الثورة ومعالجة الواقع الجديد

عبدالرحمن مراد

نعيش هذه الأيام زمنا ثوريا متعاقبا وأمام مثل هذا الزمن المتعاقب الذي يذكرنا بمفردة الثورة كوسيلة حرة ومستقلة للبناء والتغيير ينبغي الوقوف برهة حتى نتأمل هذا الواقع ونحاكمه وفق متطلبات ومبادئ البناء والتغيير والتفاعل مع الضرورات، فنحن اليوم بحاجة إلى التحليل والنقد وإعادة تشكيل وبناء جسور التواصل وإلى مقاربات سوسيولوجية علمية عقلانية، لمشكلات مجتمعنا العربي وتحدياته الثقافية والحضارية فالحالة الثورية التي حدثت لم تكن إلا تعبيرا عن تناقضات موجودة في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية وهي تمثل ذروة تفاقمها في الواقع .
ومعالجة الواقع الجديد – بالنقدً والتفكيكً – على ضوء أبرز الأدبيات العلمية والفكرية والأكاديمية المعاصرة أصبح ضرورة ثورية في سبيل توظيف ذلك الإنتاج الضخم ومفاتيحه النظرية لتحليل إشكالية مفهوم الثورة والهوية وتداخلهما مع ما تطرحه الرؤى الثورية التي اجتاحت مجتمعاتنا العربية في ظل مناخ ما يسمى الربيع العربي، فالثورة والهوية تركا في واقعنا مصفوفة من التحديات، نشهد آثارها حولنا، تشظيًا وتفككًا للمشتركات الجامعة، وتضخمًا غير مسبوق للانتماءات والولاءات الطائفية والمذهبية والاثنية.
فحديثنا عن الثورة كحالة تبدل وتحديث لا يعني الانتقاص من قيمة المراحل – وهو فهم دأبنا عليه – ولكنه يفترض أن ينزاح إلى حركة التجديد والتحديث فالحياة في تطور مستمر والجمود هلاك وتحلل وتأسن، وهو حالة غير لائقة بالتمدن البشري في كل مراحل التاريخ، وفي المقابل فإن الوقوف عند نقاط مضيئة في الماضي لا يعني تطورا وثورة, بل يعني الاستسلام والهزيمة لشروط الواقع، وأيضا فهما قاصرا للحدث وتموجاته وإرهاصاته، فقدرة أي حدث تقاس من خلال الأثر الذي تركه في البناءات وليس من خلال الموقف الوجداني والانفعالي منه .
هناك من المفكرين من يرى أن ثمة علاقة وثيقة – وهي حاضرة بقوة – لدراسة إشكالية الهوية والثقافة المتحركة والثورية من جهة، وبين الوعي الاجتماعي والأيديولوجيا من جهة ثانية، وتكمن الفكرة الأساسية في دراسات الثقافة والهوية والوعي الجمعي في تحليل التحولات التاريخية التي تؤدي إلى تدمير دائم للأشكال الاجتماعية القديمة، لتحل محلها أشكال جديدة كمسار ثوري متحرك وفاعل .
وأهم الخصائص الأساسية للثقافة الثورية التحولية التي يتفق عليها علماء الأنثروبولوجيا والاجتماع هي: اللغة، الخصوصية التاريخية، الاستجابة للحاجات الإنسانية، الشخصية الأساسية كمدخل لفهم الثقافة الثورية .
ولا بد أن نعي أنه عندما تبلغ الهيمنة الثقافية درجة متقدمة، يصبح معيار التقييم والمفاضلة بين الثقافات محصورًا في تقليد “النموذج” المتفوق، وتعيش الثقافة المغلوبة أزمة هوية، تحتاج الثقافة – بما هي هوية ناقصة في جوهرها- إلى أن تستكمل ذاتها بالدولة، لتصبح هي ذاتها حقيقية، فقد أرست الثقافة بصفتها سياسة قاعدة “الدولة – الأمة”.
فالهوية ظاهرة حركية مستمرة في التاريخ، تكتسب المعنى والمضمون، كتجربة إنسانية خاضعة لصيرورة العيش والصراع وتحديات الواقع، إنها معطيات وعوامل تمنح الإنسان، بصفته الفردية، والمجتمع كإطار تفاعلي للجماعة، الشعور بالوجود والانتماء والمصير المشترك، وحين يضعف هذا الشعور ويسير في طريق الاضمحلال والضمور تواجه الجماعة مصير التفكك والضياع والتيه الأمر الذي يجعل الجماعات لقمة سائغة لحركات الاستعمار .
ومن هنا يبرز السؤال الذي يقول :
– ما الذي دفع بالوعي العربي نحو منحدر الهويات الطائفية والمذهبية والإثنية والقبلية، من خلال إحياء كيانات ما قبل الدولة الوطنية في زمن ثورات الربيع العربي ؟
لقد تسبب الطابع العسكري لأنظمة الحكم الثورية العربية في القرن العشرين في أزمة الهوية، وفشل الدولة القطرية، وفشلت في إدماج مكوناتها الأولية القبلية والطائفية والمذهبية في بنتيها، بل الثابت أنها عززت المكونات الأولية وسعت إلى توظيفها كأدوات في صراعها للاستحواذ على السلطة، لذلك فالدولة العربية فشلت تمامًا في بناء نماذجها القومية أو الوطنية، بل فشلت أيضًا في بناء الدولة ذاتها، كمؤسسات وإطار للمواطنة.
وهذا الفشل عمل على تنمية جذور العنف، وجذور الحرب المعولمة، ومهد الطريق إلى السلاح ومثل ذلك ظاهرة متأصلة في البنية التاريخية للنظام العالمي، وهي في التشكيلة التاريخية للهيمنة الغربية المتجذرة في فائض القيمة التاريخي منذ القرن الخامس عشر وما تلاه.
فالشيء الأساسي في التحليل البنيوي للهيمنة الغربية، ليس محصورا في الميل إلى الحروب بل أيضا في تركيزه على تشكيلة فائض القيمة التاريخي – أي البناء الطبقي وسيطرة طبقة على حقوق الطبقة الاجتماعية المنتجة -، فالموجة الأولى للغزو، والنهب، والتغلغل، والاحتلال، كانت لضرب المنطقة الإسلامية العربية في هويتها وفي ثقافتها وفي مرتكزات العدالة الاجتماعية التي يؤكد عليها الدين الإسلامي الذي يجرم النهب والغبن والاستغلال .
لقد حملت حركات التحرر في القرن الماضي الكثير من الإجابات عن السؤال الحضاري وقطعت شوطا – قد يكون صائبا أو خاطئا لكن له حظ وأجر المجتهد – في التفاعل مع السائد ووضعت شروطا جديدة في علاقة الإنسان بالدين وبالعلم وبالكون وبالحضارة والمجتمع والاقتصاد والتقنية والفن والسياسة وأن شاب ذلك البطء في حركة التطور والعنف في أحيان كثيرة كصفة لازمة للحركات الثورية في ذلك الزمن إلا أنها حاولت أن تحدث قدرا من التحديث في سبيل النهضة .
ونحن اليوم مطالبون بحل الكثير من الإشكالات وفق معطيات التطورات المعاصرة والمستويات الحضارية المتعددة حتى نواكب العصر ونؤثر به كما نتأثر به .

قد يعجبك ايضا