الرهان على الوقت لا يزال العائق الأكبر : لماذا فشلت جهود الوساطة في حل أزمة الصراع في السودان؟

 

كان يمكن لجهود الوساطة الإقليمية والدولية أن تفضي إلى نتائج إيجابية بوقف النار في الحرب المندلعة في السودان لو أنها تحركت من اليوم الأول، لكنها تأخرت على أمل أن يحسم أحد الطرفين الصراع لصالحة وتفاجأت اليوم بتعقيدات تبدو أكبر من قدرة الوسطاء على التأثير في مسارها:
الثورة / تحليل / أبو بكر عبدالله

حتى اليوم لم تحقق مباحثات جدة التي جمعت ممثلين من الجيش السوداني وقوات الدعم السريع برعاية أمريكية ـ سعودية، أيّ تقدّمٍ لوقف إطلاق النّار، فكل طرف جاء حاملا شروطا تراهن على الوقت للحسم العسكري لصالحه، فيما تلقي الحرب التي تمضي نحو شهرها الثاني بظلال كثيفة على حياة السودانيين، مع تفاقم المعاناة الإنسانية التي أرغمت نصف مليون سوداني على الفرار إلى الداخل وإلى دول مجاورة وسط أزمة اقتصادية عاصفة.
جاءت الوساطة الأمريكية ـ السعودية محملة بآمال إحراز نجاح في هذه الأزمة استنادا على النجاحات التي حققتها سابقا وأفضت إلى توقيع الاتفاق المبدئي للاتفاق الإطاري قبل أن يتفجر الصراع المسلح بين الجيش والدعم السريع، وقد أفلحت في إقناع الطرفين بإرسال ممثلين لمباحثات تمهيدية تسبق مفاوضات وقف إطلاق النار.
لكن التداعيات على الأرض كانت معاكسة مع استمرار المعارك بين الجانبين في مناطق متفرقة بالعاصمة الخرطوم ومدن أخرى، والتي أفصحت عن رسالة أخرى بأن الجانبين لا يزالان غير مستعدين للتفاوض، وان استجابتهما لجهود الوساطة الإقليمية والدولية لم تكن سوى محاولة لتحسين الصورة خارجيا.
هذه الأمر أفصحت عنه تصريحات مبعوث الجيش السوداني إلى جدة دفع الله الحاج الذي قال إن «الجيش لن يجلس مباشرة مع أي وفد قد ترسله قوات الدعم السريع المتمردة»، كما أفصحت عنه تصريحات لقائد قوات الدعم السريع الفريق محمد حمدان دقلو، الذي فسّر موافقته على إرسال ممثلين إلى جدة، بأنها وسيلة للسماح بوصول المساعدات للمدنيين، متعهدا إما بالقبض على قائد الجيش عبد الفتاح البرهان أو قتله.
كان متوقعا حصول هذا التعارض، كون الوقائع على الأرض فرضت على جهود الوساطة الإقليمية والدولية اعتماد سيناريو لوقف النار يقوم على قاعدة «لا غالب ولا مغلوب» بعد أن أخفق الجيش السوداني في إخماد ما سماه التمرد خلال الأيام الأولى للأزمة، بالتوازي مع فشل قوات الدعم السريع بالانقلاب ولجوئها إلى التحصن في الأحياء المدنية بالعاصمة، حيث لا تزال تُسيطر على مراكز حيوية مهمة.
وعلى أن احتمالات قبول قوات الدعم السريع لسيناريو الحل القائم على قاعدة «لا غالب ولا مغلوب» تبدو ممكنة بالنظر إلى الخسائر التي تكبدتها خلال الأيام الماضية، إلا أنه يصعب التكهن بقبول قيادة الجيش السوداني هذا السيناريو في ظل تقدمها في الميدان، وضغوط القاعدة الشعبية المؤيدة لأهدافها المعلنة في إخماد التمرد واعتقال قادته بما يتيح العودة بالسودان للحياة الطبيعية، وهو ما عبّرت عنه التصريحات الأخيرة لقائد الجيش الفريق عبد الفتاح البرهان الذي أكد استمرار الجيش بمواجهة التمرد لحين تطهير إقليم الخرطوم.

