتها إلى ولاية بورتسودان في وقت سابق.
وفي مقابل تعثر الجهد السياسي والدبلوماسي لحل الأزمة السودانية في منبر سويسرا الذي غابت عنه أطراف الصراع، كان المشهد العسكري حاضرا بقوة في التحركات التي قادها الجيش نحو العاصمة ومناطق أخرى بعد أن صارت أخبار الانتصارات التي يحققها الجيش تتصدر مشهد الأزمة.
يشار في ذلك إلى التقارير التي تحدثت عن التخطيط والإدارة الجيدة التي اتبعتها قيادة الجيش في شن هذه العمليات وحشود الإسناد الشعبي التي لعبت دورا مهما وجعلت من تحرير المناطق المسيطر عليها في العاصمة مسألة وقت لا أكثر.
زادت من ذلك الروح المعنوية المرتفعة لدى قوات الجيش التي استطاعت لأول مرة الالتحام بقواتها العسكرية المحاصرة بداخل العاصمة والتي يمكن أن تلعب دورا مهما في ترجيح ميزان المعارك لصالح الجيش في مقابل التفكك والحصار الذي بدأت تعانيه قوات الدعم السريع بعد قطع الإمدادات عنها.
لكن هذا المناخ الذي كللته تصريحات متفائلة لرئيس مجلس السيادة الانتقالي وقائد الجيش الفريق عبد الفتاح البرهان الذي وعد مؤخرا بـ”الاحتفال قريبا بالنصر” وتأكيده أن القوات المسلحة ” ستمضي في إنهاء الحرب قريبا”، لم يكن مقنعا لكثيرين في الداخل والخارج، بالنظر إلى التعقيدات الكبيرة التي تكتنف مشهد الحرب والتقديرات التي تحدثت عن احتمال أن تستمر المواجهات لفترة طويلة في ظل استمرار قوات الدعم السريع في السيطرة على العديد من المواقع الاستراتيجية في العاصمة، ناهيك عن سيطرتها على بلدات كبيرة في الجنوب والوسط والشرق.
معركة الجسور
منذ أن بدأت الحرب، ظل الجيش السوداني يتقاسم مع قوات الدعم السريع السيطرة على الجسور والتحكم فيها، كليا أو جزئيا، ما جعل الحرب والقصف المتبادل يتركز على مناطق العاصمة التي شهدت حالة دمار واسعة تعطلت خلالها سائر المرافق الحكومية والحيوية.
وللجسور في الخرطوم من الناحية العسكرية أهمية استراتيجية في تأمين وصول الإمدادات الغذائية والعسكرية، وتمكن أي طرف من السيطرة على الجسور تعني تحكمه في بوصلة الحرب وتحكمه في سير المعارك وتوجيهها الوجهة التي يريد.
هذا الأمر كان واضحا عندما دمر الجيش السوداني جسر شمبات” الرابط بين مدينتي أم درمان وبحري، وهو الخطوة التي مكنته من السيطرة على مقر الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون في نوفمبر من العام الماضي، بما اعتبر اختراقا استراتيجيا كبيرا.
وما حدث في العملية العسكرية الأخيرة أن قوات الجيش تمكنت من استعادة السيطرة على أهم الجسور الاستراتيجية من الضفتين، في خطوة مكنتها من التوغل بداخل مناطق العاصمة، وخصوصا جسر الحلفايا الرابط بين مدينة أم درمان والخرطوم بحري.
يضاف إلى ذلك تمكن الجيش من السيطرة على جسري “السلاح الطبي”، “والفتيحاب” فيما يشبه معركة كسر العظم التي زادت من فرص الجيش لفرض السيطرة على المناطق العسكرية الرئيسية في قلب العاصمة في ظل تقلص فرص قوات الدعم السريع في الحفاظ عليها.
هذا التطورات كانت لها تداعيات خطيرة على قوات الدعم السريع التي فقدت كل المنافذ المهمة التي تربطها بالمناطق خارج العاصمة، سوى عبر جسر واحد، هو جسر خزان وهو الجسر الوحيد الذي يربط بين قواتها من أم درمان حتى دارفور، وقد فشل الجانبان في تدميره كونه يقوم على السد الذي يُنظم جريان المياه لصالح السد العالي في مصر.
