قراءة في وثيقة إنشاء الكيان الصهيوني (صك الانتداب)

طاهر محمد الجنيد

 

تكاملت جهود الحلفاء في إيجاد وإنشاء الكيان الصهيوني بعد الانتصارات التي تحققت لهم، تنفيذاً لمخططات سابقة وتفاهمات اعتمدت على الأهمية الاستراتيجية التي تعود عليهم من إنشاء هذا الكيان والدور الذي سيلعبه كقاعدة متقدمة لحماية ورعاية مصالح الدول الأوروبية والغربية بشكل عام، وهنا نجد التزام دول الحلفاء لصالح إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين.. وصولا إلى الاعتراف (بالصلة التاريخية التي تربط الشعب اليهودي بفلسطين وبالأسباب التي تبعث على إعادة إنشاء وطنهم القومي) في فلسطين، وهذا بعد تأكيد دول الحلفاء وموافقتها على (وعد بلفور) ووافقت على أن تكون الدولة (المنتدبة مسؤولة عن تنفيذه) رغم تفرد بريطانيا بإصداره، وذلك من باب تحميل بريطانيا باعتبارها القوة العظمى –آنذاك- مسؤولية التخطيط والتنفيذ.

خطوات تأسيس الكيان الصهيوني
لم يكتف الحلفاء بالموافقة على إنشاء وطن قومي لليهود، بل حددوا خطوات الإنشاء بشكل واضح لا لبس فيه ولا غموض، فقد أعطى صك الانتداب لبريطانيا التدخل في شؤون فلسطين، فنصت المادة (2) على أن تكون الدولة المنتدبة مسؤولة عن وضع البلاد في أحوال سياسية وإدارية واقتصادية تضمن إنشاء الوطن القومي لليهود وفقا لما جاء في ديباجيته .. بمعنى أن السلطات تعمل على تهيئة الأوضاع السياسية والإدارية والاقتصادية التي تساعد على استقبال اليهود من أقطار العالم ومنع المعارضة وتمكينهم من الاقتصاد حتى يفرضوا وجودهم ويقبل بهم الآخرون، ولذلك فقد تحرك الجيش البريطاني إلى جانب العصابات الصهيونية لإفراغ المدن والقرى الفلسطينية من سكانها باستخدام القتل والإبادة لهم، مما جعل الفلسطينيين يقاومون ذلك وينظمون الثورات، لكن استطاع الإنجليز والعصابات الصهيونية القضاء عليها بسبب التفوق في الأسلحة والتنظيم والبطش والإجرام، وغياب الدعم والمناصرة والتأييد من الشعوب العربية والإسلامية.
أما عن بقية الفقرات (ترقية مؤسسات الحكم الذاتي، وصيانة الحقوق المدنية والدينية لجميع السكان)، فكانت هناك مؤسسات قائمة، وأما عن ترقيتها، فمعنى ذلك- وفقا لصك الانتداب- إحلال اليهود في هذه المؤسسات ومنع المعارضة لهم، وعن صيانة الحقوق، فتعني حماية اليهود لا حماية أهل فلسطين، وإلا كيف سيتم ضمان وصيانة حقوق الآخرين وهم سكان فلسطين عندما تتم مصادرة حقوقهم السياسية والاقتصادية والإدارية لصالح المستعمرين الجدد؟
فالصك أثبت لهم حقوقا في فلسطين على حساب أهلها وأيضا حمى حقوقهم في البلاد الأخرى التي يتواجدون فيها، بمعنى أنه صك (حماية ورعاية لليهود أينما كانوا) بقوله (بالحقوق أو الوضع السياسي مما يتمتع به اليهود في أي بلاد أخرى) واستندوا إلى المادة (22) الفقرة الثامنة من ميثاق عصبة الأمم.

صلاحيات تامة في الإدارة والتشريع
أعطاها الصك للدولة المنتدبة في المادة (1) ورغم أنه يؤكد مسؤولية بريطانيا عن صيانة الحقوق المدنية والدينية لجميع سكان فلسطين بغض النظر عن الجنس والدين وهي مزاعم كاذبة وسياسة إجرامية تعتمد على أن (الغاية تبرر الوسيلة)، وفي المادة (4) اعتراف بالوكالة اليهودية ملائمة عامة لإسداء المشورة إلى إدارة فلسطين والتعاون معها في كل الأمور، فالمستشار هيئة يهودية، تعترف لها دولة بالشخصية المعنوية، وتستشيرها في كل أمور فلسطين ولصالح اليهود وتسكينهم وتسليمهم فلسطين وخاصة (الأمور التي قد تؤثر في إنشاء الوطن القومي لليهود ومصالح اليهود في فلسطين) وأيضا يعترف بالجمعية الصهيونية كوكالة ملائمة، ويمنحها الصلاحية للقيام على أمر دعم اليهود الراغبين في المساعدة في إنشاء الوطن القومي لليهود، وجاءت المادة (5) لتؤكد عدم جواز التنازل عن أي جزء من فلسطين لدولة أجنبية أو تأجيره، أما اليهود فهم ملاك بموجب الصك، والمادة (6) أوجبت تسهيل هجرة اليهود وفي أحوال ملائمة، وتسكينهم في الأراضي الأميرية، والأراضي الموات، بمعنى تسليم الأرض لهم وتحت تصرفهم ولا يستثنى من ذلك إلا ما كان لمنشآت عمومية، فكل الأرض صالحة للمستوطنين وبرعاية أممية.

