الثورة / عمار محي الدين
الحمدلله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين..
في هذا العالم المترامي الأطراف والذي تزدحم فيه الأخبار وتتناقل فيه مليارات المعلومات في لحظات، تبقى نقطة البيكار وبوصلة النجاة ضائعة بين هذه الركامات المتكدسة مما يثقل المسؤولية ويزيد المؤنة للوصول إليها أو لإيصالها.
نحتفل اليوم بذكرى استشهاد الإمام زيد بن علي (ع) ولاتزال ذكراه منحصرة في بلاد اليمن..
وانحصار الذكرى له دلالاته من ذلك جهل الكثير لهذه الشخصية العظيمة والأهم من ذلك جهل ما حمله من أفكار ومبادئ ومعارف، نحن والبشرية بأمس الحاجة إليها..
أتطرق في ورقتي المتواضعة إلى أهمية ما تملكه الزيدية من أفكار وعقائد وقواعد أعتقد أنها تعتبر بمثابة الحل للخروج من الاضطراب والمأزق التي يعيشها العالم الإسلامي بشكل خاص والعالم البشري بشكل عام.
وسأبدأ ورقتي بالحديث عن العالم المعاصر ثم العالم الإسلامي ودعوة الإسلام العالمية ثم الحديث عن الزيدية وما يميزها عن غيرها من الفرق والطوائف..
العالم المعاصر
عالم اليوم يعيش في إطار ضيق، وسجن يخيل لساكنيه اتساعه، فهو يعيش الدكتاتورية العالمية، من الناحية الفكرية ومن الناحية العملية حيث أن نتاج الواقع اليوم هو ما تحمله الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية المتمثلة في أمريكا وبريطانيا وفرنسا وروسيا والصين، وكان حظ بقية أكثر من مائة دولة أن تكون أسيرة لإحدى هذه الدول أو كما يقال ماسكة لملفها، وفقًا لاتفاقية سايكس بيكو وغيرها من الاتفاقيات التي جعلت العالم محكومًا بمواثيق وقوانين المنظمة المستحدثة من هذه الدول الخمس وسميت بمنظمة الأمم المتحدة وما يندرج تحتها من منظمات تحكم تفاصيل الحياة في كل العالم بدءاً بالسياسة والاقتصاد والأمن والدفاع وانتهاء بالصحة وحقوق الطفل والمرأة والإنسان و…إلخ.
فعوديت الدول التي لم تتبن الديمقراطية وحوصرت الدول التي أرادت الاستقلال الاقتصادي، ومنعت دول من تكوين جيوش أو صناعة سلاح، وربطوا العالم بصندوق النقد الدولي ليكون بمثابة البنك المركزي للبنوك المركزية في كل العالم، بل غاصوا أكثر من ذلك فتدخلوا في شأن النساء والأطفال وغير ذلك..
كل ذلك ليس إلا من أجل السيطرة على جميع الدول وإبقائها منكسرة خاضعة لا تستطيع النهوض في مقابل هذه الخمس الدول.
العالم الإسلامي
يعتبر العالم الإسلامي هو أخطر تجمع مناهض للمنتصرين في الحرب العالمية الثانية، حيث يمتلكون قسائم مشتركة كثيرة وفي نفس الوقت عميقة..
عملت هذه الدول من أجل السيطرة على دول العالم خصوصًا العالم الإسلامي وإزاحة حكامها ليس لأجل دينهم أو وطنيتهم بل لأنهم لا يملكون ولاءهم المطلق لهم.
ولذلك أحكموا الخطة لصعود من يواليهم وسرعة إزالتهم إذا لم ينجحوا في مهمتهم أو انقلبوا على قراراتهم بإلزامهم بتبني الديمقراطية وإحلال الانتخابات الشعبية الصورية فيضمنوا بذلك صعود الأكثر ولاء لهم.. وقد تحقق ما أرادوا وصعد على كرسي الحكم من اختاروا.. ففتحوا لهم أراضيهم لتجوب فيها أفكارهم وتسود مبادئهم وتدرس نظرياتهم في كل مناحي الحياة..
حتى لم يبق من الإسلام في الدولة إلا اسمها، ولا من القرآن إلا رسمه كما قال صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
الإسلام دعوة عالمية
الإسلام دين دعوة وثورة وحركة فكر ومنهج حياة… ولا طريق يخرج البشرية من وحل الظلم والاستبداد والدكتاتورية العالمية الجاثمة على أكثر من مائة دولة إلا من العليم الخبير الخالق البارئ المصور،
فالإسلام في حقيقته، فإنّه يستوعب الحياة كلّها من خلال مفاهيمه العامّة عن الكون، ومن خلال تشريعاته التفصيليّة في صعيد الواقع.. وقد استطاع أن يعيش طيلة قرون وهو يقدّم للناس برنامج حياتهم من دون حاجة إلى استعارة برنامج آخر من مصدرٍ أخر.
