أنظمة الخليج.. بين التشدد والتفسخ والانحلال

طاهر محمد الجنيد

 

اعتمدت السياسات الاستعمارية على إثارة التعددات الاثنية والطائفية والجهوية في ترسيخ وجودها وضمان الولاء واستمرار السيطرة والنفوذ وحظي الوطن العربي بأكبر قدر من الهجمات باستغلال الأنظمة وضياع الفكر والرأي والمتنورين من المثقفين الذين تم استئجارهم ليكونوا جنودا للمحتل ومعاول هدم للمجتمعات تمهد الطريق أمامه وتدافع عن سياساته وتحقر القيم والمبادئ التي تحمي التلاحم، والوحدة بين مكونات هذه المجتمعات، انساق البعض بدافع الاغراء والمزايا التي تم تسخيرها، واحتفظ البعض بأصالته وكبريائه ولم يتجاوب مع تلك السياسات حتى لو كان الثمن هو البعد عن الشهرة والأضواء والبقاء على دكة العاطلين عن العمل والوظيفة.
ولم يقتصر الأمر على المثقفين والسياسيين بل إن الاستعمار استطاع أن يجهز جيشا من المشتغلين بالدين لخدمة مشروعه في التفرقة والتجزئة تحت دعاوى وفتاوى دينية، فذلك يخدم الاستعمار أكثر من أي مسار آخر.
توزعت المهام تحت ظلال أكثر من عنوان، فوجدنا في الحزبية- والشيوعية والليبرالية والإسلامية وفي الإطار الديني، شيعة وسنة، وفي الشيعة أنواعاً، وفي السنة أنواعاً، وكان الاتجاه الأكثر رعاية ودعما وتشجيعا هو الاتجاه الذي ببرر للحاكم سلطانه مهما فعل، فقد تم رفعه إلى مقام المعصومين وهي درجة لم يصل إليها الأنبياء المرسلون إلا لأنهم مبلغون عن الله، الحكم استبدادي لا شورى ولا ديمقراطية والاستئثار بكل شيء والفتاوى جاهزة، ومن يعترض فلا مكان له ولا قيمة.
بدأ المشوار الأول ورأينا توجهات تلك الأنظمة تعتمد على الصبغة الدينية ولكن بأسلوب المغالاة والتشدد في الفتاوى والقول بأن ذلك منهج أهل السنة والجماعة، وهي دعوات تتجاوز الحقيقة إلى اختصار السنة في مذهب الإمام أحمد على أنه هو منهج السلف الصالح، مع الازدراء والحط من بقية المذاهب الأربعة وغيرها وأنها ليست على منهج الجماعة والفرقة الناجية، فإذا كان الإمام أحمد -رحمه الله- صبر من أجل الله ومن أجل حماية الدين، فإن هؤلاء صبروا من أجل السلطان وحمايته وتعبيد الناس له، وشتان بين من جاهد وصبر لإعلاء كلمة الله، ومن صبر وضحى من أجل الحكم والسلطان، استمر الغرب في ترويض الآراء المعارضة التي لم يستطع السيطرة عليها بتقديم بعض التوجيهات للأنظمة هناك، أما الذين يخدمون توجهاته فقد كانوا هم القوة التي يعتمد عليها في تهيئة تلك المجتمعات للموجة الجديدة من التوجيهات والأوامر، والمسألة بين خيارين إما القبول أو الرفض، ففي الأول تكون المكافأة بالمناصب وإغداق المال وغير ذلك من المزايا، أما في الثاني فإن المآل هو السجن والتهم جاهزة والحكم أيضا.
الأوامر صارمة ولا بد من تنفيذها ومن يخالف فالإطاحة به وتولية غيره أمر لا مفر منه خاصة أن القواعد جاهزة ولا يستطيع أي حاكم مهما كان أن يتمرد أو يعلن العصيان أو حتى المعارضة لما يملى عليه ولذلك فقد أصبحت سياسات الأنظمة الخليجية بشكل عام هي الأداة المنفذة لسياسات الغرب، وهي في ذات الوقت البقرة الحلوب التي تدر الملايين من الدولارات وأيضا سوق التصدير للبضائع والمنتجات الغربية من أسلحة وغيرها من منتوجات الغرب والشرق، وهي أيضا الداعم الأساسي لتحطيم وتركيع الأنظمة المعارضة، وتنصيب الأنظمة الموالية للغرب وذلك من خلال تمويلاتها وإمكانياتها، حيث تم الاعتماد عليها في تمويل إخراج الاتحاد السوفيتي من أفغانستان وفي مواجهة إيران وفي تدمير سوريا ومحاولة التآمر على الوحدة اليمنية، وفي السودان وليبيا وكل المآسي التي مولت بأموال الاستثمارات الخليجية وبواسطة تنفيذ السياسات الأمريكية والتوجهات الصهيونية لإعادة رسم خريطة الوطن العربي والقبول بها كأمر واقع من خلال التطبيع الذي ستمثل فيه محور القوة والسيطرة في مواجهة واقع مفكك ورخو تشترى فيه أمراض الفرقة والتشتت والانقسام بكل أشكالها وأنواعها.
