– المشهد كما يراه العالم والأطراف المنخرطة في الحرب الدائرة منذ طوفان الأقصى في 7 أكتوبر 2023، سواء كانوا في ضفة المقاومة في غزة أو في ضفة كيان الاحتلال، من قوى شعبية صغيرة إلى الدول العظمى الكبيرة، هو مشهد حرب تمتد لثمانية شهور ويعجز خلالها جيش الاحتلال عن تحقيق أي من أهداف الحرب، ويفقد زمام المبادرة، ويفقد قوة الردع. وبالمقارنة مع حرب حزيران 1967 يبدو أن المشهد كان معاكساً، حيث استند كيان الاحتلال إلى فوزه بهذه الحرب ليحقق أكبر أحلامه وليس أهدافه فقط، فقد دمّر أهم الجيوش العربية واحتلّ أكبر مساحات من الأراضي التي كان يحلم بها لإكمال مشروعه التاريخيّ، خصوصاً في الضفة الغربية والقدس الشرقية والجولان السوري، وامتلك بقوة ذلك زمام المبادرة لسنوات وربما لعقود، إذا استثنينا حرب تشرين 1973، التي نجح بإجهاضها عبر اتفاقيات كامب ديفيد وتحويلها من تحدّ إلى فرصة، ومن خلال حرب 67 صنع جيش الاحتلال قوة الردع التي بقي يتحدث عنها منذ ذلك التاريخ وانهارت نهائياً في حرب 2024، بعد تلقيها العديد من الضربات القاسية منذ العام 2006.
– المقارنة المتسرّعة قد توصل إلى الاستنتاج أن الفارق بين المشهدين، يمكن اختزاله بالقول بسقوط دور الجيوش العربية وصعود المقاومات بدلاً منها، لكن ما جرى في حرب 1973 قال إن العطب عام 1967 لم يكن في الجيوش، وإن الخلل في استثمار نتائج الحرب أو المضي بها قدماً حتى فرض معادلات جديدة على الكيان بدلاً من منحه فرصة استثمارها في استرداد زمام المبادرة وإعادة تأكيد قدرة الردع. كما حدث بفعل كامب ديفيد، لم يكن أيضاً بسبب الجيوش، لأن الجانب العسكري من حرب 73 قال بأن الجيوش العربية قادرة على تخطيط حرب والإعداد لها، وخوض غمارها، وتحقيق المفاجأة فيها، وإنجاز النصر العسكري المتمثل بالعبور الى الأراضي المحتلة وتدمير خطوط الدفاع الأولى والثانية والثالثة لجيش الاحتلال، وبالتالي فإن الخلل عام 67 كان في مكان ما من القيادة العسكرية والأمنية والسياسية، لكنه قطعاً ليس في الجيوش التي أنجزت نصراً كان كاملاً قبل أن يبدأ الخلل بفعل التدخل السياسي، بداية لإخراج الجيش المصري من الحرب، ثم لإخراج مصر من الصراع كله.
– لكن بالرغم من حقيقة ما قالته حرب تشرين عسكرياً، لا تزال حرب 2024 أشد تفوقاً، وقد ثبت أن حرب المقاومة تتيح الفرصة لخوض حرب استنزاف طويلة، لا تتسبب بتعريض العواصم العربية والمؤسسات الحيوية في الدول العربية للخطر، لكنها تدفع الكيان إلى حافة الانهيار، ولم تكلف هذه الحرب الاقتصادات العربية وموازنات الدول العربية قرشاً واحداً، ومثلت ذريعة لأي ارتكاب سياسي أو مالي أو امني، كما كان ينسب لنظرية الاستعداد للحرب من جانب الدول والحكومات والجيوش، وهي حرب تخوضها مقاومات تنتمي للجغرافيات الثانوية في البلاد العربية، حيث لا دول غنية ولا دول قوية ولا مجتمعات موحدة، لكنها رغم الجوع والدمار والحصار، من غزة إلى جنوب لبنان إلى اليمن والعراق، تنجح بفعل العكس تماماً في الكيان، فهي مثلما حيّدت العواصم والجيوش والاقتصادات والمجتمعات العربية عن دفع الثمن، جعلت الجيش والاقتصاد والعاصمة والتجمع في كيان الاحتلال يدفع أثماناً باهظة، لبلوغ عتبة الانهيار، وهو ما لم يكن ممكناً نسبته لحرب 73 في أفضل التمنيات.
