حين تنهار القيم، ينهار الاقتصاد، وتنهار كل مقومات الحياة الكريمة، ذلك لأن القيم تعد من صميم تكوين الإنسان، والركيزة الأساس في بناء المجتمع الإنساني، وحين تسقط القيم، من التكوين المعرفي والروحي والأخلاقي، لا يبقى من الإنسان، غير ذلك الوحش الكاسر، الذي ينطلق بكل قوة وثورة وجنون، مدمرا كل مكامن القوة والبناء والحياة، وصولا إلى تدمير نفسه. طالما كان بناء الإنسان، مقدما على بناء الأوطان، ولم تكن حضارة الأسفلت والأسمنت والزجاج، كافية أو قادرة على تحقيق الارتقاء المطلوب، في مسار الحضارة الإنسانية، التي لا يمكن أن تقوم وتستمر، وتحقق معنى التطور والتقدم والرقي، إلا إذا قامت واستندت على منظومة القيم والأخلاق، المستمدة من روح الإسلام الحنيف، والعادات والتقاليد والأعراف المجتمعية، المتوافقة مع منظومة الفضيلة والخير، وإذا لم يكن تكوين الإنسان قائما عليها، وبنيانه حاملا لها، فإنه – مهما حمل من العلوم والمعارف – يظل عاجزا تماما، عن احتراح أي مشروع حضاري، أو نظرية تقدم نهضوي. يقص علينا القرآن الكريم، الكثير من قصص وأخبار الأمم الغابرة، التي بلغت أعلى درجات التقدم العمراني والهندسي والزراعي، وقطعت أشواطا كبيرة، في مجالات التقدم العلمي، والاكتشافات الطبية، وعلوم الفلك وغيرها، لكنها في معظم حالاتها كانت تفتقر إلى القيم الدينية والأخلاقية والإنسانية، الداخلة في صميم تكوين وبناء الإنسان، بوصفه الرافعة الأساس في بناء الأوطان، وكونه مفرغا من أهم مكونات وجوده، الكفيلة بتحقيق كينونته الفعلية، فإنه لن يعدو كونه آلة هدم وتدمير وفناء محقق، مهما ظن خلاف ذلك. إن ما نشهده في المحافظات الجنوبية، الواقعة تحت سيطرة قوى الاحتلال السعوإماراتي، وفي تعز أيضا، من حالات انهيار أمني واقتصادي، وانحلال وفساد أخلاقي، ومشاريع تدمير ممنهج لكل مقومات بناء الإنسان، تحت مسميات التحرر والتحضر والتطور والانفتاح، وغيرها من المسميات المفخخة الزائفة، التي تسلخ المجتمع اليمني، عن دينه وعاداته وتقاليده وأعرافه وأصالته، وتجعل منه مسخا مشوها، مشحونا بالعصبيات والعنصرية المقيتة، وحاملا لمشاريع الهدم والتدمير المستمر. كانت دويلة الإمارات – المتصهينة – قد وعدت أبناء الجنوب اليمني، بالرفاه والحياة الكريمة ورغد العيش، وعزمها الأكيد تحويل “عدن”، إلى قطعة من دبي، وكذلك وعدت السعودية مناطق سيطرتها، وجاءت المباركة الأمريكية والبريطانية والصهيونية، لتؤكد رعايتها لذلك الحلم، وضمانها تحققه، بشرط قبول أبناء تلك المناطق المحتلة، سيطرة قوى الاحتلال الأجنبية، وتسليم البلاد بكل ثرواتها وخيراتها ومنافذها، لقبضة المحتل الأمريكي البريطاني، وممثليه على الأرض، السعودي والإماراتي، وأصبح أولئك العملاء المخدوعون، هم أول من تجنى وأجرم، بحق أبناء المجتمع البسطاء، الذين انخدعوا بقادتهم ومشائخهم ووجاهاتهم، وكانوا فريسة سهلة، ولقمة سائغة للغازي المحتل. وكما يقول المثل العربي، “وافق شنٌّ طبقة”، فقد اتفقت طباع وتفكير ونظرة، المرتزقة والعملاء في الداخل، مع أسيادهم الإقليميين، وأسياد