احتمالات الحرب الكبرى في الجبهة اللبنانية

حسن نافعة

 

للصراع مع الكيان الصهيوني ديناميكيته الخاصة، والتي تختلف من جولة لأخرى، باختلاف العوامل التي أدت إلى تفجيرها، ودوافع الأطراف التي ترغب أو تضطر للمشاركة فيها.
ولأن حركة حماس كانت هي الطرف المبادر إلى تفجير الجولة الحالية من الصراع المسلح مع الكيان الصهيوني، حين قامت بشن عملية “طوفان الأقصى” في الـ7 من أكتوبر الماضي، وبقرار منفرد لم يسبقه تشاور مع أي من حلفائها المحتملين، بمن في ذلك قادة فصائل المقاومة الفلسطينية المسلحة في قطاع غزة، كان المنطق يقضي بأن يظل الصراع فيها محصوراً بين طرفيها المباشرين، أي بين حركة حماس، من ناحية، والكيان الصهيوني، من ناحية أخرى، مثلما حدث من قبلُ في جولات سابقة.
غير أن عوامل متعددة دفعت أطرافاً أخرى كثيرة، بعضها غير متوقع على الإطلاق، إلى المشاركة فيها، الأمر الذي ساعد على تحول هذه الجولة بالذات إلى صراع بين محورين: الأول يقوده الكيان الصهيوني وتشارك فيه الدول الغربية الداعمة له، والثاني تقوده حماس وتشارك فيه كل فصائل المقاومة وحركاتها في المنطقة.
من هذه العوامل: حجم الإنجاز النوعي وغير المسبوق الذي حققته عملية “طوفان الأقصى”، من ناحية، وطبيعة رد الفعل المتوقع من جانب الكيان الصهيوني، من ناحية ثانية، ومسارعة الولايات المتحدة والدول الغربية إلى تقديم دعم غير محدود إلى الكيان الصهيوني، عسكرياً وسياسياً، من ناحية ثالثة.
ومن دون التقليل من أهمية الأدوار التي أدّتها كل أطراف محور المقاومة في تقديم الدعم والمساندة العسكرية إلى حركة حماس، يمكن القول إن دور حزب الله اللبناني بالذات كان حاسما في تحديد المسار الذي سلكه الصراع في هذه الجولة بالذات، ثم ستكون له تداعيات هائلة على مستقبل المنطقة برمتها.
كان حزب الله هو أول من بادر إلى التدخل العسكري لمساندة حماس، في اليوم التالي مباشرة لاندلاع طوفان الأقصى. وعلى رغم تعقد الأوضاع الداخلية في لبنان، والتي شكلت قيداً كبيراً على تحركات الحزب وحساباته، فإن وضوح رؤيته الاستراتيجية إلى طبيعة الصراع مع الكيان الصهيوني، جعلته يدرك على الفور أن الإنجاز النوعي الذي حققته حركة حماس في “معركة الطوفان”، عبر تمكنها من أخذ الكيان الصهيوني على غرة وإلحاق هزيمة كبرى به في هذه المعركة، سوف يستدعي رداً غاضباً وغير تقليدي من جانب الكيان، لن تقتصر آثاره على حماس أو على قطاع غزة وإنما ستمتد لتشمل المنطقة بأسرها.
لذا، أعتقد أن الحزب بنى حساباته على أساس أنه إذا استطاع الكيان تدمير حماس وإخراجها، عسكرياً وسياسياً، من معادلة الصراع، وهو الهدف الذي أعلن منذ اللحظة الأولى أنه لن يقبل أقل منه، فسوف يتيح له ذلك ليس المضي قدماً في طريق تصفية القضية الفلسطينية فحسب، وإنما أيضاً إحداث خلل جسيم في معادلات القوة وموازينها في المنطقة.
