الثورة / سارة الصعفاني
يأتي شهر الصيام والفلسطينيون بلا فوانيس وبلا موائد الرحمن الخيرية، يعيشون في مخيمات النزوح في العراء أو متفرقين في بيوت قطاع غزة حتى إن قصف العدو بيتاً لا يموت كل أفراد العائلة، حيلة مشروعة يلجأ اليها الفلسطينيون من أجل البقاء بعد أن دمر الاحتلال الإسرائيلي مدينة غزة إثر عملية طوفان الأقصى التي أثبت الفلسطيني كما يفعل دائمًا أن الحق يغلب القوة.
مساعي وقف إطلاق النار بين المقاومة في فلسطين وجيش إسرائيل خلال شهر رمضان فشلت رغم الاحتجاجات العالمية التي تنادي بالحرية لغزة وقدسية الصيام، إذ صرح الرئيس الأمريكي الداعم لإسرائيل معلقاً بأن التوصل لوقف مؤقت لإطلاق النار بين الطرفين في رمضان ” يبدو أمراً صعباً “.
ومنذ الحادي عشر من أكتوبر تعيش غزة ظروفاً لا إنسانية؛ إذ قطع الاحتلال الإسرائيلي التيار الكهربائي وإمدادات المياه عن القطاع بعد تدميره الهمجي لكل ثابت ومتحرك فيها، وصرح وزير دفاع المحتل يو آف غالانت معترفاً بالدموية والوحشية التي ترتكبها إسرائيل بالقول: ” نحن نفرض حصاراً كاملاً على غزة؛ لا كهرباء ولا طعام ولا ماء ولا غاز. كل شيء مغلق .. نحن نقاتل حيوانات بشرية، ونتصرف وفقاً لذلك”.
ويأتي هذا التصريح بعد 75 سنة من احتلال الصهاينة فلسطين وفرض الحصار وسياسة التجويع والتعطيش والسجن والتعذيب لإخضاع الفلسطيني وتهجيره من غزة ومدن فلسطينية أخرى في القطاع استكمالاً لاحتلال كل فلسطين.
وبعد طوفان الأقصى عاد الحصار شاملاً يصادر مقومات الحياة، فيمنع المحتل عبور شاحنات الغذاء والدواء من ثلاث جهات بينما تغلق مصر معبر رفح، ما تسبب في معاناة مليون ومائة ألف فلسطيني في غزة البالغ عدد سكانها ما يزيد عن مليونين ومائتي نسمة من انعدام كارثي للأمن الغذائي- بحسب تقرير التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي، ونزوح مليون وسبعمائة ألف فلسطيني وفق أرقام وكالة الأونروا، وتمكن البعض من المغادرة باتجاه مدينة رفح جنوباً لوجود مساعدات إنسانية وتوافر المواد التموينية والدوائية إلا أن القصف المتواصل يعيق دخولها، وما يصل منها محدود الكمية، وفي أماكن متفرقة تتطلب العناء والمجازفة، وبخمسة عشر ضعف ثمن السلعة، ووسط تهديدات إسرائيلية باجتياح المدينة.
حصار (17) عاماً
وبدأ التعنت بالحصار الشامل براً وبحراً وجواً منذ عام 2006، حينها وصلت في 23 أغسطس 2008 أول سفينتي تضامن ” غزة حرة ” و”الحرية” مكونة من 44 شخصاً ينتمون لـ 17 دولة محملة بمساعدات إنسانية بعد أن واجهتا تهديدات إسرائيلية وألغاماً بحرية وتشويشاً عرقل وصولهما إلى شواطئ غزة لساعات. كما منعت إسرائيل سفينة المروة الليبية من إنزال شحنة أدوية ومواد غذائية في ديسمبر من العام نفسه.
وبعد طوفان الأقصى برزت القضية الفلسطينية، كما لم يحدث من قبل، ورغم التضامن من شعوب ومنظمات إنسانية أرادت كسر الحصار المفروض على غزة ونادت بالحرية لفلسطين إلا أن المساعدات الإغاثية وإن وصلت بعد مفاوضات وضغوط دولية وتهديدات وخسائر بشرية – كما حدث لسفينة مافي مرمرة مايو 201٠- تظل شحيحة ولا تحتوي الأصناف المطلوبة، وليست بديلا ًعن رفع الحصار وكليًّا وحالاً حيث الموت جوعاً وعطشاً ووجعاً ينتظر الفلسطيني في موطنه.
لكن اللوبي الصهيوني من حكومات دول صنع القرار الدولي ما تزال تدعم إسرائيل؛ لقد حرس مساعدات (مافي مرمرة) الإغاثية ٧٥٠ متضامناً من دول مختلفة، توزعوا على متن ست سفن ضمن ما أطلق عليه ” أسطول الحرية “، وبالرغم من ذلك استخدمت البحرية الإسرائيلية الرصاص الحي وقتلت ١٩ شخصاً وجرحت آخرين.
