كارثة حريق المختبرات ومصنع ميديكا..¿

الواقعة هذه محيرة جداٍ.. غريبة إلى حد لا يصدقها عقل.. مجموعة متناقضات متشعبة.. المتهمون فيها حسب ما ورد في تحقيقات البحث الجنائي هم من شريحة المتعلمين وممن يطلق عليهم باش مهندس باللهجة المصرية وكانوا في مراكز كثير من الناس يحسدونهم عليها وقد عضوا اليد التي امتدت إليهم بعد أن ارتضوا ببيع أنفسهم بأرخص ثمن ومقابل مبالغ مالية لا تساوي حتى لحظة ندم واحدة .. وهناك في ثنايا الأحداث ما هو أكثر غرابة وأعظم ازدواجية وكذا أوسع غموض وإثارة.. و.. وها هي الوقائع وتفاصيلها من البداية..
البلاغ وصل إلى إدارة أمن مديرية بني مطر محافظة صنعاء الساعة الخامسة مساء من يوم الخميس وكان من مواطن اسمه أمين وهو عن حدوث واقعة حريق في مصنع للأدوية يعمل فيه ويقع بمنطقة داعر بني مطر… مضيفاٍ أن اشتعال النار والحريق ما زال بالمصنع.
فتحركوا من أمن المديرية عقب هذا البلاغ إلى محل المصنع بعد إبلاغ عمليات أمن المحافظة وطلب الإطفاء بصورة عاجلة.. وحضرت خمس سيارات إطفاء ثم انتقلوا مع سيارات الإطفاء إلى مكان الحريق بقيادة نائب مدير شرطة بني مطر الرائد رضوان مقصع حيث وصلوا إلى هناك ووجدوا الحريق كان مشتعلاٍ في الطابق الأعلى للمصنع وبالتحديد في غرفة واسعة (مخزن) توجد فيها أجهزة ومعدات طبية عديدة وحديثة انتهت وأكلتها النار جميعها بشكل كامل كما انتقل الحريق إلى غرف مجاورة بنفس الطابق الأعلى.. ولولا أن مبني المصنع الذي وقع فيه الحريق والمكون من أربعة طوابق أو ثلاثة أدوار حسب تقدير وتسمية المهندسين كان مازال قيد الإنشاء والتجهيز والتشطيب ولم توصل إليه الكهرباء وكان في منطقة زراعية خالية من أي مساكن مجاورة ومحيطة لتوسعت الكارثة وباتت أكبر وأعظم بل ولانتشرت نار الحريق لتطال المبنى كله والمنطقة المحيطة به وراحت فيها الأرواح .. وذلك من لطف الله وعنايته .. وهذا ما لاحظه رجال الشرطة آنئذ عند وصولهم ورؤيتهم للحريق.. كما وجدوا في المكان أربعة أشخاص كانوا مصابين وهم من عمال المصنع.. وقد حرصوا وقتها على مشاركتهم مع رجال الأطفاء في إخماد الحريق المشتعل وبعد انتهائهم من ذلك بادروا إلى تطويق المكان وتحريزة والاتصال بعمليات أمن المحافظة وإبلاغها وطلب مختصي الأدلة الجنائية وأيضا إبلاغ وطلب مباحث المحافظة لحضورهم الفوري لعمل إجراءاتهم لأنهم لاحظوا هناك ما يشير للشك بأن الواقعة ربما تكون جنائية وبفعل فاعل وليست نتيجة فعل القضاء والقدر.. وظلوا مطوقين للمكان لتحريزة والمحافظة عليه حتى وصل مختصو الأدلة الجنائية وبعض رجال المباحث بمحافظة صنعاء وكان حضور هؤلاء حوالي الساعة العاشرة مساء وعلى رأسهم العقيد مسعد الصيادي نائب مدير مباحث المحافظة والمقدم إبراهيم البدري مدير فرع الأدلة الجنائية والأخ عبدالله السياغي خبير مسرح الجريمة والأخ خالد دهلم من التحريات وآخرون زملاء لهم من الأدلة الجنائية وإدارة البحث.. حيث استلم نائب