الوحدة في عيدها الـ33..اليمن واحد رغم التحديات ومؤامرات التقسيم إلى زوال
الوحدة اليمنية ثابت يستند إلى الحقائق الكبرى.. ومخططات التقسيم والتفكيك لا تدوم
ارتبط الاستعمار لليمن بمشاريع التجزئة وإنشاء الإمارات المليشاوية وارتبطت الوحدة بالثورات الوطنية في مواجهة الغزاة
الوحدة اليمنية كانت عنوان النضال والثورة في مواجهة الاحتلال البريطاني، وهي اليوم ركيزة التصدي ومواجهة العدوان
بقدر المخاطر التي تتعرض لها الوحدة اليمنية اليوم، بقدر الضرورات التي تحتم التمسك بها كمصير وهوية وانتماء
منذ السادس والعشرين من مارس 2015م تتعرض اليمن لأكبر عدوان عسكري وحصار وغزو في تاريخها، إذ تحالفت عشرين دولة في حرب عسكرية واقتصادية وتدميرية على اليمن، ووضعت نصب أعينها منذ اللحظة الأولى الوحدة بين اليمنيين هدفا أساسيا للغزاة، وما رفعت شعارات وبيارق التقسيم والتجزئة إلا تحت حماية الغزاة وبنادقهم.
في الثلاثين من نوفمبر 1967م، عاد الوفد اليمني المفاوض من جنيف، وفي صبيحة ذلك اليوم أذيع بيان الاستقلال من الاحتلال البريطاني في مدينة عدن، وكانت الوحدة اليمنية هي عنوان الاستقلال، كما كانت عنوان الثورة الوطنية التي دحرت جيوش بريطانيا وعملائها عن مدينة عدن وما جاورها.
الثورة /إدارة التحقيقات
قبل ذلك وخلال 128 عاما، ظلت بريطانيا المحتلة لعدن والمناطق الجنوبية والشرقية، تحيك مؤامرات تمزيق اليمن وتفتيتها إلى إمارات وملشنات متعددة، وتحت جنازير الدبابات والمدافع البريطانية كان الغزاة البريطانيون يرفعون شعارات وبيارق التقسيم والتجزئة لليمن.
ورغم ما واجهته الوحدة اليمنية من مخاطر وتحديات إلا أن إرادة الشعب انتصرت وسقطت مشاريع التقسيم والتفكيك أرضا، ومثلما توحدة إرادة أحرار اليمن في مواجهة الاحتلال البريطاني، اتحدت إرادته في إعادة توحيد السلطة السياسية لليمن منذ الوهلة الأولى، ولولا بعض العثرات والأنانيات الشخصية التي واجهتها الثورة في الشمال والجنوب لتحقق إعلان وحدة السلطة السياسية في عام الاستقلال نفسه.
كان العام 1967، عاماً مفصليا في تاريخ الأمة اليمنية، فقد انكسرت مخططات التقسيم والتجزئة في النهاية وانتصرت إرادة الشعب، بطرد الاحتلال البريطاني وإلغاء الكيانات التفكيكية في الجنوب والشرق.
حين دحر الاحتلال البريطاني من اليمن، سقطت مخططات التقسيم أرضا، ولقيت 23 سلطنة ومشيخة وإمارة، على الأرض اليمنية حتفها، تلك الكيانات التي كرستها بريطانيا للتجزئة، واستهدفت الهوية الوطنية الواحدة، باتت بعد ذلك اليوم في حكم العدم، حيث انتصرت إرادة الشعب وذهبت الحركة الوطنية في كل جهات البلاد تمضي في طريق استكمال أهدافها الاستراتيجية: يمن حر وموحَّد.
يجب التأكيد أن هذا الإنجاز ما تحقق إلا لأن الثوار توحدوا في المواجهة، حيث كان الثوار يخوضون بالأساس حرب توحيد الكيان الوطني المجزأ بين سلطات الاحتلال الأجنبي، وبين السلطة الوطنية في صنعاء، وما إن غادر آخر جندي بريطاني مدينة عدن، حتى اختفت أعلام وشعارات الإمارات المشيخية التي كانت تتقاسم النفوذ والسلطنات، وتلاشت بيارق التمزيق والتفتيت إلى الأبد.
