المقاربات الغربية تفشل في مواجهة النفوذ متعدد الأقطاب: ما هي الخسائر التي يخشاها الغرب من موجة الانقلابات في افريقيا؟

 

خسائر فقدان مناطق النفوذ التقليدي في غرب ووسط افريقيا، لم تعد تعني فقط باريس صاحبة النفوذ الاستعماري الأكبر، بل تعني أيضا دولا غربية عدة أفاقت على موجة انقلابات عسكرية أفقدت الغرب موارد اقتصادية كبيرة دون القدرة على التحرك لحمايتها، في ظل أولويات السياسة الأمريكية التي تضع من هزيمة روسيا في أوكرانيا أولا وثانيا مواجهة النفوذ الصيني- الروسي في افريقيا دون الالتفات لمصالح حلفائها الغربيين.
الثورة / تحليل / أبو بكر عبدالله

في القمة الافريقية الفرنسية الـ 28 المنعقدة في فرنسا العام 2021م والتي شاركت فيها طاقات شبابية من قوى المجتمع المدني الافريقي، خلص المشاركون إلى رسالة عميقة بأن وجود فرنسا في المسرح السياسي والأمني بأفريقيا بات مرفوضاً على الأقل من شرائح واسعة من الشباب الافريقي لكن باريس لم تعر هذه الرسالة اهتماما رغم تقديمها دليلا واضحا على حجم التغيير الحاصل في المستعمرات الفرنسية السابقة خلال 70 عاما.
كان واضحا أن باريس تفاجأت بعد عقود من تكبيل مستعمراتها الافريقية السابقة باتفاقيات جائرة، بوجود جيل جديد يرى في فرنسا قوة استعمارية لنهب مواردهم والتحكم بمستقبلهم السياسي في ظل تصاعد رقعة الفقر وفساد الأنظمة السياسية وغياب الديموقراطية وحكم القانون.
قدم المشاركون حينها مشاهد قاتمة لما يجري في المستعمرات الفرنسية السابقة التي كانت تضع أكثر من 85 % من مداخيلها تحت رقابة البنك المركزي الفرنسي، وتضخ 50 % من احتياطياتها السنوية إلى باريس ولا تستطيع استخدام هذه الموارد دون وصاية فرنسية تحدد مسارات الاستخدام، فضلا عن دعم باريس لأنظمة ديكتاتورية حكمت بلدانها بالحديد والنار دون أن تقدم باريس أي دعم لترسيخ أنظمة ديموقراطية حقيقية.
لم تقف التحولات عند هذا الحد، ففي غضون عامين فقط انخرطت 6 دول من بلدان غرب ووسط افريقيا في دوامة من الانقلابات، سعت كلها إلى التحرر من النفوذ السياسي والاقتصادي الفرنسي بدء من مالي وبوركينافاسو وغينيا كونكري وصولا إلى افريقيا الوسطى والنيجر والغابون، وفيها جميعا كانت التظاهرات الشعبية حاضرة بقوة للتنديد بالنفوذ الفرنسي ورفض أي مقاربات جديدة تديرها باريس في بلدانهم.