والمرجح أن تؤدي سيطرة الجيش على هذا الجسر إلى فصل قوات الدعم السريع المتواجدة في العاصمة الخرطوم عن مركز ثقلها المتمركز في إقليم دارفور، ما قد يكسب الجيش ميزات عسكرية جديدة قد تقود إلى تغيير كامل في المعادلات الميدانية لصالح الجيش.
ما يساعد على ذلك هو امتلاك الجيش السوداني اليوم مبررات كثيرة للمضي قدما في عملية الخرطوم، فهو يضع في الاعتبار عودته وسيطرته على المركز السيادي للدولة المتمثل بالعاصمة السياسية والإدارية وربط قواته المتمركزة في مدنها الثلاث وفك الحصار المفروض على كتائبه ومواقعه العسكرية من قبل قوات الدعم السريع وأكثر من ذلك انها مناطق التمركز الصلبة التي أنشأتها قوات الدعم السريع منذ اندلاع الحرب في العاصمة.
خيارات معقدة
المؤكد أن المعارك التي شهدتها الخرطوم منذ بداية الحرب في أبريل 2023م، دمرت أجزاء كبيرة من العاصمة السودانية التي كانت حتى وقت قريب مكتظة بنحو 9 ملايين نسمة، وتتضمّن المرافق السيادية الرئيسية ومقار الوزارات والبنوك والشركات التي كانت تشكّل عصب الحياة السياسية في السودان وتدعم اقتصاده.
لكن المحنة التي شهدتها الخرطوم لا يبدو أنها ستنتهي بالمدى القريب والمرجح أن يشهد القتال فيها مزيدا من التصعيد بالنظر إلى الأهمية الاستراتيجية للعاصمة وما تعنيه السيطرة عليها من دلالات سياسية وسيادية وعسكرية، كونها تمثل العاصمة السياسية والإدارية للبلاد والمقر الرئيسي للحكومة والبرلمان، ناهيك عن كونها المركز الاقتصادي والتجاري والاستثماري الهام في السودان.
ويمكن القول إن النجاحات التي حققها الجيش في العاصمة لا تزال في بدايتها، وثمة طريق طويل يتعين على مجلس السيادة الانتقالي قطعه على الصعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدبلوماسية والعلاقات الخارجية للوصول إلى نقطة يمكن معها القول إن تحرير الخرطوم صار قاب قوسين.
ذلك أن النتائج التي خلصت إليها عمليات الجيش في الخرطوم حتى الآن، لا تُرجح فرض الجيش سيطرة كاملة على العاصمة، في ظل استمرار سيطرة الدعم السريع على الجزء الثالث من العاصمة وهي المنطقة الشمالية، ناهيك عن تمركزاته القوية في العديد من المناطق الاستراتيجية داخل العاصمة.
وهذا التواجد بالنسبة لقوات الدعم السريع سيكون مصيريا، لكونه يمثل آخر الفرص المتاحة في توجهاتها المعلنة لفرض تواجد عسكري قوي في العاصمة، ما يعزز من الاحتمالات أن تستميت في هذه المنطقة مهما كان الثمن.
واحتمالات أن تذهب قوات الدعم السريع لخوض حرب شوارع طويلة الأمد في العاصمة ليست بعيدة، وهو خيار لا شك سيكون صعبا ومعقدا وسيفرض على الجيش استخدام تكتيكات حذرة لتتجنب تدمير البنية التحتية وإلحاق الضرر بما تبقى من السكان المدنيين.
ومن غير المستبعد أن يواجه الجيش حتى في حال تحقيقه انتصارات استراتيجية مشكلات في كسب التأييد الشعبي في ظل غياب الرؤية السياسية لدى مجلس السيادة الانتقالي في الوقت الراهن الذي تنصب فيه كل الجهود لحسم المعارك، في ظل حالة من التنافر القائم بينه والقوى السياسية.
وتتعين الإشارة هنا إلى أن الظروف الدولية والإقليمية لا تزال تلعب دورا مهمًا في تعزيز أو تقويض قدرات الجيش من نواحي الدعم العسكري واللوجستي، وهو أمر يحتاج من السلطات السودانية إلى بذل جهود مكثفة لتجاوز العديد من الملفات التي تطرحها هذه الأطراف من أجل تقديم الدعم للجيش.