وهكذا انتهى الاحتلال البريطاني لعدن الذي دام مائة وثمانية وعشرين عاما، خلالها كان قد فكفك البلاد وجزأها إلى 24 جزءا، وباندحار الغزاة التئمت الوحدة واحتفل اليمنيون بالانتصار، وهكذا في كل مراحل التاريخ بقدر ما تواجه اليمن احتلالا أجنبيا بقدر ما تتعرض وحدتها للمخاطر التي تنتهي باندحار الغزاة، ولم ينتصر اليمنيون في مواجهة الغزاة إلا بتوحيد معركته، ولهذا كان توحيد الوطن على رأس أولويات ثوار أكتوبر ومهام ثورتهم النضالية، لأن تحرير اليمن يقتضي ضمنيا، وبالدرجة الأولى؛ القضاء على مشروع التشطير الاحتلالي وتوحيد الوطن.
كان المستعمر في عدن، يخشى يمنا قويا موحدا ومستقلا، عقب رحيل الأتراك في العشرينيات من القرن الماضي عن شمال اليمن، رغم الدور العظيم الذي قام به الإمام يحيى حميد الدين طيلة عقد العشرينيات في توحيد أجزاء واسعة من البلاد، أصبحت تعرف لاحقا باليمن الشمالي، ورغم ذلك لم يتوقف الاحتلال البريطاني عند حدوده التشطيرية، بل سعى إلى احتلال الحديدة وتهامة ومناطق أخرى في الشمال، ومن ذلك يظهر أن التقسيم والتجزئة لليمن كانت تمكن الغزاة من الاحتلال لليمن، ويظهر أيضا أن الاحتلال لا يريد خيرا لتلك المنطقة دون الأخرى، بل يريد أن يحولها إلى قاعدة عسكرية لاحتلال الأخرى، كما فعل الاحتلال البريطاني حينما جعل عدن والسلطنات التفكيكية قاعدة عسكرية لاحتلال ما تبقى من اليمن.
وفي عقود الاحتلال البريطاني تحولت عدن إلى قاعدة عسكرية من الدرجة الأولى، ففي عام 1960، أصبحت عدن مقر قيادة الشرق الأوسط للاستعمار البريطاني، ومن بعدها كان المستعمر البريطاني يتعامل مع عدن باعتبارها الركيزة الأساسية للدفاع البريطاني في الشرق الأوسط مع الدور المزدوج في الدفاع عن الثروات النفطية في الخليج، وبحلول 1964 كان يوجد في عدن نحو 8000 فرد من القوات المسلحة. يقول مؤلف كتاب “عدن تحت الحكم البريطاني”، بأن القوات البريطانية في الستينات “كانت تجلجل في المدينة بأعداد لا سابق لها”.
وكانت السلطنات التمزيقية وإمارات السلاطين والأمراء والمشائخ والإقطاعيون في جنوب اليمن هم الركيزة الداخلية الوحيدة للوجود البريطاني المحتل لليمن، ورغم ذلك وأمام هذه القوة العسكرية المتزايدة، والإمارات المتعددة سقطت مشاريع التقسيم وتوحدت اليمن من شمالها إلى جنوبها، بفعل اندحار الاحتلال وانتصار إرادة اليمنيين.
كان سيل الثورة اليمنية يتعاظم كل يوم ويشتد. كانت الثورة محتدمة والقتال ضاريا في أجزاء واسعة من اليمن، فيما ثورة 26 سبتمبر، لم تكتف بالانقلاب على نظام الحكم الملكي من الأساس، وإقامة النظام الجمهوري الكامل، وإنما كان هدفها الأول:” التحرر من الاستبداد والاستعمار ومخلفاتهما وإقامة حكم جمهوري عادل وإزالة الفوارق والامتيازات بين الطبقات”*.
