عملية التوغل العسكري التي نفذتها القوات الأوكرانية في عمق الأراضي الروسية بمقاطعة كورسك الحدودية نقلت الحرب الدائرة بين الجانبين منذ أكثر من 30 شهرا نحو منعطف جديد، قد يحول – ما تسميه موسكو “عملية خاصة” – إلى حرب مفتوحة بعد أن ذهبت كييف إلى نقل الحرب إلى الأراضي الروسية أملا في جولة مفاوضات أخيرة تبدو بعيدة المنال
الثورة / تحليل / أبو بكر عبدالله
مع مضي المعارك المحتدمة بين الجيشين الروسي والأوكراني في مقاطعة كورسك الروسية الحدودية نحو أسبوعها الثاني تتشكل معادلات جديدة فرضها التغيير في المواقف الغربية وكذلك الخسائر الأوكرانية الكبيرة التي فرضت هي الأخرى تكتيكات أوكرانية بنقل الحرب إلى الأراضي الروسية لتكون طريقاً لمفاوضات جديدة على قاعدة “الأرض مقابل الأرض”.
وحتى اليوم تبدو القوات الأوكرانية قد نجحت في أول توغل عسكري في الاراضي الروسية بعد أن نجحت بعض ألويتها المدربة تدريبا عاليا من التسلل إلى مقاطعة كورسك الروسية الحدودية والسيطرة على 84 بلدة بما فيها بلدة سودجا التي تبعد 8 كيلو مترات عن الحدود الأوكرانية.
وكان اللافت هو تأخر القوات الروسية في تحرير المناطق المسيطر عليها وانهماكها في عمليات إجلاء لمئات الآلاف من المدنيين وتعزيز مواقعها في مناطق مجاورة لكورسك دون أن تتمكن من صد عملية التوغل أو حتى وقف تقدم الجيش الأوكراني الذي شرع بإنشاء مكاتب عسكرية لإدارة البلدات المسيطر عليها بداخل المقاطعة الروسية.
هذه التداعيات الدراماتيكية دفعت كييف إلى إعلان شروط للانسحاب من المقاطعة الروسية تقضي بإفراج موسكو عن جميع الاسرى الأوكرانيين والانسحاب من المناطق التي ضمتها روسيا إلى أراضيها واعتراف موسكو بوحدة الأراضي الأوكرانية وهو الشرط الذي قال الرئيس الاوكراني زيلينسكي أنه غير قابل للتفاوض.
عملية مفاجئة
طبقا للروايات الغربية فقد انتشرت يوم الـ 6 من أغسطس الجاري، وحدات عسكرية اوكرانية في مقاطعة كورسك الروسية، كانت توغلت سرا في المنطقة، وهاجمت بصورة مفاجئة القوات الروسية المرابطة هناك وأسرت عشرات الجنود كما سيطرت على 84 بلدة بالتزامن مع غارات شنتها المسيرات الأوكرانية استهدفت في وقت واحد 4 قواعد جوية ومطارات عسكرية في عملية قالت كييف أنها استهدفت ضرب قدرات موسكو على استخدام الطائرات الحربية.
ومع التقارب المحدود بين الروايتين الروسية والأوكرانية، لا يعرف تماما مساحة الأراضي الروسية التي استولت عليها القوات المتوغلة، وثمة شكوك بشأن مزاعم كييف باستيلاء على 84 بلدة ومساحة تقدر بـ 1150 كيلو مترا، كما أن هناك شكوكا بشأن إعلانها عن تمكن القوات الأوكرانية من التصدي للهجمات الروسية والحفاظ على مراكزها في البلدات المسيطر عليها.
بالمقابل بدت البيانات الصادرة عن روسيا بشأن الوضع في كورسك محل شك سواءً في إعلانها إحباط المحاولات الأوكرانية للتوغل أم بحجم الخسائر الأوكرانية التي قالت روسيا إنها ناهزت 2030 جنديا وأكثر من 341 من الدبابات والعربات والناقلات وأنظمة الصواريخ ومنصات الاطلاق والمدفعية وضربها احتياطيات القوات المسلحة الأوكرانية في بعض المناطق القريبة.