مدير المباحث القضية من شرطة بني مطر وباشر مع فريقه كل حسب اختصاصه بإجراء المعاينة والتصوير ورفع الآثار وجمع المعلومات والاستدلالات في المكان من ساعته.. وكان العقيد الصيادي قد تكلف بالانتقال وتولي القضية شخصيا كونه من الضباط القياديين المتمكنين الذين يعتمد عليهم ويتسمون بصحوة الضمير الحي والنزاهة ولا يخافون إلا الله وحده.. وكان هذا التكليف له ومن معه بحسب التوجيه بذلك من مدير مباحث المحافظة العقيد عبده اليحيري وتحت إشرافه عطفاٍ على التوجيه من مدير عام أمن المحافظة العميد يحيى حميد الذي أمر بسرعة التحرك والإجراءات في الواقعة.. وتبين من خلال المعاينة الفنية التي أجراها رجال الأدلة الجنائية لمسرح الحريق ومن رفع الآثار أن الواقعة كانت نتيجة استخدام مادة سائل التينار وهي إحدى المشتقات البترولية وسريعة الاشتعال ورش هذه المادة في الغرفة المخزن التي كانت تحتوي جميع الأجهزة والمعدات والأدوات المحترقة ثم إشعال النار بها بيد فاعلة عمداٍ وأن الحريق جريمة جنائية قطعية والفاعل أو الجناة المجهولون هم من الداخل أو من العاملين بالمصنع والتنفيذ لا يخلو من مؤامرة وخطة مسبقة له أعدت من الداخل أو من الخارج مع الميل لترجيح هذا الاحتمال الأخير بأن التدبير كان من الخارج ثم التنفيذ من الداخل.
وما دلهم على ذلك هو أن اشتعال الحريق كان في نهاية الدوام وفي الدقيقة الأخيرة عند خروج العاملين من العمل بالمصنع وهي اللحظات التي تحدث فيها الضوضاء ويكون كل عامل مشغولاٍ بنفسه وسيتعجل مغادرته للذهاب إلى منزله وأسرته بأسرع ما يمكن دون الانتباه والتفكير بأي شيء آخر.. لا سيما وأن عدد العمال بالمصنع ومن يشتغلون فيه كبير ويبلغ أكثر من مائة وخمسين عاملاٍ وموظفاٍ وهم ما بين عمال ومهندسين ورؤساء أقسام وإداريين ومشرفين وما إلى ذلك ومنهم أجانب غير يمنيين .. وهو ما يعني أن وقت التنفيذ كان دقيقاٍ ومرتباٍ ولم يكن عشوائياٍ.
ولذلك أول ما ركز نائب مدير البحث وفريقه عند مباشرتهم لمهمة التحقيق وجمع الاستدلالات في ذات الليلة هو على العاملين بالمصنع التابع للجبل استثناء لأي أحد منهم صغيراٍ كان أم كبيراٍ وأجنبيا كان أم يمنياٍ.. ولكن واجهتهم في هذه الأثناء مشكلة وهي أن عدد العاملين يزيد عن 150 عاملاٍ موظفاٍ ومن غير الإمكانية أخذهم جميعاٍ إلى إدارة البحث لاستنطاقهم وفتح المحاضر معهم على سبيل التحريات وجمع الإفادات على ذمة الواقعة وبسبب أن مقر المباحث لا يستوعب عددهم هذا الكبير كما أن عملية الاستنطاق كتابياٍ لجميعهم ولكل منهم على حدة قد تستغرق أياماٍ وتتاح خلال ذلك الفرصة لضياع العديد من المعلومات والقرائن المهمة واختفاء دلائل الاشتباه في الأشخاص المجهولين أو أحدهم… ولهذا فكر فريق البحث وقرروا طرح الأسئلة على العاملين بالمصنع شفوياٍ بطريقة مركزة مكثفة ومختصرة مزدوجة تشمل الغربلة وتضييق الدائرة على أقل عدد منهم بحسب القرينة وتصويب المعلومات للاشتباه.