• قحطان الشعبي وواقع الحركة الوطنية في اليمن
في 28 مارس 1961، قدم المناضل قحطان الشعبي إلى زملائه قادة المعارضة اليمنية في القاهرة، دراسة لخص فيها واقع الحركة الوطنية في اليمن جنوبه وشماله، وما الذي يجب عمله لبناء حركة ثورية تحررية. كانت الجملة الأولى لقائد ثورة 14 أكتوبر، بالنص، هي:” التحرر من الاستبداد في الشمال والاستعمار في الجنوب”.
وانطلاقا من هذا الوعي الوطني الراسخ، تحركت الثورة اليمنية في الشمال ضد الاستبداد، وفي الجنوب ضد المستعمر، وكانت الوحدة الوطنية هي الهدف الاستراتيجي لكلتا الثورتين بل هو استحقاق وطني وتاريخي تفرضه معادلات التاريخ والجغرافيا.
• بريطانيا وآل سعود ومخططات وأد الثورة
أحدثت ثورة 26 سبتمبر، هزة قوية ليس فقط في عدن، ولكن أيضا في سائر أنحاء وجهات منطقة الجزيرة العربية بأسرها، حيث ناصبت تلك القوى المرتبطة بالاستعمار، العداء لثورة سبتمبر منذ اللحظة الأولى. ففي الوقت الذي كان فيه راجح لبوزة رفقة عشرات المقاتلين في ”إب”، و”حجة”، “اتخذت بريطانيا من منطقة “بيحان” نقطة وثوب لأعداء الثورة المسلحين الذين شنوا هجومهم على مناطق الشمال عبر مارب تحت حماية سلاح الجو البريطاني.. هذا الهجوم المنسق مع الهجوم السعودي شمالا، كان يستهدف القضاء على الثورة في مهدها، أو الضغط عليها للاعتراف باتفاقية 1934، التي عقدتها المملكة المتوكلية مع بريطانيا التي تقضي بترسيم الحدود مع بريطانيا دون المطالبة بيمنية الجنوب، أو إحداث أي تغيير على هذه الحدود المصطنعة”.
هذا الدعم العسكري البريطاني على مستوى الجنوب، ضد الثورة، استهدف التسريع بضم عدن إلى اتحاد إمارات الجنوب المزيف. ولكون عدن مثلت نقطة إمداد للثورة في صنعاء بالرجال والأموال، فقد ” شرعت القوانين التي تمنع أي مواطن من المغادرة إلى شمال اليمن للالتحاق بوظائف الدولة أو في الحرس الوطني التابع لسلطة الثورة في الشمال، ثم أوكلت لشريف بيحان، وزير داخلية ما يسمى باتحاد الجنوب العربي، مهمة التحرك إلى السعودية في رحلات سرية ليقوم بعملية التنسيق للمخطط المضاد للثورة السبتمبرية، وتحديد الأدوار في الأعمال العسكرية التي تنطلق من الجنوب وتلك التي تنطلق من السعودية”.
أن هذا الخوف الصريح من الثورة في صنعاء، وذلك الاحتشاد ضدها في عدن المحتلة، إنما يؤكد وحدة الثورة اليمنية سبتمبر وأكتوبر ووحدة نضال الحركة الوطنية. ليس هناك حركة وطنية شمالية ولا حركة وطنية جنوبية في كل أدبيات ووثائق النضال. وإنما كان هناك تشطير وتفكيك وتجزيء وكانت هناك حركة وطنية موحدة، بدأت منذ الأربعينات، ومضت طيلة عقد الخمسينيات، تنمو بنشاط من خلال أندية واتحادات ونقابات عمالية وصحف، إلى جبهة وطنية عريضة ثم إلى مؤتمر النقابات العمالية ثم إلى، حركة سياسية فاعلة ومنظمة، وصولا إلى مرحلة الثورة.