اليوم تسعى الدول المانحة إلى إيصال المساعدات جواً وبحراً لكن وكالات الأمم المتحدة لا ترى أن ذلك يحل محل التسليم براً، وهذا ما يؤكده مواطنون غزاويون من أن صناديق الإغاثة تلقى في أماكن بعيدة عن مخيمات اللاجئين أو في البحر، ما قد يعرضهم للخطر إن هم جازفوا في ظل استمرار القصف الجوي والمدفعي من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلي، ودونما التفات لقدسية الصوم في كل الديانات.
ما جعل الفلسطيني يعيش ظروفاً كارثية في رمضان زيادة على الخوف والفراق في الحصول على شيء من الغذاء ومياه الشرب النظيفة، حيث وصل عدد سكان المنزل الواحد في مدينة رفح إلى خمسين شخصاً ما دفع الناس لجعل الأولوية في تناول الطعام للصغار وكبار السن، واكتفاء البعض بتناول وجبة طعام كل يومين.
المجاعة صارت واقعاً
فالمجاعة صارت واقعاً معاشاً، حيث فارق الحياة جوعاً وعطشاً ٢٥ فلسطينياً من الأطفال والرضع إلى جانب شابة ومسنين وفقاً لوزارة الصحة بغزة، ” استشهدوا إثر سوء التغذية والجفاف “، وما يزال العدد مجهولاً في مخيمات الإيواء حيث يقول المتحدث باسم وزارة الصحة الفلسطينية -أشرف القدرة- إن عشرات الأطفال يتوفون أسبوعياً بسبب سوء التغذية والجفاف في مخيمات النازحين دون أن يصلوا المستشفيات.
وينتظر الفلسطينيون ما يتاح لهم من حصص غذائية لا تسكت جوعاً ومياه شرب نظيفة بسعة أربعة لتر، على أن المياه المعالجة أصبحت تشرب رغم ملوحتها، ولجأ الناس للطباخة على النار لانعدام الغاز، وتناول نبتة الخبيزة التي يصادف موسم حصادها، وتناول الأعلاف ” شعير مخلوط بالرمل ” بديلاً لدقيق القمح، وتناول حساء جزرة واقتسموا حبة خيار دخلت تهريباً بعد أن أصبحت الخضروات واللحوم شيئاً من الذاكرة، بل تناول الناس لحاء الصبار صبراً واحتساباً حتى لا ينال الإسرائيلي مراده من احتلال كل أرض فلسطين، بعد أن اقتلع أشجار الزيتون، وجعل المدن الفلسطينية مستوطنات إسرائيلية، وأحال قطاع غزة ركامًا حيث صنفت الأمم المتحدة الحرب على غزة بأنها الأكثر دموية في القرن الـ ٢١، حيث قتلت إسرائيل أكثر من (٣٠.٢٢٨)، وأصابت ما يزيد عن (٧١.٣٧٧) فلسطينياً حتى الأول من مارس الجاري وفقاً لإحصائيات وزارة الصحة بغزة، وقدر برنامج الغذاء العالمي أن أكثر من ربع سكان غزة استنفدوا المخزون الغذائي حينها، وحذرت المنظمة الأممية للطفولة يونيسف من أن 90 % من أطفال غزة يعانون من سوء التغذية، وأعلن برنامج الغذاء العالمي إيقاف تقديم المساعدات الغذائية المنقذة للحياة بسبب ” إطلاق النار والنهب “.
وبحسب المرصد الأورو متوسطي لحقوق الإنسان في ورقة سياسات بعنوان ” قطاع غزة: مسرحاً لإبادة جماعية.. ومنطقة مجاعة.. ” فإن تجويع إسرائيل للسكان المدنيين في قطاع غزة سيترك آثاراً طويلة المدى، ولا يمكن تداركها حيث يتراوح معدل ما يسمح بدخوله إلى قطاع غزة من مساعدات إنسانية ما بين ٧٠-١٠٠ شاحنة، اثنتان منهم إلى المحافظات الشمالية، في حين كان عدد شاحنات البضائع والمساعدات التي تدخل القطاع قبل ٧ أكتوبر ٢٠٢٣ يومياً هو ٥٠٠ شاحنة على الأقل. وبلغت الخسارة الاقتصادية منذ عام 2010 حتى 2020 تقريباً ١٦ مليار دولار وفقاً لتقرير مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية ” الأونكتاد “، فكم الكلفة المادية بعد أن تحولت غزة إلى ركام نتيجة القصف الهستيري الصهيوني لمدينة تعد الأعلى تعداداً سكانياً رغم صغر مساحتها.
المؤكد أنها أيام بطعم المر، ولون الدم، ورائحة الدمار مع أصوات الانفجارات والقصف، وخذلان عربي يمتنع عن القتال من المحيط إلى الخليج رغم اليقين أن ما يُتنزع بالقوة لا يُسترد إلا بالقوة، لكنه الفلسطيني لن يترك الأرض مهما حدث، تتوارث القضية الفلسطينية الأجيال بذاكرة لن تنسى مشاهد الموت وصرخات الوجع والفراق الموثقة صوتاً وصورةً، ورغم الظلام والأتربة والركام والجوع والعطش والبرد والرعب، أشعل الفلسطينيون القناديل واقتسموا الرغيف، وأقاموا صلاة التراويح في المساجد المدمّرة، وستعود فلسطين.