فقاموا ساعتها بجمع كل العاملين المتواجدين وسؤالهم واحداٍ بعد الآخر واستمروا كذلك إلى وقت متأخر من الليل.. حتى ضاقت الدائرة على الاشتباه في أشخاص.. ثم ضاقت إلى أن انحصر الاشتباه واستقر في نهاية المطاف على ثلاثة أشخاص متهمين الأول والثاني منهم يعملان مهندسين وكلاهما في مركز لا يستهان به في المصنع والثالث من العمال الذين مد لهم يده صاحب المصنع وهؤلاء الثلاثة بحسب إثبات محاضر جمع الاستدلالات واتهامهم في البحث هم الأول منهم يدعى صادق وهو مهندس يعمل بالمصنع منذ حوالي سبعة أشهر والثاني يدعى شهاب ويعمل مهندساٍ كذلك منذ شهرين وبعض أيام.. بينما الثالث يدعى حامد وهو عامل يشتغل في المصنع منذ سنة.
وكانت خلاصة التحقيقات وكما جاء في محاضر الاعترافات النهائية مع المتهمين المذكورين والتي كانت محاضر مشهودة أي بحضور مواطنين شهود لدى إدلاء كل من المتهمين باعترافه عن الواقعة ودوره في ارتكابها أو تنفيذها.. أنه كان هناك تخطيط وتدبير تم الاتفاق عليه من قبل لتنفيذ العملية.. وهذا الاتفاق المسبق كان فيما بين المتهمين الثلاثة كمنفذين من جهة وبين الأول والثاني منهم مع أشخاص آخرين من شركات أو شركة أخرى منافسة كممولين ومحرضين من جهة ثانية وبغرض حرق المصنع على المدى الطويل أو على الأقل لفترة معينة.. باعتبار أن مصنع ميديكا لإنتاج الدواء المجني عليه والذي كان قيد الإنشاء والتجهيز الدواء بأنواعه كصناعة يمنية راقية ولم يبق إلا اكتمال التركيب والتشطيب النهائي وبالتالي ينافس ويضرب بإنتاجه إنتاج شركات مماثلة .. ولذلك كان الإسراع والاهتمام بالتخطيط والتدبير لحرق المصنع وتدميره وهو في مهده.
وهذا ما اتضح جلياٍ لفريق المحققين بمباحث المحافظة العقيد مسعد الصيادي نائب مدير البحث والمساعد عبدالغني الحيمي والمساعد خالد دهلم الذين بذلوا جهودا غير عادية في المتابعة وتقصي الحقائق وجمع الاستدلالات وبتفانُ وأمانة وإخلاص حتى توصلوا إلى كشف الغموض والملابسات والحقائق كاملة لواقعة حريق المصنع ومن البداية إلى النهاية.
وكما ورد في محاضر اعترافات المتهمين النهائية والمشهودة بأن دور المتهم المدعو حامد هو إحضار وتجهيز مادة سائل التينار المادة المشتعلة ودور المتهم المدعو شهاب هو القيام برش مادة التينار على الأجهزة والمعدات والأدوات الجديدة والتي مازالت في غالبيتها داخل الصناديق وتم نقلها مسبقاٍ بالغرفة غرفة العينات بالطابق الأعلى بهدف تسهيل تنفيذ العملية وحرقها لتدميرها جميعاٍ في حين دور المتهم المدعو صادق كان قيامه بإشعال النار في الغرفة المرشوشة بسائل التينار وهروبه سريعاٍ والوقت الذي تم تحديده لتنفيذ العملية كان قبل الخامسة مساء من يوم الخميس عند نهاية دوام العاملين بالمصنع وخروجهم للمغادرة.