ولذلك ينطلق الإسلام أولًا من خلال تحرير الإنسان من الداخل يرفض عبودية غير الله (لا إله إلا الله) ويرفض كل أشكال الألوهية المزيفة على مر التاريخ.
طارحًا أول أبواب أصوله التوحيد ليكون نابعًا من الداخل فإذا تحرر الإنسان عتق من عبودية الشهوات والرغبات وربط الذات البشرية بآفاق أرحب وأهداف أسمى.
فإذا تحرر من الداخل فإن عملية التحرير تنطلق إلى الخارج ، فمادام يقر بالعبودية لله وحده فهو يرفض بطبيعة الحال كل صنم وكل تأليه مزور لأي إنسان، ويسري ذلك التحرر الخارجي للإنسان ليحرر الثروة والكون من أي مالك سوى الله سبحانه وتعالى وهذا سر امتياز ثورات الأنبياء عليهم السلام عن أي ثورة اجتماعية أخرى.
ومن الأبعاد الذي ترتكز عليها أصول الإسلام هو موضوع العدل الإلهي والتأكيد على أهم الصفات في الجانب العملي ودوره في توجيه الحياة الواقعية؛ لأن العدل هو أساس نمو كل قيم الخير، وله مدلول اجتماعي وارتباط عميق بمغزى الثورة التي يمارسها الأنبياء على صعيد الواقع، فالكون قائم على أساس العدل والإسلام أراد للعلاقات الاجتماعية أن تؤسس على موازين العدل.
ومن الناحية المعاملات التفصيلية فإن الإسلام يقدم لنا القواعد العامة التي من توجه المسيرة البشرية إلى الأحكام التي تصلح واقعهم ، فتكون هذه القواعد بمثابة الضوابط التي يسير عليها المتخصصون لمواجهة مايسمى بفقه النوازل، وما يسمى في كتب الأصول بالاجتهاد ، وإذا كان الاجتهاد يقدّم لنا في كلّ زمن معطيات جديدة لقضايا جديدة انطلقت من خلال التطوّر الموضوعي للواقع، فليس معنى ذلك أنّ الاجتهاد يستحدث للإنسان أحكاماً جديدة من موقع التطوّر الحياتي المنفصل عن قواعد الإسلام وأحكامه، بل هو يستنبط الحكم من دليله المنطلق من المصادر الأصيلة للتشريع في الإسلام.. ومن هنا كانت حركة الاجتهاد تمثّل انفتاح الإسلام على الواقع في عملية تطويره للواقع ..بدلاً من أن يكون ـــ كما يرى البعض ـــ عملية تطوير للإسلام من خلال حركة الواقع.
الزيدية في العالم الإسلامي
الزيدية عرف بها من حمل أفكار وعقائد الإمام زيد بن علي عليه السلام، بدءًا بالتوحيد وانتهاء بالخروج على الحاكم الظالم
وقد قامت دول على أيدي الأئمة عليهم السلام في طبرستان ، وفي اليمن، وفي بلاد المغرب.
وكان لهذه الدورة الأثر البالغ في نشر الإسلام وتحقيق العدالة وإظهار نموذج الحاكم الإسلامي العادل بشكل مستفيض، وعند النظر إلى الحكم الإسلامي منذ وفاة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم نجد في التاريخ الإسلامي أن العديد من الدول قامت وانهارت وجاءت بعدها دول ودويلات، لكن من قرأ التاريخ بإنصاف وجد أن أكثر الدول في تعداد الحكومات العادلة هي الدول التي حكمها أئمة الزيدية.. ويشهد بعدالتها الموالف والمخالف.
الزيدية وما تميزت به عن غيرها من الفرق
)دعوة الزيدية هي دعوة الإسلام(
الإمام زيد وبقية الأئمة انطلقوا أولًا في تصحيح الاختلال العقائدي الموجود في الأمة فقد ناهضوا كل الخرافات والأباطيل وبينوا بالحجج والبراهين كل الشبهات التي صنعها الحكام وروجوا لها، والزيدية في أصولها مبنية على البراهين القاطعة والحجج الواضحة، بل وتدعو من يتبعها ألا يكون مقلدًا لها ولا لغيرها، فنبذت التقليد في الأصول..