انكشاف الغطاء
حاول الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون أحداث تغيير ما في السياسة الفرنسية تجاه افريقيا حيث تعهد خلال حملته الانتخابية في الولاية الثانية إعطاء إفريقيا أولوية في أجندة الدبلوماسية الفرنسية والأوروبية لكن هذه المراجعات بدت متأخرة كثيرا حيث كانت قد سبقتها بمراحل موجة انقلابات استهدفت الإطاحة بالأنظمة السياسية الموالية لفرنسا كما استهدفت بالمقابل التحرر من قيود الاتفاقيات الاستعمارية الفرنسية.
زاد من ذلك الشعور الأفريقي المتنامي بأن باريس التي منحت دول الغرب الافريقي الاستقلال لقاء اتفاقيات استعمارية جائرة عادت إلى دولهم عبر انظمة حكم تتصدر أجندتها المصالح الفرنسية، كما عادت عسكريا تحت مظلة محاربة الإرهاب.
وأكثر من ذلك شعورهم بأن باريس افقدت التكتلات السياسية والاقتصادية الافريقية دورها في التنمية والتحرر ودعم الديموقراطية، ومنها على سبيل المثال المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا “إيكواس” حيث شرعت فرنسا منذ تأسيسها لبناء شراكات سياسية وأمنية واقتصادية معها، منحت باريس غطاءً افريقيا للدفاع عن مصالحها في دول تكابد الفقر والفساد ونهب الموارد وغياب الديموقراطية.
هذا الدور بدا واضحا عندما استخدمت باريس مجموعة “إيكواس” عصا غليظة لإخضاع الانقلابات العسكرية في كل مالي وغنينا والنيجر، وشجعتها بوضوح على التدخل العسكري بذريعة إعادة الحكم الدستوري المدني.
وعلى أن مشهد النفوذ الفرنسي المباشر وغير المباشر على دول الغرب الافريقي لم يكن جديدا، إلا أن المعادلة تغيرت اليوم مع ظهور جيل جديد لم يعد يرى في مجموعة “إيكواس” سوى ناد للرؤساء المولين لفرنسا وتحت مظلته تدعم باريس الحرس القديم الذين يتلاعبون بالقواعد الديمقراطية وحكم القانون والحوكمة ويغرقون بالفساد وإهدار الموارد في غياب المساءلة، كما يواجهون تحت مظلته أي مشاريع داخلية جديدة للإصلاحات السياسية والاقتصادية.

خسائر كبيرة
قياسا بالدول الأفريقية الفقيرة الخاضعة للنفوذ الفرنسي فإن النيجر والغابون تعدان من أهم الدول التي قد يسبب خروجها عن النفوذ الغربي خسائر كبيرة لفرنسا والغرب بصورة عامة.
النيجر على سبيل المثال لم تكن بالنسبة للأوروبيين والفرنسيين أكثر من مورّد رئيسي لليورانيوم حيث احتلت الترتيب الثاني في قائمة أكبر موردي اليورانيوم إلى أوروبا خلال العام 2020م، وبالنسبة للفرنسيين لم تكن أكثر من مستعمرة مكبلة تنتج ما تحتاجه فرنسا من اليورانيوم اللازم لتشغيل مفاعلاتها النووية المسؤولة عن إنتاج 70 % من الكهرباء.
وبعد الانقلاب الذي قاده عسكريون واطاح حكم الرئيس المنتخب محمد بازوم الموالي لفرنسا، وإلغاء المجلس الانتقالي العسكري الحاكم الاتفاقيات الموقعة مع فرنسا وشروعه برفع سعر كيلو اليورانيوم من 0.8 يورو إلى أكثر من 230 دولاراً للكيلو جرام الواحد، اشتعلت مخاوف لدى الأوروبيين ولا سيما فرنسا من التأثير المحتمل للانقلاب العسكري على احتياجات باريس من اليورانيوم الذي تعتمد عليه في تشغيل محطات الطاقة النووية والكهربائية.
في الواقع لم تكن باريس تكتفي بشراء اليوانيوم من النيجر بأسعار زهيدة لتشغيل مفاعلاتها النووية في إنتاج الكهرباء، بل كانت تبيع اليوانيوم بعد معالجته بسعر يزيد عن 240 دولارا للكيلو جرام الواحد.
والتقديرات تشير إلى أن باريس قد تواجه مشكلات عميقة في إنتاج الكهرباء على المدى الطويل، فانقطاع إمدادات الغاز والنفط الروسي منذ عامين أدى إلى تأثيرات اقتصادية كبيرة في كل أوروبا، بلغ معه عجز الموازنة الفرنسية على سبيل المثال نحو 169 مليار يورو في الأشهر السبعة الأولى من هذا العام، ويتوقع ارتفاعه بصورة أكبر نتيجة ارتفاع أسعار اليورانيوم الذي ستضطر لشرائه من دول أخرى بأسعار مرتفعة للغاية.
المخاوف طالت أيضا العديد من العواصم الأوروبية التي أبدت مخاوف على أمن الطاقة في أوروبا، خاصة وأن النيجر وحدها صدرت لدول الاتحاد الأوروبي نحو 2975 طناً خلال عام 2022م ما يعادل 25.4 % من إمدادات الاتحاد الأوروبي من اليورانيوم.
والخسائر الغربية من فقدان مناطق النفوذ التقليدي ليست هينة على كل حال، فالتقديرات تشير إلى أن باريس وحدها ستخسر 300 و500 مليار يورو سنويا وهو رقم يوازي عشرين ضعفا قيمة ناتجها الضريبي السنوي كما ستخسر بريطانيا مصالحها ومثلها المانيا وإيطاليا وبلجيكا.

