تداعياته على الأمن الغذائي لن تستثني الدول الغنية: هل يتحول القمح إلى سلاح في الحرب بين روسيا الغرب؟
قرار موسكو الانسحاب من اتفاق التصدير الآمن للحبوب الأوكرانية الموقع برعاية أممية العام الماضي، لم يأت بمعزل عن تداعيات الحرب الدائرة في أوكرانيا بين روسيا والغرب، ولعل ذلك كان سببا في بروز مواقف دولية واسعة تندد بهذه التطورات التي قد تمس الأمن الغذائي لشعوب العالم التي تعاني من أزمة ارتفاع أسعار الغذاء وتداعيات أزمة المناخ التي أدت إلى تراجع إنتاجية الجبوب.
الثورة / أبو بكر عبدالله
في وقت لم تفق الأسواق العالمية بعد من صدمة إعلان الهند تقييد صادراتها من الأرز الذي يمثل نحو 40 % من الإنتاج العالمي، بآثاره التي طاولت 3.5 مليار نسمة يعتمدون عليه في غذائهم جاءت ازمة الانسحاب الروسي من اتفاق تصدير الحبوب الأوكرانية الذي رعته الأمم المتحدة وتركيا العام الماضي لتضيف مشكلة جديدة في معادلة الأمن الغذائي العالمي.
اشتعل بارود هذه الأزمة مؤخرا بعد إعلان موسكو الانسحاب من اتفاق تصدير الحبوب الأوكرانية الموقع في تركيا العام الماضي بوساطة أممية، وهو الاتفاق الذي كان أتاح ممرا آمنا لتصدير الحبوب الأوكرانية عبر موانئها المطلة على البحر الأسود افضت إلى تصدير عشرات الملايين من أطنان القمح والذرة والحبوب الأوكرانية التي ساهمت في حل جزء كبيرة من أزمة نقص الغذاء العالمي المشتعلة منذ بدء الحرب الروسية الأوكرانية قبل عام ونصف.
عزت روسيا قرارها إلى عدم وفاء الغرب والأمم المتحدة بتنفيذ التزامات مذكرة تفاهم موازية وُقعت مع الاتفاق وفتحت ثغرة لتصدير الحبوب والأسمدة الروسية ووصولها إلى الأسواق العالمية في ظل العقوبات، وأكدت أن الغرب والأمم المتحدة تجاهلوها بعد أن وافقت موسكو على تمديد العمل بالاتفاقية 3 مرات.
لكن الأسباب الحقيقية بدت سياسية أكثر منها اقتصادية، وفق ما ذهب إليه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي اتهم الدول الغربية بتحريف اتفاق الحبوب في البحر الأسود لتحقيق مصالحها الخاصة بدلاً من مساعدة البلدان المحتاجة حقاً، معتبرا أن الغرب استخدم اتفاق الحبوب للابتزاز السياسي، وجعله أداة لإثراء الشركات العابرة للدول والمضاربين في السوق العالمية للحبوب”.
وفقا لذلك حدد بوتين خمسة مطالب رئيسية كانت متضمنة في الاتفاق الموقع وتشمل عودة البنك الزراعي الروسي إلى نظام سويفت، واستئناف تصدير الآلات الزراعية وقطع الغيار إلى روسيا، وإزالة القيود المفروضة على التأمين ووصول السفن والبضائع الروسية إلى الموانئ، وإعادة خط أنابيب تصدير الأمونيا المتضرر حاليا من توجلياتي الروسية إلى أوديسا في أوكرانيا، وإلغاء الحظر على الحسابات والأنشطة المالية لشركات الأسمدة الروسية.
وإعلان موسكو الانسحاب من الاتفاق على أنه كان تكتيكا استهدف تحويل ميزاته التي استفادت منها الدول الغربية الغنية إلى أوراق ضغط داخلية عليها، إلا أنه تحول على سلاح في الحرب من اليوم الأول بالهجمات التي شنتها القوات الروسية على موانئ تصدير الحبوب في اوديسا، لكبح توجهات اقترحتها كييف بـتسيير دوريات عسكرية دولية تحمل تفويضاً من الأمم المتحدة لمرافقة شحنات الحبوب من وإلى أوكرانيا وحمايتها.
وارتفعت حدة التوتر بعد إعلان وزارة الدفاع الروسية عزمها التعامل مع جميع السفن المتجهة إلى الموانئ الأوكرانية عبر البحر الأسود على أنها تنقل معدات عسكرية لقوات النظام في كييف” وأكثر من ذلك اعتبار الدول التي يتم رفع اعلامها على السفن المتجهة لموانئ أوكرانيا متورطة في النزاع إلى جانب أوكرانيا ما أدى إلى توقف كامل لعلميات التصدير من هذا المنفذ يمثل بقاؤه اليوم امرا ضروريا للأمن الغذائي العالمي.
