العالم وفلسفة ما بعد الحداثة

يكتبها اليوم / عبدالرحمن مراد

 

 

يشهد المجتمع الإنساني اليوم حركة تفكيك وانهيار للقيم ويعمل النظام الرأسمالي على هدم التطبيقات الاجتماعية ليعيد البناء وفق نظام جديد, وقد شرع في ذلك منذ أمد غير قصير وهو اليوم في أوج التفاعل مع هذا التوجه، من خلال رسم المتخيلات الاجتماعية الحديثة التي ترى أن الكائنات البشرية عناصر اجتماعية عقلانية وُجدت لكي تتعاون من أجل المنفعة المتبادلة في كنف السلم.
وبدأ المفكر الغربي يطرح متخيلاته في ما يكون عليه المجتمع السياسي، أي في ما يساعد على قيامه وتكوّنه.
بيد أن أيّ نظرية هذا شأنها يمكن لها، لا محالة، أن تقترح فكرة ما عن النظام الأخلاقي، ذلك أنها تسوغ لطريقة ما عن العيش سويًا في صلب المجتمع.
والنظرية الفلسفية الغربية ترى أن صورة المجتمع ليست سوى انعكاس لصورة الأفراد الذين يجتمعون سويًا فيشكلون كيانًا سياسيًا استنادًا إلى خلفية أخلاقية معينة تسبق وجود المجتمع نفسه، فضلًا عن غايات معينة تحكمها وجهات نظر معينة. ولهذه الخلفية الأخلاقية علاقة بالحقوق الطبيعية، ذلك أن المجتمعين لديهم منذ البداية واجبات أخلاقية محددة تجاه بعضهم البعض. والغايات التي يسعون إليها إنما تعكس فوائد مشتركة معينة يكون الأمن الأكثر أهمية من بينها جميعًا.
وتلح الفكرة الكامنة وراء النظام الأخلاقي على حقوقنا وواجباتنا تجاه بعضنا البعض بوصفنا أفرادًا، وذلك حتى قبل الرابطة السياسية أو خارجها. ويُنظر إلى الواجبات السياسية على أنها امتداد أو تطبيق لهذه الروابط الأخلاقية الأساسية جدًا. ولا شرعية للسلطة السياسية إلا بقدر ما تكون محل اتفاق من قبل الأفراد (العقد الأصلي)، ويخلق هذا العقد واجبات مُلزمة بمقتضى مبدأ موجود مسبقًا يفرض علينا الالتزام بتعهداتنا».
هذا البعد النظري بدأ يعلن عن نفسه في المجتمع الأوربي وفي أمريكا وألمانيا وبدأت موجة التفكيك للنظم الاجتماعية وتطبيقاتها الاجتماعية تجتاح الأفراد والجماعات برعاية رسمية، فالذي يناوئ أو يسجل موقفا مناهضا للهدم والتفكيك يقابل بعقاب أخلاقي مثل وقف حساباته البنكية وتوجيه المصارف بعد التعامل معه كما حدث مع أحد رؤساء الأحزاب في بريطانيا وقد كتب ذلك شارحا ما يحدث اليوم من هدم وتفكيك للنظم الاجتماعية وتطبيقاتها في المجتمع البريطاني وفي غيره من دول الاتحاد الأوربي وفي أمريكا .
مفكرو المجتمع الرأسمالي يبدلون جهودا جبارة اليوم في تقديم رؤية فلسفية تحث على التفكير المستقل والتحرر من القيود والتقاليد وتشجع على اكتشاف الذات وتحقيق النمو الشخصي وتقول رؤيتهم أن القوة والتفوق الشخصي مفتاح تحقيق القيمة الحقيقية في الحياة وتدعو رؤيتهم إلى تجاوز المفاهيم التقليدية للخير والشر والبحث عن معان أعمق للإنسانية .