خسائر جيوسياسية
على المستوى الجيوسياسي صارت دول الاتحاد الأوروبي ولا سيما فرنسا صاحبة النفوذ الأكبر في غرب القارة الافريقية تدرك مخاطر الانقلابات خصوصا وهي تزامنت مع اشتعال حمى التنافس الدولي على مصالحها من جهة وعلى التحولات الجيواستراتيجية التي تميل لمصلحة العملاقين الروسي والصيني في ظل عجز الدول الغربية عن مواجهته نتيجة تركيز الولايات المتحدة قدراتها وقدرات حلفائها الغربيين لمواجهة روسيا التي تقود حرب استنزاف مع الغرب الجماعي في أوكرانيا.
وفي مقابل فرص النفوذ الصيني والروسي في غرب ووسط افريقيا، شهد نفوذ الولايات المتحدة والغرب تراجعاً ملحوظاً أثار قلقاً كبيرا لدى دول الاتحاد الأوروبي وبصورة أقل الولايات المتحدة الأمريكية التي شرعت على الفور بمقاربات سياسية جديدة تعتمد الفضاء الدبلوماسي لحل الأزمات كأولوية.
هذا الأمر فسر الموقف المرتبك للاتحاد الأوروبي الذي لجأ إلى استخدام ورقة المساعدات التنموية المقدمة لإفريقيا للضغط على المجموعات العسكرية الانقلابية لتكون شريكة في الحفاظ على النفوذ والمصالح الغربية في دولهم، وهو موقف جوبه بتحفظ الولايات المتحدة الأميركية التي توقعت أن يقود لنتائج عكسية يمنح روسيا والصين القدرة على زيادة نفوذهما في هذه الدول على حساب النفوذ الغربي المنحسر.

قلق غربي أمريكي
لم يعد خافيا أن تنامي النفوذ الصيني -الروسي في افريقيا صار مبعث قلق لدى صانعي السياسات الأوروبية والأمريكية مع شروع الصين بضخ مئات المليارات للاستثمار في مجالات الاقتصاد والبنية التحتية في هذه الدول دون التزامات سياسية وكذلك توسع نفوذ مجموعة “فاغنر” العسكرية الروسية بعد التحولات الأخيرة، إلى أبعد من التعاون الأمني والعسكري، بالتأسيس لشراكات عسكرية مع الأنظمة الجديدة والشركات في مختلف الدول الإفريقية.
والمؤكد أن الصين استطاعت خلال السنوات الثلاث الماضية تأسيس موضع قدم ورث إلى حد كبير النفوذ الاقتصادي الفرنسي والغربي بدءاً من مالي إلى بوركينافاسو وغينيا كونكري وصولا إلى الغابون التي تتصدر فيها الصين حاليا قائمة الاستثمارات والتبادل التجاري.
أما روسيا فتلعب اليوم دورا امنيا وعسكريا مهما عبر شركة “فاغنر” للخدمات العسكرية والأمنية، وخصوصا في غرب ووسط افريقيا من مالي إلى بوركينا فاسو وربما قريبا النيجر إلى ليبيا والسودان وجمهورية إفريقيا الوسطى وموزمبيق.
وقد لعبت القمة الروسية الافريقية المنعقدة مؤخرا في سان بطرسبورغ، دورا مهما في إضعاف النفوذ الغربي وتعزيز الحضور الروسي بعد أن أعلنت موسكو دعم حركات التحرر من الهيمنة الغربية وتقديم القمح مجانا لـ 6 دول افريقية، فضلا عن وعودها المغرية بالتعاون مع الأنظمة الحاكمة الجديدة في مجالات الطاقة والتعدين.