هذه التداعيات أثارت قلقا عالميا من تفاقم أزمة الغذاء العالمية، ودفعت الأمم المتحدة إلى التحرك مجددا في جهود استهدفت حمل جميع الأطراف على استئناف العمل بالاتفاق ضمن آليات تشمل أيضا إزالة العوائق أمام الصادرات الروسية من الحبوب والأسمدة لا يبدو العالم الغربي مستعداً للتعاطي معها.
تداعيات الحرب
كل التداعيات التي تحيط اليوم بملف أزمة الغذاء العالمية، ليست بعيدة عن التصعيد الغربي الروسي في حرب أوكرانيا، فهي لم تقف فقط عند تبدد الآمال بتسوية سياسية للأزمة بل دفعت بها نحو منعطفات جديدة، وخصوصا بعد إعلان قمة الناتو تقديم حزمة دعم طويلة الأجل لأوكرانيا، وشروع واشنطن بتزويد أوكرانيا بقنابل عنقودية وأنظمة دفاع جوي متطورة ناهيك عن زيادة دعمها للهجوم الأوكراني المضاد وهي الخطوات التي قادت روسيا إلى إعلان الانسحاب من اتفاق تصدير الحبوب الأوكرانية وإغلاق الممر الإنساني البحري في المياه الشمالية الغربية للبحر الأسود.
والاتهامات لموسكو بالتسبب بأزمة غذاء عالمية، لم تكن موضوعية تماما، فالخطوة الروسية استهدفت في المقام الأول تخفيف الضغوط التي تواجهها جراء العقوبات الدولية، وممارسة ضغوط إضافية على الدول الأوروبية لكبح توجهاتها في الاستمرار بدعم الجيش الأوكراني بالسلاح والدعم المخابراتي واللوجستي والخبراء، وحملها على الدفع بالسلطات الأوكرانية نحو طاولة المفاوضات تنهي الحرب المستمرة منذ عام ونصف.
وما من سبيل أمام روسيا لتحقيق ذلك سوى استخدام أوراق الضغط الاقتصادي على الدول الأوروبية التي صارت تواجه احتقانات شعبية من جراء استمرار حكوماتها في دعم أوكرانيا وشعورهم بالسأم من استمرار هذا الدعم الذي تدفع الشعوب الأوروبية تكاليفه منذ عام ونصف.
ومن جانب آخر يمكن قراءة الموقف الروسي بالانسحاب من اتفاق تصدير الحبوب بكونه جزءاً من معادلة عسكرية أرادت فيها موسكو مواجهة التوجهات الغربية في توسيع ناطق الدول الشرقية المعادية لروسيا بضم المزيد منها إلى حلف “الناتو” كما حدث مع السويد وفنلندا التي رفع انضمامها إلى الحلف عدد دوله إلى 32 دولة.
وليس بعيداً عن هذه المعادلة رغبة روسيا في مواجهة الخطر الناجم عن نشر قوات “الناتو” في الدول المجاورة لروسيا، ومواجهة المساعي الغربية لإقحام روسيا في حرب استنزاف طويلة تستنزف القدرات العسكرية الروسية في ظل النتائج البطيئة للعقوبات.
تضمن الرد الروسي كذلك خطوات تصعيدية بشروع موسكو تعزيز القدرات العسكرية الدفاعية لجارتها بيلاروسيا وتزويدها بأسلحة نووية تكتيكية واستراتيجية. وإطلاقها مناورات تدريب مشتركة بين القوات البيلاروسية وكتائب قوات شركة فاغنر العسكرية الروسية في بيلاروسيا التي تتشارك بشريط حدودي مع بولندا الدولة الشرقية الأكثر عدائية لروسيا في حلف “الناتو”.
مخاوف دولية
على أن العالم لم يعد يلقي بالا للتداعيات الأمنية للحرب الدائرة في أوكرانيا، فإن تداعياتها على المسار الاقتصادي أشعلت قلقا عالميا لم يستثن الدول الغنية، التي أبدت مخاوف من مخاطر انعكاساتها على الأمن الغذائي لشعوبها ولا سيما في أسعار الغذاء المرشحة للارتفاع خصوصا وأن الحبوب تدخل في صناعة معظم المواد الغذائية التي يتوقع ان تشهد ارتفاعات حادة تضيف معاناة جديدة على سكان دول العالم الذين يعانون من آثار اقتصادية عاتية منذ تفجر الحرب في أوكرانيا.
ذلك أن اتفاق التصدير الآمن للحبوب الأوكرانية الموقع برعاية أممية وتركية في يوليو العام الماضي أمّن خلال عامه الأول إمدادات كبيرة لدول العالم بالحبوب الأوكرانية التي تمثل حوالي 10 % من الاحتياجات السنوية لدول العالم بلغت أكثر من 32 مليون طن من القمح والذرة وهي الكميات التي لعبت دورا محوريا في خفض أسعار الغذاء العالمية واستقرارها خلال الفترة الماضية.