• العمال في عدن يصنعون التحول نحو اليمن المستقل والموحد
وصف مؤلف كتاب “عدن تحت الحماية البريطانية” الإضرابات العمالية التي ضربت المدينة عام 1956 بأنها “نقطة تحول بين المجتمع القديم والجديد”. ويضيف:” لقد أصبح تنظيم العمال مختلفا جدا عما كان عليه قبلها، فمن 3 نقابات عمالية سنة 1953، إلى 8 نقابات بداية عام 58، إلى 24 نقابة نهاية العام تضم 4000 عضو”(8).وهكذا تزايدت قوة الحركات النقابية، بحلول عام 1959، حيث “وصل عدد أعضائها إلى نحو 15000، وتجاوز عددهم عام 1963، الـ22000، أي أكثر من ثلث عدد السكان في سن العمل”.
لعبت النقابات العمالية دورا تحضيريا للثورة اليمنية، ليس فقط 14 أكتوبر، ولكن قبلها لثورة 26 سبتمبر، حيث التحق الكثير منهم بالحرس الوطني دفاعا عنها، وكانت الأموال والتبرعات التي يجمعها العمال لصالح الثورة ترسل من عدن إلى صنعاء، أو إلى جبهات الدفاع عن الثورة مباشرة. وليس غريبا ان تناصب العائلة السعودية المالكة العداء لثورتي سبتمبر وأكتوبر معا.
لقد خاضت الحركة العمالية سجالا فكريا وسياسيا متواصلا مع دعاة “الجنوب العربي”، ترافق مع نضال يومي من أجل تأكيد الهوية اليمنية الواحدة، تمثل ذلك بالدعوة الناجحة للاضرابات ولمقاطعة انتخابات المجلس التشريعي، الذي استبعد اليمنيين الشمالين في عدن من الانتخابات، وكان ذلك أقوي إضراب شل الحركة التجارية والاقتصادية للمدينة. كانت مقاطعة انتخابات 1955، التي نجحت بنسبة كبيرة، هي التعبير والتأكيد الأقوى الرافض لمشروع تفكيك وتمزيق الهوية اليمنية. ويمكن اعتبار ذلك بأنه نقطة افتراق بين مرحلتين وبين مشروعين: بدء العد التنازلي لكيانات ودعوات التجزئة والانفصال، وأخذت حقائق المصير الواحد والنضال الواحد تزدهر وتتقوى، عبر عن نفسه بوضوح في عنوان:” الجبهة الوطنية المتحدة”.
عمدت الحركة في شكلها النقابي والعمالي أولا إلى توحيد الكيانات النقابية، شيئا فشيئا “لقد التحمت قيادة مؤتمر النقابات العمالية الذي تأسس عام 1956،مع قيادة الجبهة الوطنية المتحدة، بحجة السيطرة على الحركة النقابية، لكنهم لم يتخلوا عن أفكارهم وتطلعاتهم السياسية”. وكانت الحركة النقابية تبني دعايتها بحيوية كبيرة منذ مرحلة مبكرة، وبحلول عام 1958، كان المؤتمر العمالي في عدن قد تولى المسرح السياسي عمليا مع شريكه؛ الجبهة الوطنية المتحدة، “وأصبح البؤرة الرئيسية للوطنية الراديكالية في عدن”.
في المقابل كان الاحتلال، يركض مسرعا في محاولة منه لتأمين وجوده واستمراريته، من خلال خلق تضامن مشترك لمحمياته ومشروعه التفكيكي الذي تبلورت، أخيرا، بفكرة “اتحاد الجنوب الفيدرالي”، غير أن تلك الأفكار الاحتلالية، لم تفشل فقط، وإنما أججت أكثر السخط الشعبي والعمالي ضد الاحتلال وخلقت أفكارا جديدة لمقاومة هذا التوجه وإحباطه.
وفي 1963 بدأ الكفاح المسلح وتحرير الإنسان والأرض اليمنية المحتلة من بريطانيا، ففي أكتوبر 1963، أعلنت الجبهة القومية الصراع الثوري، في الوقت الذي انتشرت الكلمات الثورية في عدن وفي كل أنحاء المحميات والسلطنات والمشيخات، وكان سيل منظم جدا من الأسلحة يتدفق عبر الحدود من الشمال إلى رجال القبائل في الجبال، واندلعت معارك التحرير حتى انتصرت، وحين اندحر الاحتلال سقطت المشيخات والإمارات التفتيتية أرضا.
