*محمد القعود*

كان… يُؤلِّب نفسه ضدَّ الفراغ

 

 

1
كان الوقت بلا هُويَّة، والمكان بلا ملامح، والصمت بلا خُطى، والشوارع بلا إحساس، والضوء بلا رغبة، والملل بلا أمل.
2
كانت اللُّغة مُترهِّلةً بالبطالة، والمعاني تُلاعب شيخوختها، والأفكار تتناوب تثاؤب تقاعدها المُبكِّر، والأصوات تُشيِّع نبراتها إلى مقبرة النسيان، والذكريات تسير في خُطى مُنتظمةٍ إلى حتفها، والأماني تُطلق على نفسها طلقات البُؤس والوحشة والتشابه.
3
كانت الأحلام تُعلن توبتها عن مُمارسة المجهول، والأبواب تُطلِّق عُبوديتها وتركض إلى غابات طُفولتها، والأرصفة تُعيد تجربتها الفاشلة في تأليف نشيدٍ مُفخَّخٍ بالوطنية والرُّومانسية والجوائز المغرية، علَّ مُشاةً يعزفون لحن النهاية.
4
كانت البيوت تذرف وحشتها، والنوافذ تُقطِّر حنينها إلى آفاقٍ تحتفظ بنكهة المودَّة وتفتح أحضانها لثمارٍ في عُهدة الغياب.
كانت الدُّروب تتباهى بعبقٍ قديمٍ لعاشقٍ فجَّر بوحه ذات ليلةٍ تحت نافذة حبيبته المخفورة بموانع كثيرة.
5
كانت نبضات «مُحمَّد القُعود» ترشق المدينة بالورد والقصائد والأحلام البسيطة، كانت خُطاه تُعلن عن فجرٍ خالٍ من إضافات الغُربة والاغتراب والودّ الإسمنتي.
6
كانت المدارس تُغلق أبوابها وتشنق مُقرَّراتها الدراسية المُلبَّدة بغيومٍ سوداء من البلادة، والبلاد تُعلن حالة الطوارئ القُصوى لوقوع زلزالٍ كبيرٍ من القسوة أصاب قُلوب الناس بشُروخٍ عميقة.
7
كانت الظلال تتشرَّه كسلها، وكوى الجُدران تتناسل لتغيظ جُنون العتمة القابعة أسفل الجُدران والأشجار.
8
كانت الطُّرقات الضيِّقة المسافرة كطعنة سيفٍ بين أجساد البيوت، تقضي قيلولةً هادئةً وخاليةً من إيقاع الحياة.
كان الماضي المنقوع بماء الذاكرة ومطر القُلوب العتيقة، يتشمَّس تحت سماء الحنين، والوجوه الناضحة بالتشابه تمقت السكنى في عقم التفاصيل.
9
كانت الأمجاد تقذف ببُطولات فُرسانها إلى مخازن المهملات، وتدكُّ أقواس النصر وأنصبة الخُلود، وتمضي مُجلببةً بالضحايا وبالأوسمة إلى نفيٍ يُبدِّده الحياد.
10
كانت الروائح العابقة تُدلي بماضيها وبما اقترفته من لحظاتٍ بهيجة، والصدى يُواصل بوحه الجريح، علَّه يصل إلى أقرب نُقطةٍ في المدى ليُلقي عن كاهله رسالةً مُثقلةً بالشجن.
11
كانت اللَّحظات المُتّشحة بذُهولها تترنَّح فوق مقاعد الكلمات وفوق طاولات الأسئلة وعلى طُرقات المعاني الباحثة عن كينونةٍ شاردة.
12
كانت أجنحة الوقت تستفزّ الفضاء، علَّ هبَّة هواءٍ يعقد معها صفقةً مُناسبةً للانطلاق نحو جهةٍ نقيَّة الانتماء.
13
كانت الأنفاس ترتاب في الرياح القادمة، وتُنقِّي ما تقطفه من أُوكسجينٍ خالٍ من الأنانية.
14
كانت العُصور تنسلُّ من متاحف الحياة، لتتبرَّج في شارع الحُرِّيَّة وتحت ميزان العدالة، لا لتحصد إعجاب المُؤرِّخين، وإنَّما لتُؤكِّد أنَّها سعيدةٌ بكُلِّ عُيوبها ومفاتنها، ولم تَعُدْ بحاجةٍ إلى أشياع وأتباعٍ وأنصارٍ وعُشَّاقٍ يُمجِّدون آثامها ومحاسنها.
15
كانت الحياة تسير بكامل أناقتها، ودُون حراسةٍ أو وصايةٍ من أيديولوجيا أو مذهبٍ مُنافٍ لطباعها أو وصايةٍ من الأمم المُتّحدة أو معتوهٍ مخبولٍ أو حزبٍ غبيٍّ وتافه.
16
كانت الحياة هي الحياة، لا شبيه لها، ولا نُسخة مُطوَّرة لملامحها، ولا سلطة تحدُّ من دهشة ربيعها.
كانت الأفكار تتنصَّل من إيقاع التوأمة، والعصافير ترمي بمُوسيقى شقشقاتها إلى أحضان الصباح الكسول، والسماء ترشق الأرض بعُذرية غُيومها.
17
كانت المعجزات تلمع في ذاكرة الأرض الواسعة، وكان المدعو «مُحمَّد القُعود» يحبو على أرض اللُّغة، ويتسلَّق أسوار الحياة، ويتّخذ من الضوء لُعبةً له، ويدّخر من طُفولته ذخيرةً لمؤامرات مَنْ سيُصبحون أصدقاءه في المستقبل، والذين سيجد فيهم كُلّ تُراث الرداءة الإنسانية.
كانت الأرض تضيق باتِّساع فكرةٍ شاردةٍ من أصابع شاعر يُتقن النقاء، والقواميس تُلقي معانيها وتُهرول مُستغيثةً بالصمت.
18
كانت «كان» وأخواتها يندلقن فوق خارطة التشيُّؤ، ويتّخذن من الأسماء خُدوراً لمجونهنَّ، وأنامل يخمشن وجه اللاَّأشياء، ويُمارسن سُلطة الإغواء والمحو.
19
كان الوقت بلا هُويَّة، والمكان بلا ملامح، والصمت بلا خُطى، والشوارع بلا إحساس، والضوء بلا رغبة، والملل بلا أمل.
20
أُناسٌ يعبرون من دُون أعماقهم، إلى حيثُ لا يعرفون، وأشجارٌ واقفةٌ تذرف لوعتها بين يديّ الريح، وبيوتٌ مُضرَّجةٌ بالحنين، تنتظر ساكنيها المبثوثين في أصقاع الغُربة، وفتىً في ربيع الأبجدية يُؤلِّب نفسه ضدَّ الفراغ!!

قد يعجبك ايضا