بعبارة أخرى، يمكن القول إن قرار حزب الله المسارعة إلى التدخل عسكرياً في اليوم التالي مباشرة لمعركة الطوفان، يدخل في إطار “الحرب الاستباقية” التي تستهدف إضعاف الكيان والحيلولة دون تمكينه من الإمساك بزمام المبادرة في إدارة الصراع. ويلاحَظ هنا أنه قرر أن يكون نمط تدخله محسوباً بدقة، كي يأتي منضبطاً ومؤثراً في الوقت نفسه.
فهو تدخل يريده منضبطاً، لأنه يجري تحت سقف محدَّد لا يسمح بتحوله إلى حرب شاملة لا يريدها، ويريده مؤثراً في الوقت نفسه، كي ينجح في تخفيف الضغط عن حركات المقاومة الفلسطينية المسلحة في قطاع غزة، وهو ما نجح فيه الحزب بامتياز.
استطاع حزب الله، على مدى ما يقرب من تسعة أشهر، توجيه ضربات عسكرية موجعة إلى الكيان الصهيوني، شملت إسقاط منطاد استراتيجي SKYDEW مخصص للكشف والتحذير من التهديدات المحتملة في منطقة واسعة جداً من العمليات، تم تجميع مكوناته داخل بالون عملاق على مدى أعوام من التعاون الأمريكي الإسرائيلي، ويقال إنه يُعَدّ واحداً من الأكبر من نوعه في العالم. كما شملت هذه الضربات إسقاط عدد من المسيرات المتقدمة تكنولوجيا والباهظة الثمن، وخصوصاً من نوع هرمز 900، وتدمير كثير من القواعد العسكرية ومعدات الرصد والتجسس المتاخمة للمنطقة الحدودية مع لبنان داخل عمق لا يقل عن 10 كم، الأمر الذي أدى إلى تهجير ما يقرب من مئتي ألف مستوطن.
وأجبر جيشَ الكيان، في الوقت نفسه، على الإبقاء على عدد من فرقه النوعية عند الحدود مع لبنان، تحسباً لأي تصعيد مفاجئ في هذه الجبهة. فإذا أضفنا إلى ما يقوم به حزب الله من جهد عسكري يومي في الجبهة الشمالية، ما يقوم به أنصار الله من جهد عسكري بحري لمنع السفن المتجهة إلى ميناء إيلات، وما تقوم الفصائل الإسلامية العراقية من جهد عسكري في جبهات أخرى، لتبين لنا بوضوح أن الحرب على قطاع غزة تحولت عملياً إلى حرب استنزاف حقيقية للكيان الصهيوني، الذي بات يواجه الآن مأزقاً يبحث عن طريق للفكاك منه، وقد يكون التصعيد في الجبهة اللبنانية هو إحدى الوسائل للإفلات منه.
وأشارت تقارير إعلامية متعددة، عربية وصهيونية وأمريكية وأوروبية، نُشرت على مدى الأسبوعين الأخيرين، إلى أن الكيان الصهيوني يستعد لشن حرب شاملة على لبنان. بل إن بعض هذه التقارير يشير إلى أن قرار الحرب اتُّخذ بالفعل، وأن ما يجري الآن من تحركات على الصعيد الدبلوماسي مجرد محاولات تستهدف تهيئة ظروف إقليمية وعالمية أفضل لضمان تحقيقها للأهداف المرجوة منها، والمتمثلة أساساً بإبعاد حزب الله إلى ما وراء نهر الليطاني.
ولأن معظم هذه التقارير واكب إقدام قيادات عسكرية وسياسية صهيونية متعددة على إطلاق تصريحات لم تكتف بالتحريض على شن الحرب على حزب الله، وإنما توعدت أيضا بإعادة لبنان إلى العصر الحجري، بدأ بعض المراقبين يروج حتمية خيار الحرب، وخصوصا بعد أن أكدت تقارير نشرتها مصادر إعلامية رصينة أن إدارة بايدن لن تكتفي بمنح الكيان الصهيوني ضوءاً أخضر لشن هذه الحرب، وإنما ستقف أيضا إلى جانبه في حال اندلاعها، مبررة ذلك بتحميل حزب الله المسؤولية عن فشل المهمة الأخيرة التي قام بها عاموس هوكستين، مبعوث بايدن الخاص إلى لبنان، والتي سعى خلالها لتحقيق الهدوء في الجبهة اللبنانية، عبر فصلها عن الحرب الدائرة حالياً في قطاع غزة.