اليوم العالم يتحدث عن فكرة “نهاية العالم كما نعرفه” ويدعو إلى “علم اجتماع للقرن الواحد والعشرين” وهو القرن الذي علت فيه نظريات الفوضى والانحلال الخلقي، وأصبح العالم يشرعن المثلية ويشجع على اكتشاف الفرد لذاته، فهم اليوم لا يسجلون النوع في وثائق الميلاد حتى يكتشف الفرد نفسه إن كان ذكرا أم أنثى، ويشجعون على التحول الجنسي وممارسة الحياة الطبيعية في إشباع الرغبات البيولوجية، ويقرون زواج الأقارب مثل الأب بابنته والأخ بأخته ولا يمانعون أن يمارس الابن مع أمه، هذا الانهيار القيمي، والشيوع في الفساد الأخلاقي يهدف إلى تحويل المجتمعات الإنسانية إلى مسخ مشوه بدون معنى ولا قيمة بهدف إشباع طموحات الشركات الكبرى فالمجتمع المتخيل لابد أن يكون مجتمع مسالم لا يمانع في تبادل المنفعة مع غيره .
« أيُّ مستقبل للنسق العالميّ الراهن؟ وأيُّ نمطٍ من المعرفة ينبغي أن يوجِّه رؤيتنا لمستقبل العالم؟ هذان هما السؤالان المركزيان اللذان طرحهما إيمانويل فالرشتاين أستاذ العلوم الاجتماعيّة، حيث ناقش أطروحة في غاية الأهمية هي أنَّ النسق العالميّ الذي نكوِّن واحدًا من أجزائه يعيش الآن الطور الأخير من عمره، ويعبر، بالتأكيد مرحلة انتقال مؤكَّدة إلى مستقبل غير مؤكَّد على الإطلاق. ولذلك فإنَّ الطرائق التي درجنا من خلالها، على تصوّر عالمنا، وأساليب تفكيرنا فيه، تواجه تحديًا جوهريًا في هذه الآونة. وإذا أردنا أن نحسب الخوض في مرحلة الانتقال التي يجتازها هذا النسق العالميّ، فإنَّ علينا أن نفهم كلَّ الفهم جانبًا من القضايا المعرفية الأساسيّة التي بين أيدينا.
إنَّ النسق العالميّ المعاصر، كما يرى فالرشتاين، بوصفه نسقًا تاريخيًا، قد دخل أزمة الاحتضار، وأنَّه من غير المحتمل أن يبقى قائمًا بعد خمسين سنة من الآن. إنَّ للأنساق العالميّة أعمارًا محدودة وآجالاً تاريخية يخضع لها “عالم الرأسمالية”. إنَّ هناك حاجة ملحة إلى تحريك جديد للمعرفة يتجاوز المسلمات واليقينيات القديمة التي تسرّب الكثير منها إلى مجالات المعرفة، بما في ذلك العلوم الاجتماعية، فحال دون الإبداع فيها ودون فهم أعمق وأوضح لمسار العالم وقضاياه.»
« يؤكِّد فالرشتاين وجود نوعين مهمين جديدين من الحركات الفكرية التي برزت خلال العقود الثلاثة الماضية وهي علوم التراكب والدراسات الثقافية، وكلاهما يطرح مسألة في غاية الأهمية هي وجود ثقافتين تختلف إحداهما عن الأخرى كلَّ الاختلاف، وتناقض إحداهما الأخرى على نحو جوهريّ, إنَّ هناك ستة تحديات كبرى ستفرض تغيرات كبرى وجوهرية تغير وجه العالم كلّه بعد سنوات قليلة من الآن، أولها هو سؤال: هل من المكن قيام عقلانية نظامية مجردة؟
وكيف يمكن وجود عقلانية نظامية عالميّة كونيّة؟
والتحدي الثاني هو تحدي المركزية الأوروبيّة، والتحدي الثالث هو حول واقع متعدد الجوانب للزمن. وقد جاء التحدي الرابع من خارج علم الاجتماع، وقد تمثّل في ظهور حركة معرفية في العلوم الطبيعية والرياضيات تُعرف اليوم بدراسات التراكب”.
هذا هو العالم الذي يتشكل اليوم ليكون في الغد، إنهم يصنعون نظماً جديدة وتطبيقات جديدة لمجتمع إنساني جديد لا يشبه ما كان وسوف يتحدثون عن مجتمعات بدائية قديمة في المستقبل كل محافظ يصبح بدائياً .

قد يعجبك ايضا