وكيفية الترتيب والتنفيذ للواقعة حسب اعترافات المهتمين الثلاثة بالنص وأولهم المتهم المدعو صادق الذي سرد الأحداث قائلاٍ:
في الحقيقة أنه قبل حوالي 25 يوماٍ أرسل لي أحد العاملين بالشركة المنافسة واسمه محمد وآخر وهو على معرفة بي سابقاٍ يطلب مني في رسالته أن ألتقيه وأقابله لأمر مهم وحدد لي الزمان والمكان للالتقاء وذهبت إليه في المكان المحدد وطلب مني خلال اللقاء التفكير في إمكانية عرقلة بدء الإنتاج بمصنع ميديكا ففوجئت بهذا الطلب منه وقلت له: إنني مهندس عادي في المصنع وعند بدء الإنتاج سوف يستولي على الإدارة المهندسون الأجانب الهنود ويتم الاستغناء عني… فرد عليِ إذا وافقت على القيام بعرقلة سوف نعيدك للعمل وبفارق مائة ألف ريال فوق راتبك شهرياٍ.. فطلبت منه أن يعطيني مهلة لمدة أسبوع لكي أفكر ثم التقيته مرة أخرى وصارحني في هذه المرة أنه قد تم الترتيب مع زميلي المهندس شهاب ووافق على نفس الطلب وأنه متروك لي ولزميلي المذكور اختيار الطريقة المناسبة لتنفيذ العملية وبعدها بثلاثة أيام تقريباٍ جاء إلي المذكور شهاب وقال لي أنه رتب الأمر فسألته كيف..¿ ولم يرد عليِ ولكنه أخذني إلى إحدى الغرف وهي غرفة الشفط المجاورة للغرفة الكبيرة بالمصنع وأراني هناك دبتين صحة مليئتين بمادة التينار قائلا لي: هذه مواد لإشعال الحريق جاهزة وسوف أرتب لإحراق السقف المستعار بها.. وبعد ذلك بثلاثة أيام قام هو بحرق السقف مع المدعو حامد ولكن اكتشف اشتعال النار في حينه وتم إطفاء الحريق من قبل العمال وهذه كانت المرة الأولى ولم يكن لي دور فيها سوى العلم بها.. ثم التقى بي بعدها (شهاب) وقال لي: لازم تقوم بحريق كبير وقد نقلت المعدات والأجهزة (الحديثة) الجديدة بكراتينها وصناديقها من غرف المختبرات إلى غرفة العينات بالطابق الأعلى, لتسهيل المهمة.. وكانت هذه الغرفة لم تزل بلا باب واتفقنا على تحديد الموعد للتنفيذ وهو يوم الخميس وكذلك على دور كلُ منا نحن الثلاثة وذلك أن (حامد) عليه احضار مادة التينار وهو (شهاب) يقوم برش سائل التينار على المعدات والأجهزة بالغرفة وأنا أتولى إشعال النار والهروب فور ذلك.. وعلى هذا الاتفاق كان التنفيذ في اليوم والوقت المحددين.. وكان المدعو محمد- موظف العالمية- قد وعدني بمكافأة مالية مقدارها ستمائة ألف ريال بالإضافة إلى إعادتي للعمل وفارق مائة الألف فوق الراتب بعد تنفيذ العملية.
بينما ورد في اعتراف المتهم المدعو شهاب بما يتفق ويتطابق مع ما أدلى به الأول المدعو صادق.. مع اختلاف أن شهاب كان اتفاقه مع شخص آخر غير المدعو محمد الذي اتفق مع صادق على حرق المصنع, واسم ذلك الشخص الآخر الذي طلب من شهاب واتفق معه على حرق المصنع وأن المذكور وعده بمكافأة مبلغ خمسين ألف دولار بعد تنفيذ المهمة.. في حين بقية اعترافه كان نفس ما سبق وسرده المتهم الأول المدعو صادق.
وكذلك جاء اعتراف المتهم الثالث المدعو حامد والذي كان بذات التطابق حول ارتكاب الواقعة ودور كل منهم ( الثلاثة) فيها مع شركاء آخرين وقد حتى النهاية.
وقد اعتبر رجال التحقيق بالمباحث عقب الاعترافات الصريحة الآنفة الذكر للمتهمين المنفذين الثلاثة القضية هذه ومن وجهة نظرهم أنها من الجرائم التي تمس الاقتصاد الوطني والتنمية والاستثمار الوطني.
ثم تم استكمال المحاضر وإحالة القضية مع المتهمين إلى النيابة المختصة في طريقها للقضاء.. والكلمة الأخيرة والفصل للقضاء.. وهكذا كانت كارثة حريق مصنع ميديكا.
– محاضر الاعترافات وكل الوثائق المتعلقة بالقضية في البحث لدينا نسخة محفوظة منها

قد يعجبك ايضا