والواقع أننا إذا احتكمنا إلى الحسابات العقلانية وحدها، فسوف نصل إلى نتيجة مفادها ترجيح استبعاد خيار الحرب في الجبهة اللبنانية، نتيجة أسباب متعددة، أولها: امتلاك حزب الله قوة نيران هائلة تمكنه من إلحاق دمار غير مسبوق بالقدرات العسكرية والاقتصادية وبالبنى التحتية للكيان الصهيوني، الأمر الذي يعني أن الدمار لن يكون مقتصرا على حزب الله أو على لبنان وحدهما، وإنما سيكون متبادلاً في جانبي المواجهة. وتشير مصادر إسرائيلية إلى أنه سيكون في مقدور حزب الله إطلاق ما يتراوح بين 2500 و3000 قذيفة صاروخية يومياً من مختلف الأنواع والأعيرة.
ثانيها: صعوبة تصديق التقارير الإعلامية التي تؤكد حصول الكيان الصهيوني على ضوء أمريكي أخضر لشن الحرب على حزب الله، وخصوصاً أن احتمال تحولها إلى حرب إقليمية شاملة ليس وارداً فحسب، وإنما هو مرجَّح أيضاً. ولأن إدارة بايدن تواجه مأزقاً مستحكماً في جبهة الحرب في أوكرانيا، كما تواجه في الوقت نفسه تحدياً استراتيجياً قاسياً في جبهة الصراع في بحر الصين الجنوبي، فسوف يكون من الحمق الشديد أن تسمح باندلاع حرب شاملة في منطقة لها فيها مصالح هائلة، لا شك في أنها ستصبح معرضة لخطر شديد، وتوجد فيها قواعد عسكرية أمريكية متعددة، لا شك في أنها ستصبح معرضة للتدمير الجزئي أو الكلي، وخصوصاً في حال دخلت إيران طرفاً مباشراً في هذه الحرب.
ثالثاً: غياب أي تصور لمرحلة ما بعد “اليوم التالي”، لا في قطاع غزة ولا في جنوبي لبنان، ثم فإن عودة الكيان إلى احتلال كل من قطاع غزة وجنوبي لبنان، في ظل المعادلات الإقليمية والدولية الراهنة، هو ضرب من جنون مطبق، لن تستطيع أي حكومة صهيونية، مهما بلغت درجة غرورها، أن تتعامل مع كل ما يترتب عليه من آثار أو تداعيات.
قد يقول قائل إنه يصعب إخضاع تصرفات الكيان الصهيوني، وخصوصا في المرحلة الراهنة من مراحل تطوره، لأي نوع من الحسابات العقلانية، وهو قول صحيح. فهو كيان تديره حالياً حكومة شديدة العنصرية وشديدة التطرف، في الوقت نفسه، بل تعتقد أنها تملك من أدوات القوة والتفوق التكنولوجي ما يمكنها من سحق أعدائها في كل الجبهات، حتى لو اضطرت إلى استخدام السلاح النووي في مواجهتهم.
لذا، من الحكمة ألّا نستبعد إقدامها على أي تصرف، مهما بلغت درجة جنوحه، بما في ذلك احتمال شن حرب شاملة على لبنان. صحيح أن خطوة كهذه تبدو مستبعدة كليا، وفقاً لأي حسابات عقلانية أو رشيدة، لكن المنطق يفرض على كل الأطراف العربية والإسلامية المنخرطة حالياً في الصراع مع الكيان الصهيوني أن تكون مستعدة لمواجهة مثل هذا الاحتمال، ليس لأنه كيان فاقد الرشد فحسب، بل أيضاً لأن إقدامه على خطوة كهذه قد يعجّل في نهايته.

أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة

قد يعجبك ايضا