– ثمة فارق رئيسي بين الحربين يفسره وجود محور المقاومة. وهذا المحور الذي تشكل إيران عمقه الاستراتيجي وسورية عقدة الوصل بين ساحاته، يستند أيضاً إلى جيوش قوية ومقتدرة، لكنه لا يزج بها في ساحات القتال إلا نسبياً وجزئياً، وعند الضرورة القصوى. وهذا المحور ينخرط في حربه بخلفية عقائدية لا مكان فيها للاعتراف باحتلال أي جزء من فلسطين تحت شعار التسوية التاريخية للدولتين، ويضع لنفسه مهمة هي زوال هذا الكيان. وقد أخلص لما أعلنه من قناعة بأن قضية فلسطين هي الأولوية التي يخضع لها سائر بنود جدول أعمال مكوناته، وفي مقدمتها موجبات الاهتمام بشؤون السلطة والسعي إليها ومستلزمات الحفاظ على المكاسب التي توفرها، ومراعاة الضوابط التي يستوجبها ذلك داخل كل بلد وعلى مستوى العلاقات الخارجية. وهذا المحور بسبب إخلاصه لفكرة فلسطين أولوية، ثابر لعقود طويلة على بناء القوة اللازمة لمنازلة الكيان، فنظّم ودرّب وهيكل تشكيلات من مئات آلاف الشباب العرب في بلدان عديدة، وراكم من السلاح والذخائر التي يحتاجها وأتقن تصنيع أغلبها وحتى تفوّق مجتمعاً على قدرة الكيان النارية، وخاض معارك اختبارية سبقت الطوفان قالت له بنضج اللحظة لضربة تغيّر الاتجاه فكان العبور في 7 أكتوبر تذكيراً بعبور 6 أكتوبر وتحية لشهداء ذاك العبور من الجيشين المصري والسوري.
– الأهم في هذا المحور هو أنه على قلب رجل واحد في الإخلاص لفكرة فلسطين أولوية، وقد شهدت الشهور الثمانية ترجمة حسيّة لهذا الإيمان والإخلاص، رغم المزايدات التي رافقت الأشهر الأولى حول مدى جدية أطرافه في ترجمة انخراطها في الحرب، وهو ما أثبتت وتثبت الوقائع أنه ذكاء استراتيجي في كيفية خوض حروب الاستنزاف، وبقاء الوهج لغزة وقتالها ومعاناة شعبها وبطولات مقاومتها، فيتراكم نصر الميدان فوق نصر حرب الرواية التي غيّرت اتجاهات الرأي العام العلمي بفعل ذلك، والأهم هو ما يثبت من وقائع أنه لو كان في جبهة الإسناد الأولى لغزة من هذا المحور التي يمثلها لبنان أنور سادات، يقبل أن ينسحب من الحرب في منتصف الطريق تحت شعار الأولوية الوطنية على القضية المركزية الجامعة لقضايا الوطنيات المختلفة، لوقعت الكارثة وتكرّر ما جرى مع حرب 73، وقد كانت الإغراءات والتهديدات والضغوط الداخلية أكثر من أن تُحصى، ونجحت القيادة التي تمثل المحور في لبنان بالفوز في الامتحان الصعب، وبقيت على إخلاصها وتحمّلت ولا تزال ما تنوء تحت حمله الجبال، ومعادلتها تقول اذهبوا إلى حركة حماس وفاوضوها وعندما تتفقون وتنتهي الحرب في غزة، ستتوقف جبهة لبنان، وما يصحّ في جبهة لبنان يصحّ كذلك في جبهات اليمن والعراق، ويصح ضمناً وبقوة في حالتي سورية وإيران.
– كانت حرب حزيران جولة ربحها الكيان عسكرياً فتعلّمت منها الأمة، وأعدّت لحرب 73، وكانت نهاية حرب 73 بكامب ديفيد جولة ربحها الكيان سياسياً فتعلمت منها الأمة، وجاءت حرب 2024 تترجم تعلم الدروس السياسية والعسكرية وإتقان تجاوز نقاط الضعف ومراكمة نقاط القوة، لننتقل من زمن الهزائم إلى زمن الانتصارات، وكلمة السر هي الأخلاق والصدق والإخلاص والعقيدة، وكلها تختصرها معادلة فلسطين حرة من البحر إلى النهر.
رئيس تحرير صحيفة البناء اللبنانية