قبل أي حديث، وأسبق من كلّ حرف، تحية من القلب صادقة حارة ووقفة احترام كامل لليمن، شعبها وقائدها ومجاهديها، تحية من كلّ عربي يستحق هذا الشرف، تحية طيبة زكية يسندها خطاب القرآن الكريم في وصف أهل اليمن “أولو قوة وأولو بأس شديد”، ووصف النبيّ الأكرم(ص): “أتاكم أهل اليمن، هم أرق قلوباً وألين أفئدة، الإيمان يمان والحكمة يمانية”.
تكلم السيد عبدالملك بدر الدين الحوثي، وفي كلّ كلمة ونظرة وإشارة لا يسيطر على القلب أكثر من أن معدن هذا الشعب لا يزال كما هو مدهشًا أصيلًا صلبًا مؤمنًا، وأن فرادته وسمو روحه يظهران أكثر ما يظهران في أوقات المحن الكبرى والتحديات الجسام.
في البداية، فإن هذه الكتابة ليست تحليلًا لخطاب السيد الحوثي، ولا تفسيرًا لكلماته أو نواياه التي جاءت واضحة غير ملتبسة، لكنّها مجرد محاولة لاستجلاء صورة أو لمحة عن العاصفة القادمة في الشرق الأوسط، بالضبط حيث ولدت، وتمددت رقعتها ونيرانها، وستندفع حمم اللافا اللاهبة عما قريب، لتغير أوضاعًا وواقعًا كنا نظنه ثابتًا مقدسًا يعز على التغيير مهما بلغت الجهود والأمنيات.
تأتي أهمية خطاب السيد عبدالملك الحوثي مستندة إلى خلفية الحدث الهائل الذي سبقها، وهو نجاح دولة عربية للمرة الأولى في قصف قلب كيان العدوّ الصهيوني، “تل أبيب”، رغم البعد الجغرافي الهائل الذي يزيد عن 2000 – 2500 كيلومتر، ثمّ في امتلاء هذا الفضاء الجغرافي بوسائط الدفاع الأمريكية المكرسة لرصد وتحييد أي تهديد عسكري قبل الوصول إلى الكيان، وسقوط عدة دول عربية في حبائل الخيانة الشيطانية للدين والدم والشرف الإنساني، ودفاع جيوشها المستميت عن العدوّ وتقديم طرق النقل والإمداد البديلة بعد إغلاق طريق البحر الأحمر وميناء أم الرشراش نهائيًا بقرار يمني كالسيف قاطع.
الضربة اليمنية الهائلة جاءت ضمن المرحلة الخامسة لعمليات الجيش اليمني، ضمن مخطّط تصعيد خلّاق يتوازى مع الوحشية والجرائم التي يرتكبها العدوّ في غزّة، وكلّ مرحلة يمنية كان يتوسع معها النطاق العملياتي العسكري، بما فيه من تحديات استحداث وإدخال أسلحة جديدة إلى المواجهة، والمرحلة الخامسة التي كان أعظم ما فيها العملية “يافا”، تشمل توسيع العمليات العسكرية ضدّ العدوّ الأمريكي والصهيوني في المحيط الهندي والبحر المتوسط، بما يعني أن كامل مساحة فلسطين المحتلة ضمن نطاق العمل اليمني الأحدث، وهو ما لخصه القائد السيد عبدالملك بقوله: “نعلن أن استهداف يافا بداية للمرحلة الخامسة من التصعيد، ونعتبرها معادلة جديدة ستستمر وتثبت بإذن الله وتأييده”.
الرد الصهيوني الذي يستحق أن يوصف بأنه “هوليودي” الطابع، جاء عبر مظاهرة جوية من طائرات F – 35 الشبحية ترافقها طائرات الإرضاع الجوي على طول طريقها الطويل من شمال البحر الأحمر إلى جنوبه، ثمّ اختيار محطات الطاقة ومخازن الوقود في ميناء الحديدة، لمحاولة التسبب بأقصى قدر من الحرائق، وبالتالي إظهار الرد الصهيوني على اليمن وكأنه مرعب، كان العدوّ يبحث من كلّ ما فعله ودبره عن هدف واحد فقط، استعادة الردع، بل أقل من ذلك، استعادة ثقة مستوطنيه في أنه قادر على الردع! وهذا أيضًا اختصره القائد الحوثي بقوله: إن “استهداف المازوت والديزل الذي يجلبه التجار لبيعه للمواطنين هو من أجل الاستعراض مع مشاهد النيران المشتعلة، فالعدو يريد أن يصور لجمهوره الغاضب والخائف من مشاهد النيران أنه حقق إنجازًا كبيرًا ووجه ضربة موجعة لليمن”.
وعن مستقبل عمل محور المقاومة، قال السيد عبدالملك الحوثي: إن “استراتيجية العدوّ الصهيوني من بعد عملية طوفان الأقصى أن يلقي بكلّ ثقله وإمكاناته العسكرية ضدّ الشعب الفلسطيني ومجاهديه في غزّة، وأول ما أثر على الاستراتيجية الصهيونية هو جبهة الإسناد في لبنان التي ضغط فيها حزب الله بشكل مستمر، فجبهة حزب الله ساخنة ومؤثرة، في استهداف المواقع والقواعد والمغتصبات الصهيونية، وساهمت في التخفيف عن الشعب الفلسطيني، وجبهة الإسناد اليمنية فاعلة ومؤثرة على العدوّ الصهيوني، وتوالت العمليات اليمنية الفاعلة على العدوّ بشكل واضح، وكبدته خسائر كبيرة وصولًا إلى إعلانه الرسمي إفلاس ميناء أم الرشراش”.
وفي كلمته الصادقة، قال السيد عبدالملك شيئًا عن اليمن لا يمكن تفويته، ولم يكن يمكن لسواه أن يقوله، حيث قال: “هو شعبي، أنا أعرفه جيدًا، هو سعيد بأنه في مواجهة مباشرة ضدّ العدوّ الصهيوني، هو شعبٌ ثابتٌ شجاعٌ، يستند إلى إيمانه بالله سبحانه وتعالى واعتماده على الله وتوكله على الله، ونحن في هذه المعركة أقوى من أي مرحلة مضت”.
إن البعض قبل طوفان الأقصى وبعده، كانوا مقتنعين بأن الجغرافيا هي عدو اليمن العنيد في مسألة إسناد فلسطين، وأن اليمن من الصقور لكنّه محبوس في قفص عصفور الكناريا، لكن الحقيقة أظهرت تمكّن اليمن من تطويع الظروف القاسية والتضاريس الصعبة الوعرة وجبالها العالية الشامخة والبعد المكاني بألفي كيلومتر من بؤرة الأحداث، فتحولت كلّ التحديات إلى فرص سانحة وواعدة، وآتت الحكمة اليمنية أكُلها، فإذا هي بامتلاكها تكنولوجيا عسكرية متقدمة – تشمل صواريخ فرط صوتية وشبحية – تستطيع إيذاء قلب العدوّ النابض بضربات مباشرة وشديدة الدقة، فيما يتحول موقعه العالي بالنسبة للعدو إلى ما يشبه قلعة بنيت فوق السحاب، كان الظن أن الجغرافيا هي عدو اليمن، لكن الطوفان أثبت أن الجغرافيا هي قدر اليمن وفلسطين العظيم.