لا أحبذ ذلك الانفلات للأشياء ، ذلك أن الانفلات يحط من قيمة الأشياء ومن معانيها ومن أثرها الاجتماعي والسياسي والثقافي، كما أن السماح لمشاهير التواصل الاجتماعي من الذين لا يملكون فكرة ويقدمون محتوى تفاعلياً هابطاً يقلل من قيمة الكبائر العظام وينزلها منازل الصغار، فتصغر العظائم ، وتكبر الصغائر ، وهذا أمر غير مستحسن في واقع يشبه ما نحن فيه، وهو في السياق مقياس خاطئ في عالم السياسة، وهو أشد ضرراً في المراحل التي تخوض فيها صراعاً دولياً كالذي يحدث معنا اليوم . موضوع السفينة وما يحدث فيها وعليها وبها من تفاعلات شعبية قد تكون بريئة – أقصد التفاعلات – وقد لا تكون ، يفترض النظر إليه من حيث جسارة الفعل وكبره وعظمته لا من حيث التفاعل الطفولي الذي ينظر إليه علم الاجتماع السياسي، وعلم الانثروبولوجيا، والعلوم الإنسانية المعاصرة ، وخاصة علم النفس السياسي ، بنظرة غير سليمة، تنزله منازل لا نرضى لها الكينونة واحتلال التصورات الجمعية لخاصة الناس وعامتهم . نحن صنعنا ثورة ويفترض للثورة أن تتعامل مع الأشياء بنظرة ثورية رافضة للسائد ومتطلعة إلى الأفضل وهذا الشعور يفترض أن يستمر مشتعلا ولا تطفئه المراحل والتطورات ، فالثورة تعبير اجتماعي رافض للسائد ومتطلع للأفضل ، ويجمع الكل على ضرورتها فهي من سنن الله في التدافع خوف الفساد في الأرض ، لكن الغايات والأهداف تصبح موضوع نقاش ، فكل الثورات التي حدثت في التاريخ دفعت فساداً وظلت غاياتها وأهدافها موضوع نقاش ، ولذلك فكل ثورة جوهرها نبل المنطلق وهي قابلة للتجدد إذا حدث الانحراف في مسارها ، ففي التاريخ الإسلامي وفي القرن الأول الهجري ، يجمع الكل من عرب وعجم على نبل الثورة الثقافية التي قادها الرسول الأكرم محمد- عليه وعلى آله الصلاة والسلام ، لكن حالات الانحراف التي بَّدلت في الجوهر تظل محل نقاش ، ولو نلاحظ هو نقاش مستمر منذ القرن الأول الهجري إلى اليوم . كما أن ثورة الإمام الحسين- عليه السلام- كانت تدفع فساداً وقد نجحت في ذلك من خلال أثرها في الفكر وفي المسار الاجتماعي والسياسي والثقافي ، وليس من خلال النتائج العسكرية الظاهرة التي أفضت إلى خذلان الناس للحق بالركون إلى الباطل ومناصرته ، أو من خلال استشهاد الأمام الحسين- عليه السلام، ذلك أن دم الحسين عليه السلام ظل ثورة متقدة عبر العصور وعلى مر الزمان وسيظل كذلك، وكان تأثير الثورة الحسينية على السفيانيين تأثيرا كبيرا، فقد أحدثت تغييرا في القناعات، كما يؤثر عن يزيد بن معاوية، وماجت الأرض من تحت أقدام آل أبي سفيان ولم تستقر إلا بعد أمد عند المروانيين، وفي كل ذلك الزمن الذي حكم فيه بنو أمية ظلت الثورة متقدة الأوار ولم تخمد جمرتها . فالثورة – كما سلف القول – ضرورة اجتماعية لكن غايتها تظل محل خلاف ونقاش ولو حملت مشروعاً سياسياً ناهضاً، ذلك أن الطبيعة البشرية ذات نزوع إلى الأمجاد والمصالح ، وفي طبائع العرب نزوع دوماً إلى التمحور حول الذات ، فالغاية عند العرب في مدى الأثر الذي تتركه الثورة على مناصريها وليس على جموع الناس ، ومثل ذلك قناعة ثقافية عمل الإسلام على تشذيبها لكنها ظلت دائمة الحضور في تفاصيل التفاعل اليومي للثورات التي قامت في الديار الإسلامية عبر حقب التاريخ . فالحسين عليه السلام لم يثر من أجل دنيا أو منافع أو مصالح بل ثار من أجل تعديل مسار كان يجب أن يعدل قبل أن يصبح ضرره كبيرا وأثره غير قابل للتعديل ، وثورة الحسين عليه السلام تعلمنا روح التضحية من أجل الغايات الكبرى والاهداف العظيمة للأمة وهو المسار نفسه الذي رأينا عليه الشهيد القائد حسين بدر الدين الحوثي، فقد بذل نفسه من أجل غايات كبرى ولم ينتظر غرضاً من الدنيا زائل وكان بمقدوره أن يتفاوض عليه ويناله، وقد عرض عليه يومذاك . ومن هنا يمكن القول أن أي انحراف يحدث في المسار العام لا يخدش نبل الهدف الذي قامت على أسسه الثورة اليمنية المعاصرة ، فالقضية نسبية وهي خاضعة للاجتهاد ، وحتى نستعيد وعينا بذاتنا وبالقيم الثورية الحسينية نحن مطالبون بالتقييم المستمر للتفاعل اليومي مع مفردات الواقع قبل أن يجرفنا تيار المصالح إلى مهاوٍ سحيقة . ثمة ظاهرة تبرز في واقعنا نجد لها تعديلا في القرآن ولا بد من الاحتكام إلى آياته ونصوصه القطعية التي لا تقبل التأويل، ونحن مطالبون كما يؤكد قائد الثورة في الكثير من خطاباته ومحاضراته التواصي بالحق، وقد وقف قائد الثورة كثيراً عند فكرة التواصي بالحق والصبر، وهو يدرك أثر التواصي بالحق والتواصي بالصبر في المسار السياسي والثقافي وأثرهما البالغ في المسار العسكري والاجتماعي، ولذلك لم أستغرب إسهابه وإطنابه في الحديث عنهما ومناقشة أبعادهما في التعديل وأثرهما في سلامة الطريقة والمنهج الذي نراه سبيلا للحياة الحرة والكريمة . ما يحدث في واقعنا اليوم من تفاعلات تترك أثراً غير محمود في المسار ، وهي في غالبها تفاعلات لا تمثل توجهاً عاماً لكنها اجتهادات فردية غير محمودة العواقب وقد ضبطها القرآن الكريم في الآية رقم 94من سورة النساء﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ﴾. ومن باب التواصي بالحق الذي يؤكد عليه قائد المسيرة القرآنية قائد الثورة لا بد لنا من الوقوف أمام الظواهر ومعالجتها فور وقوعها حتى نحد من أثر الانحراف في المسار الثوري، ولنا في تاريخ الثورات عبرة إن أردنا لثورتنا نجاحا، فالتغيير الجذري الذي أعلن قائد الثورة عنه طال أمده، ولا نرى أنه من المستحسن أن يطول به الأمد أكثر، فالاشتغال بالقضايا الخارجية يفترض أن لا يكون على حساب الداخل فترك الحزم في أوانه يورث الندم، وما تستطيعه اليوم قد لا تستطيعه غداً، ولله عاقبة الأمور.