ذلك أن انتشار قوات الجيش الأوكراني استمر حتى اليوم الـ 11 في العديد من البلدات الروسية منذ توغلها مع امتداد المواجهات نحو منطقة بيلغرود المجاورة في حين لم يعلن الجيش الروسي تحرير سوى منطقة واحدة من بين 24 قال إن القوات الأوكرانية سيطرت عليها في بداية العملية.
أهداف مرتبكة
منذ اليوم الأول بدا أن هناك حالة إرباك لدى السلطات الأوكرانية في جانب تحديد أهداف عمليتها العسكرية في الأراضي الروسية والتي كانت تتغير بصورة مستمرة حيث أعلنت كييف في البداية أن هدفها السيطرة على محطة كورنوفو للطاقة الذرية القريبة من كورسك، لإجبار موسكو على الانسحاب من محطة زاباروجيا، قبل أن تعود لتقول إن الهدف هو السيطرة على مدينة سودجا الروسية التي تقع في إطارها محطة غاز روسية تمثل آخر نقطة شحن تعمل حالياً لنقل الغاز الطبيعي الروسي إلى أوروبا عبر أوكرانيا.
وتاليا أعلنت كييف أن الهدف من عملية التوغل هو انشاء منطقة عازلة لحماية منطقة سومي الأوكرانية الحدودية بعد أن حشدت موسكو قواتها بالقرب منها لاقتحامها، قبل أن يظهر الرئيس زيلينسكي ليقول إن الهدف من عملية التوغل في الأراضي الروسية هو إيجاد صيغة سلام عادل من خلال تسوية دائمة وعادلة تستخدم فيها كورسك كورقة للتفاوض على انسحاب روسي من المناطق الأوكرانية على قاعدة “الأرض مقابل الأرض”.
الارتباك الأوكراني بشأن أهداف العملية يعزى في الواقع إلى حالة الانقسام والخلافات في صفوف القيادة العسكرية الأوكرانية، فالعملية جاءت في عهد القائد الجديد للجيش أولكسندر سيرسكي الذي تبنى استراتيجية جديدة لنقل الحرب إلى الأراضي الروسية في ظل رؤى مغايرة للقادة العسكريين الذي رأوا في ذلك مخاطر قد تقود إلى خسائر فادحة خصوصا وأنه قد يجر موسكو إلى حالة تصعيد عسكري كبيرة، ليست في كل الأحوال في صالح أوكرانيا التي تعاني من مشكلات كبيرة في التسليح والتعبئة والذخائر وعدم القدرة على مواجهة التقدم الروسي في جبهات الحرب الرئيسية.
ويبدو أن التوجه المؤيد لنقل الحرب إلى عمق الأراضي الروسية لاقى تأييدا أكبر في الآونة الأخيرة نظرا لحاجة القيادة الأوكرانية بث رسائل إلى الداخل الاوكراني والغربي بقوة الجيش الأوكراني وقدرته الاعتماد على نفسه في المرحلة القادمة حتى لو تخلت عنه أمريكا في حال فوز المرشح الجمهوري دونالد ترامب بالانتخابات أو قررت أوروبا تقليص دعمها العسكري لأوكرانيا.
قراءة مغايرة
رهان كييف على عملية التوغل في الأراضي الروسية لإحياء جولة مفاوضات ندية لم يكن واقعيا بما يكفي، فتجارب الأزمات الدولية تؤكد أن العامل الحاسم في ذلك هو الموقف العسكري الميداني ويصعب توقع أن التوغل الأوكراني المحدود في كورسك قد يحقق ذلك في ظل القدرات الروسية على تحييده وانعدام الموارد الأوكرانية الكافية للصمود أو المناورة.
