مشكلة اليمن – كدولة وطنية مستقلة، كما تبدو لكل متأمل – تكمن في غياب يمنية اليمن، وهي قضية تمتد إلى نهاية الستينات وبداية عقد السبعينات من القرن الماضي ولها عمق تاريخي، وقد ألمح إليها البردوني, ولم يلتفت إليها أحد, وظلت حاضرة كقضية ثقافية، وقضية وطنية, ويمكن أن يقال إن روح الانقسام بين الكيانات التي كوّنت قوام الدولة المركزية، التاريخية التي حكمتها بلقيس كانت سببا مباشرا في ذلك الخضوع أو التأثر الذي تحول إلى عمالة ، ذلك أن الدولة المركزية التاريخية كانت تتكون من كيانات جزئية كل كيان كان له قيل، وبتحالف مجموع الكيانات والأقيال تتكون الدولة المركزية فإذا غضب قيل من الأقيال انفصل عن الدولة المركزية، وأعلن نفسه كياناً مستقلاً، كما نقرأ عن قتبان وأوسان وحضرموت وغير أولئك الذين تشكلوا في إطار الدولة المركزية.. فالتنظيم كان حاضراً عند الدولة التاريخية اليمنية وهذا العنصر التاريخي يبرز بقوة اليوم، كما أن التناقض كان أساساً محورياً في الأشكال البسيطة والمعقدة للحركة، وهو بيّن من خلال حالة التشاور في التفاعل مع رسالة النبي سليمان عليه السلام، وهو ذات التشاور الذي يحصل اليوم في كثير من البقاع كعدن وبعده تشاور أعيان حضرموت في الرياض.
وظل الفراغ الثقافي هو الفجوة الأكثر تأثيراً في المسار الحضاري للذات اليمنية.. فالثابت أن كتب الأخبار تحدثت عن أنبياء ورسل إلى عرب الجنوب ولم تشتهر إلا قصة ملكة سبأ مع سليمان وقصص اليهودية والنصرانية، وقد ظل أثر ذلك كنوع من تطور التناقضات الداخلية في البنية الثقافية التراكمية للمجتمع اليمني، كما ظل الفراغ الحضاري والثقافي فاغرا فاه يلتهم كل قادم بعد حادثة الاخدود في نجران وغرق الملك ذي نواس في البحر.
ذلك أن خروج ذي ثعلبان النجراني إلى الحبشة للاستعانة بهم كان بمثابة ذروة النكوص الحضاري الذي بدأت ملامحه مع قصة الهدهد والعرش للملكة بلقيس ثم توالت الأحداث من بعد ذلك في ذات المربع الذي رواه الهمداني في الأكليل، نقلاً عن الزبور في موضوع جدلية الملك .
إذ شهدت المراحل التاريخية المسار عينه الذي رسمه الزبور في غابر الأيام، فسيف انتهج ذات المسلك لـ«ذي ثعلبان» ثم شهدت المرحلة الإسلامية نفياً حضارياً للذات اليمنية بدءاً من السقيفة وانتهاءً بما وصفه البردوني تنصيب النائب رئيساً.. ولعل الممعن في التاريخ الإسلامي يجد حضوراً فاغراً للبعد الحضاري الذي ظل طوال تاريخه وحتى اللحظة يشتهي الامتلاء.
فاللحظة التاريخية الوحيدة التي يمكن وصفها بلحظة الوعي بالذات كانت مع القيل الهيصم بن عبدالرحيم الحميري ولم يمتد عمرها لأكثر من عشرة أعوام، حتى صرخ المكان على لسان هارون الرشيد بقوله لأحد قواده:
«أسمعني أنين أهل اليمن»، ومثل تلك الصرخة لم تتكرر مع الحركات التي كان لها آصرة تمتد الى الجذر المكاني الذي كان يومئ من بغداد أو من القاهرة إلى نجد وقريش كمتوالية تاريخية تنبأ بها كتاب الزبور وظلت كصيرورة في كتاب الزمن.. وبمثل ذلك يمكننا تفسير موقف السعودية من ثورة سبتمبر 1962م.