ظروف غير مواتية
رغم تمكن قوات الجيش السوداني من إخماد النيران في العديد من المناطق التي شهدت مواجهات مسلحة بينها وقوات الدعم السريع إلا أن القتال حتى اليوم لا يزال محتدما بين الجانبين في الخرطوم ومدن أخرى، وهي المواجهات التي تسببت في انهيار الكثير من الهدن المعلنة خلال الفترة الماضية، زاد منها المواجهات المشتعلة في منطقة الجنينة حاضرة إقليم دارفور التي يتوقع أن تتحول إلى بؤرة صراع جديدة حتى بعد فرض الجيش سيطرة كاملة على إقليم الخرطوم.
والتقارير التي تتحدث عن تمكن قوات الجيش من تقليص مساحة الصراع مع قوات الدعم السريع وتكبيدها خسائر كبيرة خلال الأسابيع الماضية، بدا أنها حملت الكثير من المبالغات، حيث أن الجانبين لا يزالان يتقاتلان في بعض مناطق العاصمة، ولم يتمكن أي طرف من حسم المعركة لصالحه، في حين لا يزال كلا الجانبين يعلنان أنهما ماضيان نحو تحقيق أهدافهما بالقضاء على ما يسميه الجيش السوداني انقلاب عسكري وما تسميه قوات الدعم السريع انقلاب فلول النظام السابق على المسار الديموقراطي.
هذه المعطيات تشير إلى أن احتمالات التوصل إلى تفاهمات مشتركة في مباحثا جدة لا تزال ضعيفة للغاية، خصوصا وأن المعطيات الدعمة لا تزال غائبة كليا، فالجانبين لا يزالان في بداية الصراع والخسائر لم تصل إلى الحد الذي يمكن أن يرغمهما على تقديم تنازلات تمهد الطريق لإعلان وقف جزئي أو شامل لإطلاق النار.
ومن جانب آخر لم يتوفر العزم بعد عند الطرف الدولي القادر على ممارسة ضغوط على الطرفين أو أحدهما لحملة على تقديم تنازلات من اجل التوصل إلى تفاهمات لوقف القتال والعودة لطاولة المفاوضات، في حين أن الأطراف الدولية التي يُشار إلى أنها مشاركة في الصراع، لا تزال بعيدة عن جهود المفاوضات وهو امر يقلل إلى حد كبير فرص التوصل إلى تفاهمات تحقق الهدف منها في وقف فوري وغير مشروط للنار.
يُرجح هذه الفرضية التقارير التي تتحدث عن حصول الجانبين المتصارعين، على دعم خارجي، حيث تدعم مصر الجيش السوداني، بينما تحصل قوات الدعم السريع على دعم من الإمارات ومن قوات المشير خليفة حفتر في ليبيا وقوات شركة فاغنر الروسية.
ومن جانب آخر، فإن التلويح الأممي والدولي بسلاح العقوبات لن يكون فاعلا في الوقت الراهن، إذ سبق أن خضعت السودان لعقوبات أميركية شديدة استمرت عقودا، ولم تحرز أي تغيير في المعادلات على الأرض قدر ما أفسحت الطريق لتعقيدات أكبر.

مخاوف الحرب الأهلية
لم تكن أزمة الحرب التي اندلعت في السودان بصورة مفاجئة بعيدة عن التدخلات الخارجية، وكثير من الشواهد تؤكد أن أطرافا خارجية شجعت قوات الدعم السريع على تنفيذ انقلاب على سلطة الجيش في مجلس السيادة الانتقالي، بعد أن ضاق عليها الخناق في بند التسوية المتعلق بدمج لدعم السريع بقوات الجيش، والذي كان يعني لهذه القوات ذهاب مصالحها المتراكمة منذ عقود إدراج الرياح.
وفقا لذلك لا يخفي السودانيون مخاوفهم من احتمالات توسع الحرب في الفترة القادمة بأيدي الداعمين الخارجيين، أو بدخول حركات مسلحة في دائرة الصراع خصوصا حركة العدل والمساواة المتمركزة في إقليم دارفور وولاية كردفان بقيادة جبريل إبراهيم، وكذلك الحركة الشعبية لتحرير السودان الناشطة في ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق.
وتبدو استجابة الجيش السوداني لإرسال ممثلين إلى مباحثات جدة التمهيدية، قد انطلقت من مخاوف انخراط أطراف خارجية في معادلة الصراع القائمة، في ظل استمرار الاضطرابات في مناطق الحركات المسلحة واحتمالات انخراطها فيها بدوافع داخلية وخارجية.
يشار في ذلك إلى أن قوات الدعم السريع التي ساندت قوات خليفة حفتر في ليبيا، قد يؤدي إلى دعمها قوات الدعم السريع، كما أن هناك قبائل عربية في دول أفريقية محاددة للسودان أعلنت خلال الفترة الماضية استعدادها دعم قوات حميدتي.
أكثر من ذلك أن قوات الدعم السريع استطاعت خلال الفترة الماضية بما تتملكه من إمبراطورية اقتصادية عملاقة تجنيد الكثير من رجال القبائل العربية في السودان التي يجمعها مع القاعدة العسكرية للدعم السريع تاريخ من التهميش ناهيك بالقبائل العربية القاطنة في دول أفريقية والتي أعلنت استعدادها للقتال في صفوف قوات الدعم السريع.
وفي حال استطاعت القوات المسلحة السودانية السيطرة على المدن الكبرى لن يكون أمام قوات الدعم السريع سوى اللجوء إلى مناطق دارفور على حدود تشاد وأفريقيا الوسطى، حيث حاضنتها الشعبية التي قد تقود السودان إلى حرب أهلية طويلة.