إعطاء الجنسية الفلسطينية لليهود
منح الصك إدارة فلسطين المشكَّلة من المندوب السامي اليهودي البريطاني، ومستشاريه من الوكالات اليهودية، حق منح الجنسية الفلسطينية لليهود الذين قد يتخذوا فلسطين مقاما دائما لهم، المادة (7) وبموجب قانون وهنا نجد أن جميع اليهود حصلوا على الجنسية الفلسطينية أولا، ولما استولوا على الأراضي والممتلكات وطردوا أصحابها سنوَّا قوانين الجنسية التي تجعل اليهود جنسية راقية (أ) يتمتعون بكامل الحقوق، والفلسطينيون مواطنون فئة (ب) محرومون من جميع الحقوق، ما يؤكد النظام العنصري في التمييز والفصل بين السكان.
وأطلق صك الانتداب سلطة الاستيلاء على الأراضي الفلسطينية، كما جاء في المادة (11) وأوجب عليها مراعاة (الرغبة في تشجيع حشد السكان في الأراضي وتكثيف الزراعة)، وبالاتفاق مع الوكالة اليهودية (بإنشاء أو تسيير الأشغال والمصالح العمومية وترقية مرافق بالبلاد)، بمعنى تسليم الإدارة وكل شيء لليهود وأيضا توزيع الأرباح، وتشكيل القضاء والعلاقات الخارجية، وإنشاء القوات الأمنية تحت إشراف لجنة الانتداب والمستشارين اليهود، ولأن فلسطين كانت مكتملة البنية التحتية من طرق وسكك حديد ومرافئ، فإن استخدام ذلك يكون لمصلحة اليهود، فقد أعطى الصك في المادة (18) منه مواطني وشركات الدولة المنتدبة والدول الأجنبية حقوق المواطنين في الضرائب والتجارة والملاحة والبضائع.

ضمان الحفريات والتنقيبات
والذي يسعى اليهود من خلاله لإثبات نواياهم في هدم المسجد الأقصى وبناء هيكل سليمان، فقد ألزمت المادة (21) جميع الدول الداخلة في عصبة الأمم المساواة في المعاملة فيما يتعلق بالحفريات والتنقيبات الأثرية وعرفت الفقرة (1) الآثار.. كل ما أنشأته أو أنتجته أيدي البشر قبل (1700) سنة ميلادية، لذلك فقراءة فقرات صك الانتداب (28) مادة تمثل عملية تسليم واستلام بين اليهود (الصهيونية العالمية) وبين الحلفاء (الحلف الصليبي الجديد الذي تقوده بريطانيا، وهو حلف قذر يتغير رأسه عندما يشيخ أو يسقط لكن أهدافه ثابتة.
ذلك الحلف أسس الكيان الصهيوني واستعان بالخونة والعملاء، وهو اليوم يحميه من السقوط والانهيار حتى لا تتضرر مصالحه، يحافظ على أمنه القومي ويرى ترديد الصرخة في منطقة معزولة من العالم كمرَّان صعدة خطراً يستوجب سفك الأبرياء، ويتعامى عن الإبادة الجماعية في فلسطين وغزة لذات السبب.
خونة العرب وعملاؤهم لا تعنيهم حماية أمن دولهم حتى لو وصل الأمر إلى التدخل في شؤونها الداخلية مهما كانت، المهم البقاء والحفاظ على الكراسي والسلطة حتى لو تم تدمير الأخلاق والمبادئ والقيم، غزة وفلسطين اليوم دمرت مبانيها وأبيد رجالها وأطفالها ونساؤها، لكن لم يستطع القتلة والمجرمون تدمير عقيدة أهلها ولا أخلاقهم ولا مبادئهم، لم تستطع الدبابات ولا الصواريخ ولا الطائرات أن تزحزح قناعاتهم بربهم ولا بجهادهم وذلك هو الأهم، أما الآخرون فقد خسروا أخلاقهم وقيمهم ودينهم بموجب أوامر وتوجيهات الحلف الصهيوني الصليبي، بدون خسارة طلقة واحدة، بل بموجب مراسيم الخيانة والعمالة والنفاق، وهنا يمكن القول: إن من باع فلسطين هم العملاء والخونة، أما أهلها فلم يفرطوا فيها وسفكت دماؤهم قرابين للحرية والإيمان والشهادة في سبيل الله.

قد يعجبك ايضا