إبراهيم محمد الهمداني
عُرِفَ عن العرب قديما، تمسكهم ببعض مكارم الأخلاق، والعادات الحميدة، التي توارثوها وحافظوا عليها، وفي مقدمتها إكرام الضيف، والمواظبة على إطعام الطعام، بوصفه من أشرف الأعمال، وأحسن الصفات والخصال، التي ينال صاحبها شرف الذكر، ورفيع المكانة والسؤدد، والمهابة والإجلال عند القاصي والداني، ولم تكن العرب تقرُّ بالجود، إلا في قِرَى الضيف وإطعام الطعام، ومن لم تكن فيه هاتان الخصلتان، فليس سخيا، ولا يستحق السؤدد في قومه، أو السيادة عليهم، بل إن الجود والإطعام كان شرطا للسيادة عندهم، ذلك لأن النفس الكريمة، المجبولة على الجود بالموجود، والكرم وإغاثة المحتاجين، أحق وأجدر بالسيادة وعظيم المنزلة، وهي إلى بذل ما هو أكثر من ذلك أسرع، وعلى القيام للناس، بما يحفظهم ويصون حقوقهم وكرامتهم أقدر، بخلاف النفس البخيلة، التي يصل بها الشح إلى الانغماس في اللؤم، والتخلق بخبيث الطباع، وسوء الفعال، وهذه النفس إذا سادت القوم، أوردتهم موارد الخزي والعار، والفتن والتشرذم والدمار.
وكما هو شأن أي مجتمع إنساني، حين ينحرف عن هدى الله، ويضل طريقه في متاهات الأهواء، وسراديب زخارف الشيطان، كان انحراف المجتمع العربي، في الجاهلية، عقائديا وسلوكيا، الأمر الذي أدى إلى تشويه المنظومة المعرفية والفكرية، وبالتالي اختلال وتضارب منظومة القيم والأخلاق والأعراف، التي طغت عليها الأهداف والغايات المادية، والمنافع والرغبات الشخصية، وهو ما جعلهم – معظمهم – يكرمون الضيف – مثلا – لكي يقال إنهم كرام، وينتشر خبر كرمهم بين القبائل، بما يحقق لهم علو الصيت، وعظيم الفخر، وذلك جعلهم ينتقون الأضياف، ويخصون بجودهم – المُبَالغ فيه – أناسا بعينهم، وحين كانوا يتفاخرون بإطعام الطعام، على موائدهم المنصوبة، التي أفنوا فيها الطارف والتليد من أموالهم، فهم إنما قاموا بذلك من أجل الفخر والرياء، فخرجت أعمالهم عن مقام الإحسان، وسقطت في دائرة السفه والطيش والتبذير.
إن استبعاد الفقراء والمساكين والمحتاجين، عن موائد كبار مشركي مكة، قد جعلهم يستنكرون حث المؤمنين – المتكرر – لهم بضرورة الإنفاق، وإطعام أولئك المعدمين، كما حكى ذلك عنهم القرآن الكريم، في قوله تعالى:- «وَإِذَا قِيلَ لَهُمۡ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ قَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَنُطۡعِمُ مَن لَّوۡ يَشَآءُ ٱللَّهُ أَطۡعَمَهُۥٓ إِنۡ أَنتُمۡ إِلَّا فِي ضَلَٰلٖ مُّبِين»، يقول السيد المولى بدرالدين الحوثي رضوان الله عليه:- «ولعلهم كانوا يؤمرون بالإنفاق من أجل حاجة الضعفاء والمساكين إلى الطعام. قال الشرفي في (المصابيح): عن محمد بن القاسم (عليهما السلام): «فأجابوا فيما دعاهم الله إليه من إطعام الفقير والإنفاق، جواب اللئام البخلاء الجاهلين مثلهم، واحتجوا على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن دعاهم إلى ذلك من المؤمنين بما لا حجة لهم فيه، فقالوا: ﴿أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ﴾ وجهلوا أنما دعاهم الله إلى إطعام الفقراء محنة لهم بذلك واختبار وبلوى، ليجزيهم الله في إطعامهم والإنفاق في ذلك مما رزقهم الجزاء الأوفر، الذي هو أطيب وأعظم مما أنفقوا وأزكى وأكبر، وقد علم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنون – إذ هم لهم إلى الإنفاق داعون – أن الله أقدر القادرين على إطعام الفقراء المعسرين، فذكر الله ما كان من ترك الإنفاق، من جواب الكافرين، ليكون المؤمنون لمثل معصيتهم فيما أقروا به حذرين».
