تجليات الطوفان وتداعياته

يكتبها اليوم / عبدالرحمن مراد

 

حدث الطوفان وتداعى النظام الدولي وجاءت أمريكا بقضها وقضيضها وبحاملات طائراتها إلى البحر المتوسط والبحر الأحمر، واستنفر العالم كله، ضد غزة وهي مدينة صغيرة لا تملك من الترسانة العسكرية ما يرعب ويرهب العالم حتى يتداعى إلى المنطقة ويعلن مساندته للجيش الصهيوني وهو يخوض معركة التدمير الشامل لغزة ويفسد مقومات الحياة حتى يجبر سكان غزة على الهجرة ومغادرة غزة .
شعب غزة يتعرض للإبادة الجماعية شبابا وشيوخا ونساء وأطفالا في ظل صمت مريب من المجتمع الدولي ماعدا يقظة الضمير الإنساني الذي خرج متظاهرا في بعض المدن الأوربية وفي بعض مدن أمريكا، وماعدا أولئك لم نشهد إلا إرهابا كما هو واقع عند بعض العرب الذين يمنعون حتى الدعاء لغزة ويرون ذلك حراما بل وقد أودعوا سجونهم من ثبت أنه قام بالدعاء لغزة في المساجد فضلا عن التظاهر.
الرأي العام العربي كله مع غزة ومشاعره معلقة بغزة ما عدا بعض الشواذ وكل أولئك الشواذ من الخليج، حيث رصدنا تعاطفا من بعض دول الخليج ماعدا الكويت فقد وجدنا في وسائل التواصل الاجتماعي من ينافح ويحاجج الشواذ بل ويلعنهم في معرض رده على ما يصدر عنهم في الوسائط .
الغريب في الأمر أن مجتمعا محافظا كمجتمع السعودية تخرج منه نساء كاسيات عاريات يبدين إعجابهن برجال يهود صهاينة ويلعنون شعب فلسطين الذي ينازعهم الوجود، بحجة أن الصهاينة “حلوين وفيهم جمال يخبل “، ولعل ما يحدث أفظع وأشد مما يصلنا ونتمكن من الاطلاع عليه، فالمجتمع العربي لم يعد كما كان عليه حاله قبل الربيع العربي، فقد انهارت قيمه وتفسخت أخلاقه وتداعى فيه النظام العام والطبيعي، وكم حذرنا من ذلك التداعي والانهيار لكن إعلام الإخوان ظل يصر إصراراً عجيباً أن ما حدث عام 2011م كان ربيعا عربيا وكان ثورة، يصر الإخوان على هذه الفكرة وقد قالت هيلاري كلينتون قولا فصلا في الموضوع وقطعت جهينة قول كل خطيب، ثم جاء ترامب وفضح تلك السياسة التي مارسها الأمريكان عام 2011م في بعض الدول العربية إلى درجة فشل الدولة في بعض دول الربيع وآخر لم يتعاف من ويلات الأحداث حتى الآن بسبب حركة الانقسامات وتعدد الولاءات وضياع الفكرة وتعويم المصطلحات واختلال الوعي الجمعي لكثير من الفصائل التي نشأت وفق رغبة استخبارية صهيونية أو أمريكية .
لقد قرأ الصهاينة والأمريكان، الأنظمة العربية والمجتمعات العربية قراءات تحليلية واعية وحاولوا اختراق هذه الأنظمة والمجتمعات برؤى واستراتيجيات طويلة المدى وقصيرة المدى، وربما قالت تداعيات طوفان الأقصى الكثير مما يجب أن يقال وظهرت وتجلت نتائج تلك الرؤى والاستراتيجيات في الواقع وعبر مختلف الوسائط وفي المواقف وفي بيان القمة وفي ردود أفعال المجتمعات العربية والإسلامية، فمع التقنيات والوسائط أصبح كل شيء مقروءاً وواضحاً، لكننا لا نتقبل القضايا المنطقية إلا كقضايا كلية دون إخضاعها للتحليل والدراسة، حتى التحليل والدراسة يسير وفق مزاج معين ولا تحكمه منهجية علمية وقد نعدل في النتائج حتى يتسق مع المزاج السياسي العام، وتلك معضلة حين يصبح الباحث والعالم خاضعا لمزاج السلطة لا خاضعا لقواعد المنطق وأسس وقواعد منهج الدراسة مهما كانت النتائج صادمة، ولعل الكثير من أسباب الانكسار العربي يعود إلى الجانب الأخلاقي والقيمي الذي يتمرد على الضمير العلمي فيبدع واقعا لا يعكر مزاج السلطة، فحرية التعبير، وحرية البحث، ومدى التزامه بمناهج البحث، وحرية النقد والتفكير النقدي، وقضايا المعرفة بكل أبعادها، فضلا عن استناد القرار إلى المعلومات، من أسباب النهوض والقوة، ولذلك تخاذل المستبد الطاغي في معركة الطوفان وشرع العدو في تنفيذ مشروعه الاستراتيجي الكبير بكل ثقة واطمئنان .
معركة الطوفان التي حدثت في غزة وقامت فصائل من المقاومة الفلسطينية ليست بالقوة الكبيرة ولا الإمكانيات العسكرية التي تجعل أمريكا تتداعى إلى البحر المتوسط والبحر الأحمر بكل ثقلها العسكري، ومن ثم يذهب قادة البيت الأبيض إلى إسرائيل ويديرون المعركة في غزة بتعاضد فريد لم يسبق له مثيل، وبتفكير مقارن نجد أنه لم يحدث مثل ذلك مع أوكرانيا بالرغم أن أوكرانيا تدافع عن الاتحاد الأوربي وعن أمريكا، وما سمعنا أن أمريكا حشدت حاملات الطائرات ولا ذهبت إلى عاصمة أوكرانيا حتى تدير معركتها هناك مع الروس، حفاظا على هيبة حلف الناتو، وعلى مصالح دول الاتحاد الأوروبي في تدفق المواد الخام والغاز، ومثل هذه المقارنة مع معطيات الواقع في غزة، نجد أن ما يحدث في غزة كارثة بكل المقاييس، عواقب هذه الكارثة تدميرية للمنطقة برمتها، ولا يظن ظان أنها كارثة تخص غزة وحدها دون سواها، فنار الكارثة سوف تشوي مصر والأردن في البداية ثم تمتد إلى كل المنطقة وسوف تصل السعودية، وإن ظنت السعودية أنها بمنأى عن الكارثة، فحركة التدمير تبعث تفاعلات الواقع رموزها إلى كل ذي لب حصيف وفي غد ما سوف يخبرنا بالتفاصيل العجيبة .
كل هذا الخذلان لغزة وأطفال غزة له عواقبه الوخيمة على مستقبل الأمة وعلى المنطقة، فمشروع التقسيم قادم لا محالة وسوف يفقد العرب مصالحهم وتضيع الكثير من مقدراتهم وقد يصبحون أتباعاً دون قيمة ولا معنى لوجودهم بعد أن كانوا هم الوجود كله بما يحملونه من خيرية للبشرية ومن رسالة محمدية سامية.

قد يعجبك ايضا