وحدة اليمن تنتصر دوماً، ومشاريع التفكيك والتقسيم لم تدم ولن يكتب لها النجاح
وعوداً على بدء، فبعد هزيمة الإدريسي، فتحت بريطانيا بؤراً جديدة في أكثر من مكان، فشيخ الزرانيق أحمد فتيني، المدعوم بريطانيا بالسلاح والمال، مشفوع بطموح أن يتحول إلى سلطان في بلاده، وقبله فعل مثله، شيخ قبيلة حاشد ناصر بن مبخوت الأحمر، الذي أعلن تأييده للإدريسي وذهب على رأس وفد كبير من مشايخ حاشد، إلى صبيا، ثم مراسلته للمندوب البريطاني، في عدن يوضح أسباب التحاقه بالإدريسي. وبالمثل كان يطمح “قائم مقام ريمة” الشيخ محمد أمين، أن يكون سلطاناً على بلاده، حيث كشفت رسالته إلى البريطانيين في عدن، كيف أن السلاح والمال والوعود البريطانية حركت شهية المشايخ ومراكز النفوذ، وتعددت الرغبات في التحول إلى سلطنات ومشيخات وإمارات كما هو سائد في جنوب اليمن وفي عموم الجزيرة العربية، هل كانت تلك الوعود امتدادا لوعود استعمارية أخرى سبقت، مثل: وعد بلفور بوطن، ووعد للشريف حسين بملك على “العرب”؟!
إن المشروع البريطاني، في الجزيرة العربية قديم، وهو في اليمن أقدم، حيث حولت بريطانيا القبائل والعشائر إلى أوطان، كـ”تميم” في قطر، وعنزة في “نجد”، وتسع سلطنات في اليمن (الجنوب) تطورت مع الوقت إلى قرابة 23 مشيخة وسلطنة وإمارة. وفي الشمال كانت البيضاء سلطنة، والجوف كانت على وشك “التسلطن” بزعامة كبير الشولان، وفي صعدة، كان هناك بداية للفكرة، وفي الحجرية، وفي الضالع.
نجح المشروع البريطاني في غالبية جهات البلاد العربية، وفشل بنسبة كبيرة في شمال اليمن طيلة عقد العشرينيات، ثم فشل لاحقا في جنوبه بشكل كامل، عندما ألغت الجبهة القومية “الاتحاد الفدرالي” وألغت الحدود، وطردت المشيخات والسلطنات، حيث هربوا إلى السعودية وسائر الخليج، ثم وحدت “الجبهة القومية” بإرادة وتصميم الشعب، كل الكيانات والمشيخات والسلطنات، بشعار الاتحاد الشعبي: “يمن ديمقراطي حر وموحد” واستعادة الهوية الوطنية اليمنية الواحدة.
ومنذ الاستقلال في 30 نوفمبر 1967، والحركة الوطنية تناضل من أجل تحقيق الوحدة، غير أن قوى وأدوات الاستعمار التي تملك المال والثروة ظلت تحبط كل تلك الجهود، وبقي التشطير قائما، ضمن صيرورة المشروع ونفسه الطويل، ليلتئم اليمن شماله وجنوبه في 22 مايو 1990، واليوم تواجه الهوية الوطنية الواحدة والكيان الوطني الواحد أخطر تحد، إذ تخضع أجزاء واسعة لاحتلال أجنبي مباشر.