أسيادهم الطغاة المستكبرين، أمريكا وبريطانيا والكيان الصهيوني الغاصب، ولذلك مضوا معهم في مشروعهم التدميري، دون أن يفكروا في خطورة الأمر، وعواقب خيانتهم دينهم ومجتمعهم، متجاهلين كل الأصوات المحذرة لهم، ومعرضين عن خطاب السيد القائد إليهم، وهو يصف لهم مجريات الأمور، ونتائج استمرارهم في الارتزاق والعمالة، ومساعدة قوى الاحتلال، في تنفيذ مخططاتها وجرائمها بحق هذا الوطن، مؤكدا لهم أكثر من مرة، وفي غير مناسبة، إن فاقد الشيء لا يعطيه، وإن فاقد القيم الدينية والأخلاقية، لا يمكن أن يختط لنفسه، مشروعا حضاريا إنسانيا رائدا، ناهيك عن أن يمنح غيره ذلك. إن الانهيار الاقتصادي والمعيشي، في عدن وغيرها، قد سبقه انهيار في منظومة القيم والأخلاق والدين، جاء به الغازي المحتل، وشايعه وشاركه في تقديمه وتنفيذه، المرتزقة والعملاء المحليون، وإذا كان سعر صرف الدولار، في تلك المناطق، قد بلغ أكثر من 1400 ريال يمني، فقد سبقه سقوط أخلاقي تام، وإذا كانت تداعيات ذلك، قد أفرزت أزمة اقتصادية كبيرة، وكارثة معيشية إنسانية، فإن من الإنصاف التنويه، إلى أن أزمة أخلاقية وإيمانية مستوردة، قد سبقت الغلاء المعيشي، وصعوبة توفير أدنى ضروريات ومتطلبات الحياة، وكانت سببا رئيسا، في تسارع الانهيار الاقتصادي، وتضخم تداعياته الكارثية، التي لم تكن عمليات نهب الثروات المنظمة، من قبل قوى الاحتلال وأسيادها، هي أول مظاهر الانهيار الوشيك، ولم تكن مظاهر فساد حكومة مرتزقة الرياض، هي آخر محطات السقوط. كانت الثروات الوطنية السيادية، تنهب بشكل منظم ودوري، لصالح خزينة تحالف العدوان، وقوى الاستكبار العالمي، وما تبقى من الفتات الزهيد، تلتقطه حكومة العمالة، وشخصيات الارتزاق في الداخل، بينما كان بنكا عدن ومارب فارغين تماما من أي إيرادات، حيث كان يجري تحويلها أولا بأول، إلى بنوك السعودية والإمارات، وكانت خطوة منع سرقة ونهب النفط اليمني، من قبل الجيش اليمني، وحكومة الإنقاذ الوطني في صنعاء، والمطالبة بتوريدها إلى البنوك اليمنية، وصرفها لصالح مرتبات جميع موظفي الوطن، هي الخطوة التي أثارت جنون أمريكا وبريطانيا وفرنسا، وغيرها من القوى الاستعمارية العالمية، التي اعتادت نهب وسرقة ثروات الشعوب المستضعفة، وفي مقدمتها الشعب اليمني، وهي الخطوة – أيضا – التي لم تكن واردة في حسابات قوى الاحتلال الإقليمية والعالمية، ولذلك جن جنونها، وسقطت في مستنقعات جشعها، كاشفة عن حقيقة أطماعها الاستعمارية، وسعيها وراء مصالحها فقط، وأنها لن تجعل عدن قطعة من دبي، ولا مأرب أو تعز، نسخة من واشنطن، ولا يهمها إن مات الناس جوعا، أو احترقت تلك المناطق بالكوارث والصراعات العسكرية، مادامت مصالحها محفوظة وباقية. حين يسقط الإنسان دينيا وأخلاقيا وقيميا، فإن من المحال أن يرتقي نهضويا أو تنمويا، لأن الحضارة هي الإنسان، والإنسان هو خلاصة ما يحمله من القيم والأخلاق والفضيلة، والمشروع الحضاري الذي لا يُبنى على هدى الله تعالى وشرائعه، لن يعدو كونه آلة هدم وتدمير، تفضي إلى التوحش والإجرام والموت.