نفوذ محدود وتحديات
حتى وقت قريب كانت الكلمة الأولى في أكثر دول غرب ووسط افريقيا لباريس، فهي من كانت تحدد الرؤساء والسياسات وتعين كبار المسؤولين، غير أن دخول روسيا والصين غير المعادلات كليا بل وأرغم باريس على المغادرة على وقع احتجاجات شعبية شهدتها العديد من العواصم الافريقية تنديدا بالهيمنةِ الفرنسية على الموارد الاقتصادية وتأثيرها السلبي في تشكيل الواقع السياسي هناك.
ورغم أن باريس والغرب عموما لا يزالون يحتفظون بنفوذ كبير في بعض دول في غرب افريقيا كالكاميرون وبنين وغينيا بيساو وغيرها، إلا أن هذا النفوذ في طريقه للتلاشي، فهذه الدول تُعد من أكثر الدول فقرا في القارة الأفريقية، وليس بوسع باريس الصمود أمام الحضور الاقتصادي والأمني المتنامي لمنافسيها الدوليين في ظل ما يقدمه المنافسون من خدمات ومشاريع استثمارية ولا سيما الصين التي تضخ مليارات في مشاريع البنية التحتية والاستثمارات الزراعية والصناعية وأمن الغذاء والطاقة.
على سبيل المثال فإن أحدث تقارير البنك الدولي تؤكد أن نسبة الفقر ارتفعت في الكاميرون بشكل كبير لتبلغ 56 %، من إجمالي السكان في حين أن نسبة الفقر في غينيا بيساو وصلت إلى 62 %، من إجمالي السكان بمعدل دخل منخفض لا يتجاوز الـ 2 دولار يوميا.
الحال كذلك مع جمهورية بنين ذات المساحة الجغرافية الصغيرة وعدد سكانها الكبير الذي يفوق 12 مليون نسمة، حيث يصل معدل الفقر فيها إلى 38.5 %.
والمشروع الفرنسي الأهم الذي كان يضمن لباريس نفوذا كبيرا في منطقة الغرب الافريقي وهو مشروع مكافحة الإرهاب، سقط هذا المشروع كليا من معادلة النفوذ، بعد أن فشل في القضاء على الإرهاب في منطقة الساحل والصحراء خلال ما يقرب من 9 سنوات منذ بدء عملية “برخان” في العام 2014م، بل ان سلسلة الإخفاقات في هذا المشروع أفضت- كما تقول مجموعة الأزمات الدولية- إلى نتائج عكسية في توسع رقعة التنظيمات الإرهابية في ظل تنامي السخط الشعبي الأفريقي على الوجود العسكري الفرنسي.
زاد من ذلك الاتهامات التي كانت تواجهها الأنظمة الحاكمة في دول الغرب الافريقي بالتواطؤ مع فرنسا وتسببها في إضعاف قدرات الجيوش الوطنية لمواجهة خطر الإرهاب، بل وتسهيل الهجمات الإرهابية التي نالت من جيوش تلك الدول والمدنيين على السواء.
والترنح في النفوذ الفرنسي لم يقتصر على الدول الأفريقية الفقيرة، بل والغنية أيضا، فالجزائر على سبيل المثال قررت مؤخرا التخلي عن اللغة الفرنسية في المناهج الدراسية الجامعية واستبدالها باللغة الإنجليزية، في حين كانت قد شرعت بخطوات مشابهة العام الماضي للبدء بتدريس اللغة الإنجليزية في مراحل التعليم الأساسي.
ورغم اعتراف باريس بالحاجة إلى إنتاج مقاربات جديدة في العلاقة مع دول افريقيا، إلا أنها تتهرب من الاعتذار عن ماضيها الاستعماري ودعمها للديكتاتوريات، وهي القضية التي تشكل منذ أمد بعيد مشكلة حقيقية في مستقبل العلاقات مع فرنسا على الصعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.

قد يعجبك ايضا