إذ أن التباين الواضح «بين الزيدية والسلفية» كان يحتم عليها الوقوف مع صف الثورة لكنها ساندت النظام الملكي إلى لحظة التصالح الأخيرة في الخرطوم، فتلك المساندة كان العامل المكاني التاريخي هو الفاعل فيها ولم يكن للمصلحة السياسية إلا دور المبرر فقط لانتفاء عناصرها وموجباتها.
فالدور السعودي في الستينيات والسبعينيات لم يكن إلا بهدف تدعيم بنية الخضوع والهيمنة وتكريس عوامل التخلف التاريخي الذي يعمل على فقدان المجتمع لشروط تجديد إنتاجه، وهو ذاته الذي ظل فاعلاً خلال العقود التي تلت وما يزال حتى اللحظة التي شهدت التوقيع على المبادرة الخليجية إلى مرحلة العدوان والحبل مازال يمتد، فالقضية لا تبرح مربع إفراغ الذات الحضارية اليمنية من محتواها الثقافي والتاريخي من خلال طمس المعالم الأثرية الذي تنتهجه الحركة الوهابية في اليمن واستهداف المخطوطات بالممكنات المتاحة كإغراءات البيع والتهريب وتعطيل القدرات الإبداعية والتقليل من فاعليتها، وذلك عن طريق قوة تأثيرها في حصر الصراع بين طبقتين في اليمن هما طبقة المشائخ وطبقة الرأسماليين وأضحت بقية الطبقات خارج دائرة الصراع الاجتماعي، وهو الأمر الذي عزز من حزمة المفاهيم التاريخية البغيضة كالاستغلال والغبن والغش الأمر الذي يتضاد مع نعوت وأحوال الحالات الثورية كالنقاء الثوري وشرف النضال الثوري، مع إضمار رفض استمرارية الثورة ورفض التطور الجدلي للمجتمع.
وقد ساهم نظام علي عبدالله صالح في ذلك، إذ عمل عن طريق المشائخ على تسخير قوى الشعب العامل لصالح مؤسسة الحكم الحزب، ذلك أن تحالفهم مع طبقة المشائخ كان تحالفاً وقتياً أو عرضياً فرضته الضرورة السياسية الضاغطة وهو في جوهره تعبير عن التناقض التاريخي، الذي بالضرورة لا يدل على النفي أو الاحتواء، بل قد دل على بداية ولدت مع النهاية التي رسمت ملامحها أحداث 2011م.
إذ رأينا في 2011م إمكانية تحالف الأضداد على أرض الواقع، «تحالف رأس المال وقوة العمل»، فقد نهضت التيارات في حركتها الاجتماعية المتعادية والمتناقضة حتى تؤدي دور البطولة المطلقة من خلال وهم الانتصارات، ذلك أن خلاصة صورة 2011م، نوجزها في القول إنها كانت صراعاً بين قوة العمل والسلطة، قوة العمل المتحالف مع رأس المال والمتناقضة معه في ذات الوقت وبين النظام المعبر عن الجماهير ومصالحها، فرأس المال السياسي كان يجاهد في سبيل مصلحته عن وعي متفاوت الدرجة كي يحافظ على الأساس الاقتصادي والبنيان العلوي وهو بذلك قد يزيد من العقبات في وجه أي ميل إلى التغيير والانتقال، ذلك أن تغيير المجتمعات يعود بالأساس إلى تطور التناقضات الداخلية فيها.
إن القضية الوطنية اليمنية تعود بجذرها إلى الأشكال التاريخية التي لم يتعرض لها المفكرون لفض إشكالاتها المتوالية، ولذلك فإن النتائج المتوالية نتائج مؤلمة لكل حركات التحول والانتقال التي اشتغل عليها السياسي وما لم نحل الإشكالات الاجتماعية والثقافية المعقدة فإننا سنظل ندور في ذات الرحى التاريخية .