مواجهة هذا الاحتلال يتطلب بدرجة أساسية، لغة وطنية جامعة وخطاباً وطنياً أوسع من لغة المناطق والمذاهب والقبائل والجهات، وإذا كانت الوحدة بين اليمنيين هي خلاصة المشروع الوطني المتراكم على مراحل، فإن المشاريع الوطنية المناهضة للاحتلال والاستعمار والأفكار الثقافية والمفاهيم والقيم التحررية النابعة من إرادة الشعب واستقلاله وسيادته، أصبحت اليوم هي إحدى تعريفات الهوية الوطنية الواحدة والجديدة، وتلك إحدى أدوات القوة التي يواجه بها اليمنيون اليوم وتخشاها مشيخات الخليج المتخلفة سياسيا وثقافيا وديمقراطيا.
ومعلوم أن بريطانيا لم تنهزم في الستينيات إلا بعد أن توحدت إرادة اليمنيين وتدافعت موجة الحركات النقابية والاتحادات والأحزاب تحت شعار الوطن وبهوية وطنية واحدة، وصيرورة التاريخ تقتضي أن يتحد كل اليمنيين اليوم لمواجهة هذا المشروع وإلحاق الهزيمة بأدواته ومموليه.
التمزيق عملية مصطنعة تسبب بها الغزاء ممثلة بالعثمانيين والبريطانيين
خلال احتلالهم لعدن، حاول الغزاة البريطانيون استخدام الترغيب والترهيب مع الإمام يحيى حميد الدين للموافقة على سيادتهم على مدينة عدن، ومقابل اعترافه يعترفون بسيادة السلطة الوطنية التي كان يرأسها على لحج وحضرموت، مقابل عدم التعامل مع أية قوة أجنبية أخرى، فأرسلوا بعثة إليه في عام 1919م، برئاسة هارولد جاكوب بنية التفاوض معه، لكنها أخفقت في مهمتها ورفض الإمام يحيى ذلك العرض.
وفي عام 1926 أرسلوا بعثة أخرى برئاسة كلبرت كاليتون، أملا في الوصول معه إلى اتفاق لإقرار السيادة البريطانية على عدن بالـذات، ولم يؤد ذلك إلى نتيجة، إذ شرعت القوات اليمنية الوطنية بقيادة الإمام يحيى باستعادة بعض المناطق الجنوبية بمجرد خروج العثمانيين منها، كما استمرت الاشتباكات والحرب حتى بلغت عام 1925 عندما استعادت القوات اليمنية الشعيب والعوالق والضالع ويافع.
وزاد التوتر بين الجانبين مع عقد الإمام يحيى اتفاقية صداقة مع إيطاليا في عام، 1926م، وبدأت الإجراءات الاقتصادية بين اليمن وإيطاليا في تسهيل التبادل التجاري، وهو ما أثار جزع البريطانيين، وفي العام نفسه استقبلت صنعاء بعثة سوفييتية وتوجت جهودها بعقد معاهدة صداقة وتعاون بين الطرفين في 11/1/ 1928م.
وكان رد فعل البريطانيين عنيفًا فتخلوا عن العمل الدبلوماسي وشرعت طائراتهم بدءًا من عام 1928 بقصف القوات اليمنية، وأعقب ذلك قصف المدن الآمنة في صنعاء وقعطبة وغيرها، مما ألحق خسائر فادحة بالسكان العزل، وبسبب خيانات بعض المرتزقة حينها تراجع جيش الإمام يحيى الذي وصلت طلائعه مدينة عدن إلى مناطق متاخمة.
ومع المحاولات البريطانية رفض الإمام يحيى الاعتراف بخط الحدود الذي رسمته الاتفاقية البريطانية العثمانية، وتعامل مع الاحتلال البريطاني كاحتلال أجنبي، واستمرت المواجهة والحرب الوطنية الرامية لتوحيد اليمن ودحر الاحتلال منه حتى انتصرت ثورة 14 أكتوبر في ثلاثين نوفمبر 1967م.
الوحدة باقية ومشاريع التقسيم الاحتلالي إلى زوال
الحرب العدوانية على اليمن التي تستمر منذ أكثر من ثمانية أعوام، اتخذت من شعارات ومخططات التفريق والتمزيق استراتيجية لها، فأنشأت جيوشا ومليشيات متعددة، واحتلت عددا من المناطق، وأطلق المسميات، وقامت باستثارة الهويات الصغيرة، ليدوم احتلالها لبعض اليمن، وقامت برفع أعلام وشعارات تفتيتية للتمترس وراءها كمظلة للاحتماء بها من اليمنيين أنفسهم، الذين يتواجهون اليوم مع تحالف دولي وإقليمي.