وإعلان كييف عن هدف تغيير المعادلات الميدانية بنقل الحرب إلى الأراضي الروسية وإرغام موسكو على نقل قواتها من خطوط المواجهة الرئيسية إلى مناطق أخرى لتشتيتها كان حماسيا ودعائيا أكثر من كونه هدفا استراتيجيا، وجاء فقط بالتزامن مع استلام الجيش الأوكراني طائرات F-16 الغربية في ظل مساعي الرئيس زيلينسكي إبقاء قواته في كورسك لحين الانتخابات الأمريكية لغرض دعم المرشحة الديموقراطية كاميلا هاريس.
هذا الامر أكدته التقارير التي كشفت عن أوامر اصدرها الرئيس الأوكراني زيلينسكي لقواته بالمحافظة على هذه المناطق لحين الانتخابات الرئاسية الأمريكية وتأكيده أن قواته لن تمكث في الأراضي الروسية إلى الأبد.
أما الهدف الأوكراني المعلن بشأن تشتيت القوات الروسية فقد بدا حماسيا إذ لم تبدِ القوات الروسية اهتماما كبيرا بما حدث في كورسك لإدراكها أنها منطقة هامشية من الناحية العسكرية وتقدم القوات الأوكرانية فيها لن يمنحها أي أفضلية في العمليات العسكرية في حين وجدناها قد وفرت حماية كافية للمحطة النووية الصغيرة في كورنوفو التي تبعد حوالي 40 كيلومترا عن منطقة كورسك التي توصف بأنها من اقل المنافذ الحدودية الروسية تحصينا من الناحية العسكرية.
هذه المعطيات تؤكد أن عملية التوغل في كورسك استهدفت فقط منح الأوكرانيين جرعة معنويات بعد أن ظلوا لشهور يتلقون أخبار الهزائم من الجبهات الرئيسية وخسارة العديد من المناطق الاستراتيجية، وهي التداعيات التي أثرت بشدة على الموقف العام بداخل أوكرانيا تجاه زيلينسكي وحكومته، ويتوقع أن تتفاقم أكثر في الأيام القادمة مع بدء القوات الروسية عملياتها في كورسك.
ويصعب إغفال أن العملية استهدفت على المستوى الخارجي إحداث تغيير ما في الموقف الأمريكي الذي عبّر عنه مرشح الانتخابات الرئاسية الأمريكية الجمهوري دونالد ترامب، بإعلانه أنه لن يقدم لكييف دولارا واحدا بعد وصوله إلى البيت الأبيض، كما استهدفت توجيه رسائل مطمئنة للحلفاء الأوروبيين بأن الحرب لا تزال مستمرة وبإمكان الجيش الاوكراني الاستمرار في المقاومة أملا في استمرار تدفق مساعدات الحلفاء الغربيين في المستقبل.
ارتباك روسي
لا تقديرات بشأن حجم القوات الأوكرانية التي شاركت في عملية التوغل في الأراضي الروسية غير أن تواصل المعارك هناك بالتوازي مع إعلان موسكو حالة الطوارئ والتباطؤ الروسي في استعادة المناطق الحدودية يشير إلى أن القوات الأوكرانية المتوغلة كانت كبيرة ومدربة تدريبا عاليا وخططت لهذه العملية بعناية فائقة مستغلة نقاط الضعف في الدفاعات الروسية.
والتكتيكات التي اتبعتها القوات الأوكرانية كانت مفاجئة بالنسبة للقيادة العسكرية الروسية التي لم تكن في الواقع مستعدة لها خصوصا وأنها ترافقت مع عمليات ناجحة نفذتها القوات الأوكرانية لتعطيل أنظمة الاتصالات الروسية في تلك المناطق.