واستمدت الزيدية في بيان أصولها من دعوة الأنبياء فقام الأساس على التوحيد والعدل وصدق الوعد والوعيد والإيمان بنبوة الأنبياء والرسل والقيام بمبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
عقيدة التوحيد والعدل
تعتبر العقيدة هي الأساس السليم في استقامة الخط السلوكي والعملي فمن يعتقد بتوحيد الله ويستشعر قدرته وعلمه المطلق ويؤمن بقدسيته سبحانه وتنزهه عن مشابهة المخلوقات فإنه يسلم قياده لله الواحد ويتحرر من عبوديته لغير الله سبحانه.
ومن يعتقد بعدل الله سبحانه في أفعاله وحكمته فيها فإنه يمتثل لشريعته موقنًا بأن فيها مصلحته ومنفعته ورضى خالقه، ويكون منشدًا للعدالة باحثًا عنها مريدًا لها في سلوكه واقعه.
ولذلك نجد أن المعتقدين بتشبيه الله أو تجسيمه أو نسبه القبيح إليه أو القول بأن له أن يظلم ويكلف ما لا يطاق وغيرها من المعتقدات.. نجد نفوسهم قد تدنست بنسبة النقائص لله سبحانه – تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرا- فتقصر نفوسهم عن تعظيم الله وتعظيم ما عظمه الله وتغلبهم أهواؤهم عن الامتثال لأوامره واجتناب نواهيه.
وانبنى على الخطأ في اعتقادهم أخطاء كبيرة وخطيرة، فمن أين لهم التوفيق والتسديد في تحقيق حكم عادل وقد جاروا في عقيدتهم وظلموا أنفسهم..
صدق الوعد والوعيد
الإيمان بصدق الله في وعده للمؤمنين بالجنة خالدين فيها ابدًا ، ووعيد الله للكفار والمشركين والعصاة غير التائبين بالنار خالدين فيها أبدًا،
فمن لا يعتقد بالخلود في النار لمن مات مصرًا على معصيته فقد فتح باب الفساد والإفساد، وكان داعيًا لارتكاب القبائح واجتراح الفضائح، سواء كان مُدَّعى خروجه من النار شفاعة النبي صلى الله عليه وآله أو حبه لعلي عليه السلام أو لأهل البيت أو حتى انتمائه لأمة محمد صلى الله عليه وآله.
فإن هذه العقيدة تشكل عائقًا وأي عائق في الجانب السلوكي والعملي في مسيرة الإنسانية.
كما حدث ذلك من قبل مع اليهود الذين قالوا لن تمسنا النار إلا أيامًا معدودة، ونحن أبناء الله وأحباؤه، فإن اعتقادهم هذا جعلهم أكثر فسادًا وظلمًا وطغيانًا في الأرض بعد أن فضلهم الله على العالمين ولم يقيموا بعد ذلك حكمًا عادلًا وفق تعاليم الدين الصحيح ، وأنى لمن انحرف عن شرع الله أن يقيم دين الله..
نظرية الحكم
الأنبياء
إن الأنبياء عليهم السلام هم قادة البشرية وأسوتها ويعتبر الإيمان بهم أصلًا من أصول الإسلام وقد تميزت الزيدية في اعتقادها بالنبوة أنه نزهتهم عن ارتكاب القبائح وفعل المعاصي وإن صدر منهم شيئًا مخالفًا فإنه لا يكون إلا عن خطأ ونسيان ولانجد فيه عزمًا وإصراراً كما في قصة آدم وداوود عليهما السلام.
وأن العصمة لهم لم تكن لهم إلا الشرائع خاصة فلا يتسللها الخطأ والنسيان، وأما في غير ذلك فإنهم كبقية البشر في اختيارهم ولا عصمة جبرية لهم، بل كانت استقامتهم وفعلهم للطاعات واجتنابهم المعاصي والمنكرات عن اختيار وكبح لجماح النفس حتى كانوا خير البشرية وأسوة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر ، وهذه العقيدة تكون أدعى للحاكم أن يقتدي بهم ولا يعلل بعصمتهم عند خطأه وانحرافه.
بخلاف من يعتقد عصمتهم في الأمور الشرعية والعملية فإن اعتقادهم قد صنع حاجزًا بينه وبين من جعلهم الله أسوة لهم يبرر لنفسه الخطأ والانحراف فيفسد ويظلم ويعبث ويعيث في الأرض فسادًا.