كما لعبت هذه الكميات دورا رئيسيا في تقليص معدلات أزمة نقص الغذاء العالمي التي لاحت في الأفق نتيجة تداعيات أزمة المناخ، وهي الكميات التي تقول الأمم المتحدة أن غيابها اليوم قد “يزيد عدد الذين يعانون من سوء التغذية في أنحاء العالم بالملايين” ناهيك بأعباء تضخم أسعار المواد الغذائية التي تثقل كاهل المستهلكين في أكثر دول العالم.
وكل التقديرات تؤكد اليوم أن القرار الروسي سيؤدي في المدى القريب إلى مفاقمة أزمة الأمن الغذائي العالمي، كما سيقود إلى زيادة تضخم أسعار الغذاء بالنسبة إلى البلدان منخفضة الدخل بصورة خطيرة للغاية، وخصوصا دول شمال أفريقيا والشرق الأوسط التي تفتقد حاليا إلى آليات دائمة لتأمين استيراد الحبوب بسبب أزماتها المالية واسوأ منها الدول العربية والأفريقية التي تعاني من الصراعات والحروب والجفاف.
وهذه التداعيات لم تعد سرا فقد كانت محورا رئيسيا في التقارير الصادرة حديثا عن صندوق النقد الدولي والأمم والمتحدة، وكذلك في التصريحات الأخيرة للأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش الذي أكد أن القرار الروسي سيجعل “مئات الملايين من الأشخاص يواجهون خطر الجوع.
أزمة متجددة
في ظل التعقيدات المستمرة للحرب الدائرة في أوكرانيا بدعم غربي، كان العالم يتوقع تجدد أزمة اتفاقية التصدير الآمن للحبوب الأوكرانية، لكنه ظل صامتا حيال الملاحظات الروسية على الاتفاق لأكثر من عام رغم التحذيرات التي تحدثت عن احتمال أن توظف روسيا ذلك كورقة لمواجهة الدعم الغربي العسكري المتزايد لأوكرانيا بآثار سيدفع الداعمون الغربيون وحدهم فاتورتها الثقيلة.
وما كان يخشى منه تحقق الآن حيث ارتفعت أسعار القمح بشكل حاد في الأسواق العالمية، بعد إعلان روسيا أنها ستتعامل مع السفن المتجهة إلى الموانئ الأوكرانية كأهداف عسكرية، وهو الإعلان الذي خلف هزات مباشرة في أسواق القمح العالمية ظهرت على السطح سريعا بتسجيل أسعار القمح ارتفاعا من نحو 650 دولاراً أميركياً إلى 727.5 دولاراً بزيادة مقدارها 77.5 دولاراً وبنسبة تناهز 12 %، في حين قفزت العقود الآجلة للقمح في البورصات العالمية الكبرى بأكثر من 2 %.
هذه الهزة السريعة أثارت مخاوف من احتمال تصاعدها خلال الشهور القادمة في ظل التوقعات التي تشير إلى إمكانية تعثر إمدادات الحبوب على المدى المتوسط في ظل الآثار التي خلفتها التغيرات المناخية على إنتاجية المحاصيل الزراعية في آسيا وأميركا الشمالية وبعض دول أوروبا، والتي بدأت أولى ملامحه في الصين التي تسببت التغيرات المناخية في انخفاض انتاجيتها من الحبوب بواقع 134 مليون طن خلال العام الجاري.
والتداعيات المحتملة لأزمة الغذاء كانت محور تقرير حديث أصدره صندوق النقد الدولي أكد فيه أنّ انسحاب روسيا من اتفاق حبوب البحر الأسود، سيفاقم أزمة الأمن الغذائي العالمي خصوصا الدول التي تعتمد بشكل كبير على الحبوب الأوكرانية في دول شمال أفريقيا والشرق الأوسط وجنوب آسيا، كما يهدد بزيادة تضخم أسعار الغذاء العالمية وخصوصا في البلدان المنخفضة الدخل.
وعلى أن المشهد يبدو قاتما حتى الآن في ظل المواقف الغربية المتصلبة حيال العقوبات المفروضة على روسيا، وعدم رغبتها في التعاطي مع المقترحات الأممية لحل الأزمة، ثمة بصيص أمل في الجهود الدولية والأممية التي بدأت البحث في اعتماد طرق برية بديلة تؤمن استمرار تصدير الحبوب الأوكرانية فضلا عن شروع كييف بوضع خطط لاعتماد طرق نهرية أخرى من شأنها توصيل الحبوب الأوكرانية إلى العالم.
يضاف لذلك اعلان موسكو منحها القمح للدول الفقيرة مجانا وهي خطوة قد تخفف وطأة الأزمة على الدول الأكثر فقرا في العالم، وكذلك الدول التي تواجه أزمات وحروب داخلية، وهو امر وارد في حال لم تتطور الحرب إلى وضع يصعب معه تصدير المنتجات الزراعية الروسية إلى الدول الفقيرة.