الإمبراطورية المالية للولايات المتحدة الأمريكية: الحروب والأزمات في صلب الفكر الرأسمالي
جميل احمد راوح
الولايات المتحدة الأمريكية هي دولة تقتات على الحروب منذ عام 1776م أي منذ استقلالها وهي في حالة حرب دائمة ومستمرة خاضت عددا من الحروب والغزوات بعيدا عن حدودها آلاف الأميال، انخرطت الولايات المتحدة منذ عام 1776حتى عام 2017 في 188عملية عسكرية صغيرة وحرب كبيرة.
صناعة الحروب هي جزء من العقيدة السياسية والاقتصادية الأمريكية وتركيبتها الايديليوجية وبطبيعة الحال هي جزء أصيل من عقيدة الفكر الرأسمالي الذي يعتبر الحروب الأداة الملحة والمثالية لإصلاح الاختلالات الناتجة من داخل النظام ذاته، وإعادة التوازنات داخل النظام الرأسمالي.
النظام الرأسمالي بدون ادنى شك يحسب له كفاءة نسبية من ناحية الإنتاج فقد فجر طاقات إنتاجية هائلة وهذا مدفوع بالرغبة للربح كمحفز رئيسي وتتمثل إحدى صوره في الغاء العلاقة بين المنفعة المتأتية من السلعة وسعرها، ولكن النظام الرأسمالي عندما يعمل يخلق اختلالات اقتصادية من داخل النظام نفسه بسبب طبيعة النظام الاجتماعي في النظام الرأسمالي السياسي هذه التشوهات والاختلالات ملازمة له تتجلى في عدم المساواة كاتجاه عام وبصورة رئيسية أزمة فائض في الإنتاج، تتولد أزمة فائض الإنتاج من قدرة هذا النظام على الإنتاجية بشكل كبير، ولكن بسبب طبيعة هذا النظام الذي تتركز فيه الأموال في أيدي قلة، لا يوازي هذا الفائض في الإنتاج طلب كاف يستوعبه بمعنى أن الدخل المتاح للأغلبية اقل من أن يتحول إلى طلب فعال على ما تنتجه الآلة الإنتاجية الرأسمالية.
وهذه القلة المذكورة أعلاه هي من تتحكم بالعملية الإنتاجية وتوزيع الدخول يتم توزيع الأعباء المالية بطريقة غير عادلة وهذا ما يؤدي إلى تركز الثروات في جيوب فئة قليلة. مثل هذا التناقض المصدر الرئيسي الأول للازمات في النظام.
جاء العالم والمفكر الاقتصادي جون مينارد كينز وهو من داخل الفكر الرأسمالي وقام بثورة في الفكر الرأسمالي تراجع فيها عن إحدى الركائز المهمة في فكر هذا النظام وهو عدم تدخل الدولة في السوق وان السوق قادر على أن يصحح نفسه بنفسه ليقول كينز لابد من أن تتدخل الدولة في فترة ما لإنقاذ النظام المتكلس أو الشلل الذي يصيب السوق المتمثل بالركود بإنشاء مشاريع بنية تحتية ضخمة تخلق دخولاً جديدة وتضخ دماء جديدة في النظام الاقتصادي.
في فترة ما، بعد ذلك تم التراجع عن أفكار كينز لتخرج لنا إبداعات مفكري الفكر الرأسمالي بالحروب كأداة لحل المشكلات الاقتصادية تحت قاعدة الحروب والأزمات تزيل بطريقة عفوية أو عنفية اختلالات التوازن المتراكمة في الاقتصاد. وهنا يأتي دور المجمع الصناعي العسكري والنفوذ الذي يتمتع به فيما تسمى الدولة العميقة ومؤسسات إنتاج الفكر الرأسمالي.
ومع تطور الرأسمالية وبزوغ الولايات المتحدة الأمريكية كقوة عالمية صاعدة ظهر لنا نوع جديد من الرأسمالية وهو الرأسمالية المالية كمرحلة متطورة للرأسمالية التجارية والرأسمالية الصناعية وظهرت معها ظاهرة العولمة المالية أي إطلاق العنان للرساميل للحركة في الفضاء العالمي متجاوزة الحدود دون قيود ومن خلال حركتها هذه أنتجت العديد من الاختلالات والمشاكل الاقتصادية التي بدورها عمقت الأزمة في النظام الاقتصادي الرأسمالي.
في ظل هذه الظروف حدث تحول جوهري في موازين القوى داخل النظام الرأسمالي أنتجت لنا “النخب المالية” ومؤسساتها التي غدت تنمو وتتضخم بشكل ملفت وأصبحت اليوم هي من تتحكم بالفضاء السياسي والاقتصادي أصبحت الرأسمالية النقدية أو المالية ومؤسساتها تنمو بشكل لا يستوعبه القطاع الإنتاجي والتجاري وحدثت تغيرات جوهرية في وظيفة النقود التي هي الأصل والمنتج الرئيسي لهذه الرأسمالية الجديدة، تحولت النقود من وسيط للتبادل ولتسوية المعاملات(المدفوعات) إلى مورد أو اصل ومستودع قيمة بحد ذاتها ووسيلة للمضاربات وتم تطويع النظام الاقتصادي الحالي ليتكيف مع هذا النوع من الفكر والنظام، تكريس عقيدة النمو المبني على الاقتراض والاقتراض الاستهلاكي. نتج عن هذا نمو مفرط في حركة الاقتراض يتجاوز الحصافة الائتمانية ليخدم هذه الفئة أو النخبة وهذا ما حدث في أزمة عام 2008 وفي أزمة فيروس كورونا.
