« .. وريقها  منها »

يكتبها اليوم/ عباس السيد

 

تحركات محمومة تقوم بها قوى العدوان الإقليمية منها والدولية مع أدواتها في اليمن، ليست من أجل الوصول إلى اتفاق للهدنة، ولا علاقة لها بإيجاد تسوية وحل للمشكلة في اليمن، بل من أجل تعقيد الوصول إلى الحل.

تنفيذ البنود المتعلقة بالملفات الإنسانية – بما فيها صرف المرتبات – يبدو أنها أصبحت بالنسبة لهذه القوى جزءا من الماضي يتعارض مع الواقع السياسي الذي يجري تنفيذه بخطى متسارعة جريئة ووقحة.

رفعت قوى العدوان سقف شروطها، وسقط آخر أقنعتها، وافقت على صرف رواتب الموظفين اليمنيين، ولكن مقابل تفكيك الجمهورية اليمنية إلى عدد من الدويلات، لم يتفقوا بعد على عددها فعملية الحضانة والتفقيس لم تكتمل بعد، لكن معطياتها تشير إلى عدد يكفي مستقبلا لإنشاء ما يمكن تسميته: مجلس التعاون لدول الخليج العدني.

شرط صنعاء لصرف المرتبات، يتعامل مع اليمن كدولة واحدة، اسمها الجمهورية اليمنية، ويربط كافة الموظفين في محافظاتها ببيانات مالية وأوعية مصرفية وموارد مالية محددة وموحدة، وهذا ما لا تريده قوى العدوان التي تقوم حاليا بحصاد ثمار عدوانها وحصارها وهو التفكيك.

ولذلك يربطون صرف المرتبات بما يسمونه “تسوية شاملة”، وهي وفقا لمخططهم تتجاوز انفصال الجنوب عن الشمال و”استعادة دولة الجنوب” والعودة باليمن إلى ما قبل عام 1990م، بل تتعدى ذلك إلى استعادة أوضاع ما قبل عام 1967.

الوضع الذي تعيشه المحافظات المحتلة في الجنوب حاليا، يبدو مشابها لما كان عليه منتصف الثلاثينيات من القرن الماضي، حينها كانت الحروب والمشاكل تعم المناطق شرق مستعمرة عدن وغربها، وهو ما حفز سلطات الاستعمار البريطاني إلى التدخل ورسم الحدود بين السلطنات والإمارات والمشيخات، وخلال عشر سنوات وقّع زعماء تلك الكانتونات أكثر من 1400 اتفاقية، وأصبح ضابط المخابرات البريطاني “وليم هارولد انجرامز” هو السلطان الحقيقي غير المتوج لما عُرف بـ “محميات عدن الشرقية”، من سلطنة آل الفضلي شرق عدن إلى سلطنة آل عفرار في المهرة وسقطرى، مرورا بالكثيرية والقعيطية في حضرموت.

خلال ثمان سنوات، خلقت قوى العدوان فوضى عارمة في تلك المناطق، وفشل المستعمرون الجدد، السعودية والإمارات، ومعهما الولايات المتحدة في التحكم بتلك الفوضى، فاستنجدوا بالمستعمر القديم، صاحب الخبرة الكبيرة في تلك المناطق.

ومنذ العام 2018م تولت بريطانيا الملف اليمني وأصبحت «حاملة القلم» في ما يتعلق باليمن، وهو ما يعرف ديبلوماسيا بالطرف الذي يقود النقاشات وصياغة القرارات في مجلس الأمن.. بريطانيا – التي تعد أحد أركان قوى العدوان الأربعة الذي يضم إلى جانبها كلاً من الولايات المتحدة والسعودية والإمارات – تعيش حالة ما يعرف بـ “النوستالوجيا” وهو ألم الشوق والحنين إلى ماضيها في الجنوب اليمني، ولذلك تضطلع لندن بمهمتها في اليمن بحماس، وتنبش في تراث السياسيين والضباط البريطانيين الذين أداروا مستعمرة عدن وما حولها شرقا وغربا من أرض الجنوب اليمني طوال 128 عاما، من الكابتن هينيس إلى السير تريفليان.

اتخذ البريطانيون من مدينة عدن قاعدة انطلاق لهم، ومنها رسموا خريطة أطماعهم ونفوذهم الذي لم يقتصر على طول السواحل الجنوبية لليمن، فقد كانت السواحل الغربية على البحر الأحمر جزءاً من تلك الأطماع على الدوام، وقد بدأت المحاولات البريطانية للسيطرة على ميناء المخا مطلع القرن السابع عشر، وفي يناير 1821م دمرت المدفعية البريطانية مدينة المخا وحولتها إلى أنقاض، وتمكنت من الحصول على موطئ قدم في المدينة بعد مفاوضات مع السلطة في صنعاء.

بعد قرن من العملية البريطانية في المخا، احتل البريطانيون مدينة الحديدة أواخر عام 1918، بعد عملية عسكرية مفاجئة شاركت فيها عشرات السفن الحربية التي قصفت المدينة وأحدثت دمارا هائلا وسقط الآلاف من السكان بين قتيل وجريح، ونزح معظم السكان شرقا، وحتى بعد انسحاب القوات البريطانية من الساحل الغربي، ظلت الجزر اليمنية في البحر الأحمر من جزيرة ميون في باب المندب إلى كمران، تحت سيطرة الاحتلال حتى العام 1967م مرورا بحنيش وزقر.

استنادا إلى ماضيها الاستعماري وحنينها للعودة إلى اليمن، لم تخجل لندن في مايو الماضي وهي تقدم رؤيتها أو مبادرتها للحل في اليمن «على أساس حل الدولتين» هكذا وبكل وقاحة سعت إلى تسويق رؤيتها في كواليس الأمم المتحدة ومجلس الأمن بحثا عن دعم دولي لولا الموقف الروسي الذي أجهض المشروع البريطاني. وبالنظر إلى الواقع على الأرض الذي فرضته أدوات العدوان، يمكن رؤية أن المشروع البريطاني يتجاوز جغرافيا الجنوب ويمتد إلى الساحل الغربي، وهذا ما يؤكد أن لندن تعمل على تنفيذ خطط ومقترحات قدمها مستشاروها قبل أكثر من قرن من الزمان، ومنهم «هارولد جاكوب» الذي كتب في أواخر عام 1917م، تقريرا عن الحدود المستقبلية لبريطانيا في اليمن، قال فيه: «أما بخصوص المدن الساحلية كالحديدة والمخا وموانئ الزرانيق فيجب إدخالها في النفوذ البريطاني وخاصة الحديدة التي يجب أن تحصل فيها الحديدة على امتيازات لكى تصبح تحت التأثير البريطاني».. فشلت مساعي قوى العدوان في احتلال سواحل الحديدة، لكن سواحل تعز من باب المندب إلى الخوخة جنوب الحديدة مرورا بميناء المخا لا تزال محتلة، واحتلال هذه السواحل يعد جزءاً من المخطط الاستعماري البريطاني الذي يتكامل مع المخطط الأمريكي الإسرائيلي في البحر الأحمر وخليج عدن.

لكن المفارقة المثيرة للضحك والبكاء، هي أن محاولات البريطانيين للسيطرة على السواحل الجنوبية والغربية لليمن كانت في القرون الماضية تتم بقوات بريطانية، لكنها في الوقت الحالي تتم بوكلاء محليين، تماما كما يقول المثل اليمني «…. وريقها منها».

aassayed@gmail.com

 

 

 

 

 

 

 

 

قد يعجبك ايضا