وما فعلته القوات الروسية في الأيام التالية لعملية التوغل الأوكراني، لم يكن سوى خطوات أولية ومحاولات لمنع القوات الأوكرانية من تحقيق المزيد من التقدم، وهو الأمر الذي شجع السلطات الأوكرانية على المضي قدما والترتيب لوضع المناطق الروسية المسيطر عليها تحت طائلة الحكم العسكري الأوكراني.
مع ذلك فإن التقديرات تذهب إلى أن عملية الجيش الأوكراني في الأراضي الروسية لم تكن سوى مغامرة قد تتحول إلى كارثة؛ فما فعله الجيش الاوكراني لم يكن سوى تسلل خفي لمساحة محدودة تعاني أصلا من محدودية الدفاعات العسكرية كونها مناطق هامشية ولا يمكن أن تمنح أي قوات تتوغل فيها سوى تأثير دعائي في مقابل كلفة كبيرة.
يدلل على ذلك إقرار الجميع بأن وصول الجيش الروسي إلى هذه المناطق وتطهيرها ليس إلا مسألة وقت حيث يمكنه حشر الوحدات الأوكرانية المتسللة في كماشة يمكن من خلالها تصفية جميع القوات بذات السهولة التي دخلت فيها إلى الأراضي الروسية.
ماذا بعد ؟
المؤكد أن الجيش الروسي سيرد بقوة على العملية الأوكرانية في كورسك بصرف النظر عن التكلفة التي سيتحملها الجانبان، خصوصا في ظل الهدف السياسي للعملية والذي يندرج ضمن سياق الحرب النفسية الهادفة إلى زعزعة الداخل الروسي بدعم غربي واسع النطاق.
وهناك شبه إجماع في روسيا بأن الرد الروسي سيتجاوز الخطوط الحمر التي طالما وضعتها موسكو لعمليتها العسكرية في أوكرانيا بما يجعل الرد العقابي قويا وقد يشمل استهداف شخصيات سياسية ومقار حكومية أو محطات للطاقة.
وعلى أن نجاح القوات الأوكرانية في اختراق المناطق الحدودية الروسية والسيطرة على بعض المناطق مثّل في حد ذاته تطورا مهما منح الجيش الأوكراني لأول مرة فرصة تجاوز الموانع التي طالما فرضتها الدول الغربية الداعمة لأوكرانيا بالسلاح بمنعها من استخدامه في استهداف الاراضي الروسية فإن التعاطي الروسي مع أوكرانيا سيتغير كليا بعد أن أصبحت أوكرانيا من جهة نظرهم خطرا داهما على الأمن الروسي يجب تحييده بصورة كاملة.
وثمة سيناريوهان متوقعان لمشهد التداعيات، الأول هو تمكن القوات الروسية على استعادة السيطرة على مناطقها الحدودية في كورسك خلال ما تبقى من الشهر الجاري والشهر القادم، والثاني فشلها في ردع التوغل خلال هذه الفترة ما سيقود إلى تعقيدات خارجة عن السيطرة ستقود بالمحصلة إلى تأثيرات سياسية وعسكرية بالغة الخطورة على استقرار روسيا.
وفشل القوات الروسية في التصدي للتوغل الاوكراني في أراضيها سيقود بلا شك إلى زيادة الأطماع الأوكرانية الغربية في زعزعة الداخل الروسي وستعمل على تكريس العملية كواقع جديد أيا كان الثمن وأيا كانت درجة المخاطرة بما في ذلك فتح جبهة مواجهات في منطقة بيلغرود التي أعلنت روسيا فيها حالة طوارئ، وهي الخطوة التي سترغم روسيا على سحب قوات كثيرة من خيرسون ودونسك قد تؤدي إلى خسارة مكاسبها الاستراتيجية المحققة في الفترة الماضية.
ما يعزز من تأثير التطورات هذه على الداخل الروسي هو أن خبراءها العسكريين كانوا حذروا سابقا من مغبة عدم إنشاء منظومات دفاعية مناسبة في المناطق الحدودية الرخوة ومن عدم امتلاك قوات حرس الحدود أسلحة ثقيلة.