وهناك من المذاهب من تعدى ذلك وأوجب عصمة للأئمة مستدلين على ذلك بعدة براهين منها: برهان وجوب طاعة الإمام، وبرهان نقض الغرض، وبرهان انحطاط سقوط الإمام في حالة ارتكاب المعصية.. وبناء على عقيدتهم خلت الأرض من حكم الله حتى يأتي من يتصف بالعصمة وإن خلت الأرض من تعاليم الدين لمئات السنين.
نظرية الإمامة
تتميز الزيدية بأطروحتها في نظرية الحكم عن غيرهم من المسلمين عندما جعلت الإمامة مبنية على صفات للحاكم تشددوا فيها حتى لا يصلها إلا من هو مؤهل تأهيلاً كاملًا كون مسألة الحكم جليلة وأمرها خطير.
والذي يصل إليها لابد أن يكون جديرًا بأخذ زمامها فبها تقام الحدود وتنفذ الشرائع وتحفظ بيضة الإسلام،
وليس وجوده بمستحيل وأدل الأدلة الوقوع فقد حكم الهادي وقيل عن سيرته إنها سيرة أنبياء، ناهيك عن الناصر الأطروش والحسن الداعي وغيرهم من أئمة أهل البيت عليهم السلام.
بينما بقية الفرق الإسلامية فإن أطروحتها في نظرية الحكم تشهد بأن وصولها للحكم الإسلامي ضربًا من المستحيل لتعلقه بشروط محالة كما هو حال الاثني عشرية الذي يعتقدون ألا حكومة إسلامية قائمة إلا من خلال الإمام الغائب، وأن حالهم في الحكم حال المهيئ الذي لا يستطيع أن يصل إلى حكومة إسلامية، وليبقى المسلمون في التيه والظلمات حتى يخرج القائم ، فعقيدتها في ذلك تبين عدم أهليتها للحكم أو تمثل نموذجًا حيًا عن الحكم الإسلامي طالما والفكرة والعقيدة موقنة بعدم الإمكان إلا من خلال شخصية غائبة يُنتظر عودتها، وإن كانت الأدلة تبين استحالة وجوده وولادته من ذاك الزمن فيعني ذلك استحالة إقامة حكم إسلامي على يد من يعتقد ذلك.
وفي الجهة الأخرى يعتقد الجم الغفير من أهل السنة أن الحاكم يجب طاعته بسبب وصوله للحكم سواء كان بالعقد والاختيار أو بالغلبة والقهر والقوة فتلزم على العباد طاعته وتوليه وإن فجر وظلم وعمل المنكر مالم يعلن كفرًا بواحًا..
وهل هذه العقيدة تساعد الحاكم في إقامة حكم إسلامي يسوده العدالة ويقوم على أحكام الشرع، أم أن هذه العقيدة تسير به في اتجاه الأهواء لطالما وقد أمن مكر الناس وخروجهم، وله أن يقتل ويعاقب من خالفه بحجة أنها قد فارق الجماعة وخرج من طاعة ولي الأمر.
ومن هنا نتفهم كيف أن الزيدية تملك أطروحة ترتكز على مؤسسية صعود الحاكم وفق شروط وضوابط لا على أساس الغلبة والقهر أو ولاية العهد وغير ذلك من الطرق التي لا تقيم دولة عادلة.
مبدأ الخروج على الظالم
يعتبر هذا المبدأ هو الأصل الخامس من أصول الدين والذي اشتهرت به الزيدية وأئمتها وميزتهم عن غيرهم من الفرق والطوائف، وقد أظهر الزمن والأحداث خطأ كل الفرق الذي لم تجعله مبدئاً أو أصلًا من أصولها وظهر ضلال فكرها قرونا متعاقبة، كما أوضح خطأ من خطّأ الإمام زيدًا والنفس الزكية وغيرهم من أئمة أهل البيت عليهم السلام عندما ناهضوا الظلم وباينوا الظالمين وأشهروا سيوفهم مجاهدين.
وعندما رجعت بعض المذاهب عن أصلها وتمسكت بهذا الأصل والمبدأ أصبح لها يد وتجاوزت عقبة فكرية كبيرة عندها..
ومع ذلك ينبغي أن نعي أن هذا المبدأ هو خامس خمسة من الأصول وتعتبر هذه الأصول سلسلة متكاملة لتحقيق مبادئ الإسلام وأصوله، ومن استوعب أهمية هذا الأصل ورجع عن خطأه سيلزمه أن يرجع في بقية الأصول إذا أراد أن يكون للدين كلمته ويصبح الإسلام حاكمًا عادلًا في هذا العالم الجائر.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين
23محرم 1445هـ الموافق 9/8/ 2023م