قبل أيام، احتفل أبناء محافظة حضرموت بما أطلقوا عليه «اليوم الوطني لحضرموت»، في وقت تتنامى فيه نزعة الهوية الحضرمية، وكذلك الأمر بالنسبة لمحافظة المهرة، التي يتمترس أبناؤها للتكتل دفاعاً عن محافظتهم التي تحتلها قوات سعودية وبريطانية، وينطبق الأمر ذاته على محافظات شبوة وأبين وأرخبيل سقطرى، فكل محافظة منها مرت بلحظات أزمة خاصة بها، فأثرت تلك الأزمات على الوعي الجمعي أو المزاج الشعبي في كل محافظة على حِدة.
مؤخراً أعلن ما يسمى المجلس الانتقالي إحدى أدوات تحالف العدوان السعودي الأمريكي توحيد ما يسميه الجنوب العربي الذي يرفع أعلامه الانتقالي، تحت حماية الدبابات الأجنبية، بيان أدوات الاحتلال اعتبر بمثابة إعلان رسمي للانفصال وبرعاية مباشرة من السعودية والإمارات معاً، وتنفيذاً لمخطط أمريكي بريطاني لتقسيم اليمن.
تمر اليوم الذكرى الـ33 لتوقيع الوحدة السياسية اليمنية، في ظل مخططات تآمرية تهدف لتقسيم وتجزئة اليمن، من قبل تحالف العدوان الأمريكي السعودي الإماراتي الذي يدخل عدوانه على اليمن عامه التاسع، مستنفراً كل إمكانياته ومرتزقته في القضاء على حلم اليمنيين (الوحدة اليمنية)، وإعادة البلاد إلى عهد التشطير والتجزئة، موغلاً في التقسيم والتفكيك.
الوحدة اليمنية التي تحققت بنضال اليمنيين وإرادتهم وبحقائق التاريخ والجغرافيا، تتعرض اليوم لمخاطر التفتيت الذي تكرسه دول تحالف العدوان، ففيم يتبنى مرتزقة السعودية خيار تقسيم اليمن إلى ستة أقاليم، تتبنى دويلة الإمارات عبر مرتزقتها خيار تقسيم اليمن إلى دولتين، وقد عمل النظام الإماراتي على إنشاء ما يُسمى (المجلس الانتقالي الجنوبي) بنزعة انفصالية بحتة، أما عسكريا فعمدت إلى إنشاء جيوش ومليشيات متوازية، فأوجدت قوات الحزام الأمني بعدن والنخبة الحضرمية في حضرموت والنخبة الشبوانية في شبوة والنخبة المهرية في المهرة والنخبة السقطرية في سقطرى وقوات المقاومة الجنوبية والمقاومة التهامية، وغيرها من المسميات ذات عقيدة انفصالية .
التمزيقُ والتفتيتُ والتفكيك، مشاريع تقسيمية استماتت قوى العدوان على مدى سبع سنوات في فرضها على اليمن، واجهها الشعب اليمني بقيادة أنصار الله مقدمين تضحيات كبيرة، مؤكدين على أن الأرض والإنسان والجغرافيا اليمنية “ترفض الامتهان والتقسيم والتجزئة”، فالشعب اليمني جسد واحد لا يمكن أن يُجزأ أو يقبل القسمة.
لقد وجدت دول تحالف العدوان، بإعلان الحرب على اليمن، فرصة ذهبية لتحقيق مخططاتها التآمرية على وحدة اليمن، بل إنها سعت إلى أبعد من ذلك من خلال السعي إلى تقسيم وتفتيت البلاد .