التداعيات الإقليمية
تتسم المفاوضات الدائرة بين ممثلين عن الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في جدة برعاية أميركية سعودية بحساسية شديدة للغاية، إذ أن فشلها سيعني تدويل للأزمة السودانية وفتح الطريق لأطراف دولية للدخول في المعادلة بما قد يؤدي إلى توسعها وطول أمدها.
وكل المؤشرات تؤكد أن الحرب في السودان إن تطورت إلى حرب أهلية، فإنها لن تبقى محصورة في هذا البلد، بل ستمتد بآثارها إلى دول الجوار وخاصة الدول التي تشارك السودان بمناطق حدودية، وهو ما فسر القلق المصري السعودي وكذلك دولة جنوب السودان من الأحداث الدائرة هناك وشروعها بتحركات لمحاصرتها قبل توسعها.
ومن جانب آخر، فإن المسار الذي فرضته الوساطة الأميركية ـ السعودية ليس لديه فرص للنجاح، كون المفاوضات مع كيان عسكري قاد تمردا مسلحا على الجيش الوطني لن يكون أكثر من حلول مؤقتة لن تقدم حلولا نهائية قدر ما ستفتح الطريق للحركات المسلحة لرفع السلاح على الدولة والجيش كلما سنحت لهم الفرصة لذلك، ما يجعل إنهاء التمرد واعتقال قادته هو الأولوية في المرحلة الحالية لقطع الطريق على أي تحركات مشابهة من قبل الحركات المسلحة قد تهدد امن السودان في المستقبل.
هذه المعطيات وضعت الدول المحادة للسودان برا وبحرا أمام مخاطر وشيكة؛ فمصر التي تمتلك حدودا برية مع السودان تشعر أن تأثيرات حرب أهلية في السودان ستكون وخيمة على امنها القومي، خصوصا في حال دخول غريمتها إثيوبيا في المعادلة بمحاولاتها إضعاف الطرف العسكري الموالي لمصر واستخدام ذلك ورقة ضغط على القاهرة في موضوع سد النهضة.
والحال مع السعودية التي تدرك أن الاضطرابات الأمنية والسياسية في السودان ستلقى بتأثيرات خطيرة على أمن البحر الأحمر وخطوط الملاحة التي تشترك فيها السعودية مع السودان، ناهيك عن شعورها بوجود أطراف إقليمية ودولية تسعى للتأثير على أمن هذه المنطقة التي تعدها الرياض جزءا من الرؤية السعودية 2030.
هذا الأمر يجعل من معادلة التدخل الإقليمي المباشر في الأزمة السودانية خيارا للحد من المخاطر والضغط على أطراف الصراع لوقف إطلاق النار والعودة للمفاوضات، كون الدول الإقليمية هي من ستتأثر مباشرة بنيران هذه الحرب وتداعياتها وهي فقط من ستتحمل فاتورة تحولها إلى حرب أهلية طويلة، خاصة، إذ علمنا أن منطقة الشمال الأفريقي تعتبر من المناطق الرخوة وغير المستقرة ما يجعل أي حرب فيها مرشحة للامتداد إلى دول مجاورة، ناهيك بالمخاطر الأمنية التي تفرضها مخططات تنظيم داعش للاستقرار والتمدد في أفريقيا.
وخلافا لذلك، فإن أي تدخل دولي في الأزمة السودانية قد يعقد الأزمة أكثر، فعلى سبيل المثال الولايات المتحدة التي كانت حاضرة في السودان خلال العقود الماضية، ستنظر للحرب الدائرة اليوم من زاوية مصالحها وحربها مع روسيا والصين، ما قد يجعل السودان بؤرة لصراع دولي طويل الأمد.
كما أن حمل قوات الدعم السريع شعار الدفاع عن المسار الانتقالي والاتفاق الإطاري الذي تدعمه واشنطن قد يجعلها تميل إلى قوت الدعم السريع، مقابل إدارة ظهرها لقيادة الجيش السوداني التي تعتبرها واشنطن ضالعة فيما تسميه انقلابا على المسار الانتقالي الديموقراطي.
هذه التعقيدات تجعل القوى السياسية المدنية السودانية اليوم أمام مسؤولية تاريخية في تبني مبادرات وتحريك الشارع الذي طالما حركته للمطالبة بحكومة مدنية من أجل المطالبة بوقف النار الفوري والعودة إلى النقطة التي توقف عندها مسار التسوية.
وتحرك كهذا يمكن أن يحظى بإسناد داخلي وخارجي، في حال أفلحت هذه القوى في إزاحة خلافاتها السياسية جانبا، والمطالبة بشكل جماعي بوقف إطلاق نار شامل، وإدارة مفاوضات تستبعد الجنرالين البرهان وحميدتي بما يعيد السودان إلى الاتفاق الإطاري والتسريع بإجراءات تسليم السلطة لحكومة مدنية تحضر لانتخابات في فترة انتقالية مدتها عامين يتم خلالها إكمال إجراءات دمج الجيش بصورة تنهي أي فرص لتجدد الصراع المسلح.

قد يعجبك ايضا