وفي غضون سنوات قليلة تحولت الأنظمة الخليجية من التشدد والمجتمعات المحافظة إلى النقيض من ذلك في كل شيء وكانت الأوامر صارمة وحازمة من الإدارات الأمريكية المتعاقبة بتغيير المناهج الدراسية، والخطاب الإعلامي والديني، والهوية والانتماء، فالمناهج تم تغييرها لخدمة التفسخ والانحلال والقبول بالكيان الصهيوني، ووصل الأمر إلى تغيير تفسير القرآن وفي أرض الحرمين الشريفين وبموجب أوامر ملكية رسمية، وتحول الخطاب الإعلامي لخدمة الصهاينة وتوجيه الاتهامات ضد العروبة والإسلام، ومساندة الإجرام الصهيوني ودعمه في جرائمه التي أدانها العالم أجمع ولكن صهاينة العرب الذين غرسهم الاستعمار حان دورهم ليقوموا بالمهمة بدون حياء ولا خجل، فقد انتهى عصر التخفي والإنكار.
الخطاب الديني تم الاستيلاء عليه وأصبح صهيونيا أكثر من الصهاينة حتى لو خالف الكتاب والسنة، أما الإجماع من الصحابة وغيرهم فلا يعتد به إذا خالف رغبات ترسيخ عقائد اليهود والنصارى، فقد أصبحت طاعة اليهود والتولي لهم من صميم الإسلام حسب تخرصاتهم، وصدق الله القائل ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ” سورة آل عمران (100)، اليهود والنصارى أصبحوا هم الأحق بالحماية والرعاية والمودة والإخاء، والمسلمون هم الأعداء الذين يجب استئصالهم واستحلال دمائهم وأعراضهم وليس خذلانهم فحسب بل وصل الأمر إلى تقديم المساعدات لهم لقتل وإبادة المسلمين وبموجب فتاوى دينية صادرة من مراجع تدعي أنها من المسلمين، لكن الحقيقة أنها عقولاً وقلوباً للكفر أقرب منها للإسلام، حتى لو تدثرت بعباءة الإسلام وتمسحت ببعض الشعائر.
وفي الهوية والانتماء استطاعت تلك الأنظمة أن تستبدل العادات والآداب الإسلامية والعربية بأسلوب وأنماط الحياة والمجتمعات الغربية، فعملت على القضاء على الروابط الأسرية والآداب والأخلاق الحميدة وفتحت الأبواب على مصراعيها أمام الانحلال والتفسخ وأنشأت لذلك المراقص والكازينوهات والبارات وحولت المرأة إلى سلعة للمتاجرة بها في أسواق الحفلات الماجنة المختلطة، وبينما يعمل العدو الصهيوني على ممارسة جرائم الإبادة والجرائم ضد الإنسانية ينظم آل سعود مهرجان العري والاختلاط وكأن شيئا لم يكن ولا يعنيه من قريب أو بعيد، وأما نظام الإمارات فقد أقر دينا جديدا وعدل قوانين الأسرة لصالح الاختلاط وإباحة العلاقات الجنسية المحرمة بين المثليين وأرسل الدعم للصهاينة بواسطة الطائرات أحيانا كجسر جوي، وأحيانا جسر بري من خلال السعودية والأردن ثم إسرائيل، ومع ذلك فإن الاستمرار في تعداد المهازل التي وصلت إليها تلك الأنظمة يستعصي على الحصر، وإذا كانوا يستفيدون اليوم من الحلف الصليبي الصهيوني ويعملون على تنفيذ توجيهاته، فإن ذلك لن يستمر إلى الأبد، لأن إرادة الله غالبة والظلم لن يدوم، قال تعالى ” وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا” سورة الاسراء الآية (16).

قد يعجبك ايضا