أنتجت لنا هذه العمليات التفاعلية والظواهر وضعاً يشوبه العديد من التشوهات والاختلالات تحول الاقتصاد من اقتصاد حقيقي إلى اقتصاد مالي، حجم هذه المؤسسات المالية، قطاع الصناعة المالية (البنوك والمؤسسات المالية وصناديق الثروة وصناديق التحوط)يتجاوز حجم قطاع الصناعة والتجارة أي انه خلق عملية هرمية رأس المال النقدي/المالي اصبح هو في الأعلى والمتحكم براس المال الصناعي والتجاري اللذان اصبحا ثانويين وهما السبب الرئيسي للتنمية، واصبحت هنالك عملية إنتاج نقود من النقود وأصبحت دخول هذه المؤسسات تفوق الإنتاج الحقيقي ووجدنا انفسنا أمام اقتصاد افتراضي، اقتصاد البورصات والمضاربات والمشتقات المالية منفصل تماما عن الاقتصاد الإنتاجي الحقيقي، إنتاج السلع والخدمات، واصبح الأول يعمل فوق الآخر. في ظل هذا النظام القائم الأموال تنمو من تلقاء نفسها وأصبح العائد على الثروة اعلى بكثير من العائد على الجهد حيث أن نوعية الأنشطة المالية التي ذكرتها البورصات والإقراض والمشتقات المالية لا تعود بالفائدة على المجتمع بل تقتصر عوائدها على أصحاب الأموال أنفسهم ما أدى إلى اتساع الفجوة بين أصحاب الأموال وعامة الناس. اصبح إنتاج النقود من النقود عملية مربحة اكثر من تحويلها إلى جهد صناعي أو تجاري وبدلا من أن يكون اقتصاد موارد اصبح اقتصاد نقود (باعتبارها مخزناً للقيمة واصلاً للتداول) واقتصاد ديون وإعادة إنتاج دين من دين، والأدوات المالية والمشتقات غدت أصول الاقتصاد الحقيقي. وهذا التناقض مصدر آخر للازمات داخل النظام الرأسمالي أدى بدوره إلى مزيد من التركيز للأموال في أيدي فئة معينة وإعادة توزيع الثروة بين هذه الفئة.
نعزز الفكرة هذه بمعلومات موجودة ومتاحة إذا أخذنا اقتصاد الولايات المتحدة الأمريكية سنجد أن حجم الصناعة المالية يتجاوز حجم الناتج المحلي الإجمالي بمعناه المعروف وان دل ذاك فأنه يؤشر إلى وجود خلل جوهري وأزمة حقيقية في النظام.
لكي تكتمل الصورة لابد لنا من التطرق إلى آخر تطور للرأسمالية وهي الرأسمالية التكنولوجية أو المعلوماتية “نخب سادة المعلومات” والتي تمثل أبشع صورة للرأسمالية حيث تجاوزت تحويل الإنسان إلى مستهلك وأداة إنتاج ومدين إلى إنسان مستعبد من الناحية الاقتصادية والروحية والفكرية لما تمتلكه هذه المؤسسات من قدرة على التأثير ساعدت فيها الثورة الصناعية التكنولوجية الثالثة والرابعة وما توصلت اليه البشرية من تطور تكنولوجي كان الإنسان يتعرض لتأثير مباشر الآن يمارس عليه التأثير على مستوى اللاوعي العقل الباطن. وهذا النوع من الرأسمالية يعمل بطريقة تكرس الاحتكار وتكرس السيطرة المالية بتسخير التقنيات الحديثة لهذه الأهداف بجعل كل من القطاعات الصناعية والتجارية الحقيقية وحتى القطاع المالي رقمية متحكما بها. أصبحت المنصات التي لا تمتلك وسائل الإنتاج هي من تحكم السيطرة على هذه القطاعات بل وهي من تدير قواعد اللعبة تفرض شروطها وقواعدها الخاصة، على سبيل المثال لا الحصر شركة أمازون.
في الخلاصة، نعود إلى أصل الفكرة أن النظام الرأسمالي بمراحله وتطوراته يحمل عناصر تدميره ومشكلاته بشكل يجعله عاجزا عن الأداء ومن هنا تكتسب الحروب أهمية في ظل هذه الأزمات والتشوهات لتزيل هذه الاختلالات لذلك اصبحنا نرى أن الحروب كآلة تدميرية هي أداة أصيلة في الرأسمالية يعالج بها النظام اختلالاته الداخلية. ويعيد التوازنات بشكل أفقي بين النخب الرأسمالية نفسها(جهة العرض)وبشكل عمودي (جهة الطلب)غالبية الناس وبالتالي بعث الحياة في النظام الاقتصادي.
هذا ما يفسر لنا ارتباط نشأة الولايات المتحدة الأمريكية بالحروب وتبنيها الواضح في سياستها إشعال الحروب وتأجيج الصراعات حول العالم ليس فقط كأداة للحفاظ على نفوذها الجيوسياسي والجيواقتصادي بل كأحد آليات إصلاح العطب الاقتصادي. وهذه هي الطامة الكبرى.
ويخبرنا التاريخ أن الحروب تؤدي إلى تغيرات في تناسب القوى على الصعيد الاقتصادي العالمي المدينون يصبحون مقرضين (دائنين)والدول المقرضة التي كانت دائنة تختفي في بعض الأحيان من الخارطة السياسية. وهذا دائما ما تعمل عليه الولايات المتحدة الأمريكية حيث تحولت في الحرب العالمية الأولى من اكبر مدين عالمي إلى اكبر دائن عالمي.