فعلى مدى سبعة أعوام، عمل التحالف السعودي- الإماراتي على تشكيل قوات عسكرية بمسميات وتفرعات مناطقية وأخرى سياسية، وبحسب تقرير صادر عن لجنة الخبراء التابعة للأمم المتحدة، فقد عملت دول العدوان على تأسيس دويلات داخل الدولة اليمنية .
سياسياً؛ أنشأت أبوظبي ما يُسمى (المجلس الانتقالي الجنوبي) بنزعة انفصالية بحتة، أما عسكرياً؛ فأوجدت قوات الحزام الأمني بعدن والنخبة الحضرمية في حضرموت والنخبة الشبوانية في شبوة والنخبة المهرية في المهرة والنخبة السقطرية في سقطرى وقوات المقاومة الجنوبية والمقاومة التهامية، ودعمت كتائب أبو العباس في تعز وسعت لإنشاء حزام أمني هناك .
المخطط السعودي- الإماراتي في اليمن ذروته؛ حيث تحولت مؤشرات المخطط بإنشاء كيانات مسلحة ذات عقيدة انفصالية، تضمن نجاح مخططات دول العدوان في مشاريع تقسيمية تخدم المصالح الصهيوأمريكية، تتقاسم فيه الإمارات والسعودية الغنائم عبر وكلاء لهما على الأرض، وقامت السعودية والإمارات بعمليات تسليح وتجنيد واسعة في المحافظات الجنوبية، قاتلوا جميعهم ضد قوات الجيش واللجان الشعبية.
انطلق العدوان السعودي الأمريكي على اليمن، فجر الخميس 26 مارس 2015م، وكان الهدف هو تنفيذ مخطط قوى العدوان في فرض مشروع تقسيم اليمن بالقوة بعد أن فشلت محاولاتها المستميتة في تمريره من خلال عملائها من مرتزقة الداخل .
ثورة 21 سبتمبر التي تتصدى للعدوان هي أيضاً حاملة لمشروع الوحدة ومواجهة تقسيم البلاد قبل مارس 2015م؛ من خلال خوضها معركة سياسية لا تقل شراسة عن المعارك العسكرية التي خاضها الجيش واللجان الشعبية طيلة السبع سنوات الماضية من العدوان .
ونجحت حكومة الإنقاذ الوطني بصنعاء إسقاط تلك الرهانات، من خلال معركة جسد فيها الشعب اليمني العزيز أنصع القيم الدينية والوطنية، وتجلت فيها الحقائق التاريخية والحضارية الضاربة جذورها في أعماق التاريخ، إذ قدم اليمنيون التضحيات الجليلة، وسطروا فلسفة صمود فريد تفوق على تحالف العدوان وآلته العسكرية الحديثة وجحافل مرتزقته، وأصبحت هناك قناعة باستحالة فرض مشروع التقسيم على مناطق شمال اليمن التي تُديرها حكومة الإنقاذ بصنعاء بقيادة مُكون «أنصار الله»، الذي يمتلك مشروعاً وطنياً مناهضاً للوصاية والتقسيم، رافضاً أي محاولات ومساع لانفصال اليمن الموحد أو تقسيمه.
وتأكيداً على الموقف بارك المجلس السياسي الأعلى يوم الأربعاء، برئاسة المشير الركن مهدي المشاط، الذكرى الـ33 للوحدة اليمنية، مؤكداً أنّ «الوحدة قرار وإرادة شعب» وسيحافظ عليها الشعب اليمني.
وأشار المجلس إلى أنّ «أطماع المحتلين في النيل من اليمن أرضاً وشعباً ستذهب أدراج الرياح»، لافتاً إلى أنّ «مؤامرات أعداء اليمن ومحاولات تفتيته وتقسيمه باتت مكشوفة، ويرفضها كل أبناء الشعب اليمني».
وأكد في الوقت ذاته أنّ «على المتورطين في الإساءة لليمن وعرقلة مسارات إحلال السلام، احترام قرار وإرادة الشعب اليمني الذي استطاع خلال ثماني سنوات من العدوان أن يسطر أروع الملاحم، وأن يغير كل المعادلات».