إن إلزام الذين كفروا بالإنفاق والإطعام على هذا النحو المؤكد، يدل على عظمة هذه الفضيلة، وأهميتها في بناء المجتمع الإنساني، ويؤكد على ما فرضه الله تعالى للفقراء والمساكين والمحرومين، في أموال الأغنياء الموسرين، في قوله تعالى:- «والذين في أموالهم حق معلوم .. للسائل والمحروم»، وهو حق مؤكد يجب أداؤه في كل حال، ولذلك كان الإطعام أحد وجوه ذلك الحق المعلوم، وهو أول عنوان في مساعدة المحتاجين، ومواساة المحرومين والمعدمين، والتفريج عن المكروبين، والإحساس بمعاناة الضعفاء والمساكين، والتفكير في سبل مساعدتهم، والقيام بما أوجبه الله لهم، من منطلق إيماني ديني، بروحية خيِّرة معطاءة، تسعى لنيل رضوان الله فقط، بعيدا عن الفخر أو التباهي أمام الناس، ويعد الإطعام من أهم وجوه الخير والإحسان، يقول السيد القائد يحفظه الله:- «والقرآن ركَّز على مسألة المساعدة للناس في الإطعام، إلى درجة عجيبة، إلى درجة اللوم للكافرين، عندما كانوا ينتقدون: {أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ}[يس: من الآية47]، يبررون بذلك ما هم عليه من الجفاء، وقلة الخير، وعدم الرحمة بالمساكين والضعفاء، عند الظروف الصعبة»، وإذا كان الله تعالى قد أوجب الإنفاق على الفقراء، وإطعام المساكين مطلقا، في كل الأوقات، فإنهم في حال حدوث الكوارث والحروب، أحوج ما يكونون إلى المساعدة والنجدة والإغاثة، وحقهم المعلوم أحق وأحرى أن يؤدى، وهنا يقدم السيد القائد يحفظه الله، تشخيصا وافيا لحالة المجتمع اليمني، وما يعيشه من ظروف استثنائية، توجب التراحم والمواساة والتعاون، والمسارعة في الإنفاق والإطعام، والمشاركة في كل أعمال البر والخير والإحسان، من قبل كل أبناء المجتمع، والجميع معنيون بذلك، كلٌّ بقدر استطاعته وجهده، قائلا:- «ظروفنا التي نحن فيها في شعبنا، ظروف حصار، ظروف فقر، فئة كبيرة من أبناء المجتمع يعانون أشد المعاناة، ليس عندهم قدرة شرائية، ارتفاع للأسعار مع الحصار من جهة، ومع التغيرات والتطورات والأحداث الدولية في قصة الحرب في أوكرانيا وفي أوروبا، والحرب الباردة بين أمريكا وروسيا، وما نتج عن ذلك من تطورات وتأثيرات سلبية في ارتفاع الأسعار من جهة أخرى، فنرى هناك مساحة كبيرة تنتشر فيها حالة البؤس، المعاناة، الفقر المدقع، إلى درجة الجوع، فترى الكثير من الأسر التي تحتاج إلى المساعدة في الطعام، في توفير أكلهم، وهذه مسألة مهمة جدًّا، القرآن الكريم يحث عليها حثاً كبيراً في آيات كثيرة، إطعام المسكين، إطعام الفقراء، توفير الطعام لهم، وفي نفس الوقت الذم الكبير لمن يتجاهل كل ذلك، ممن قد تكون حالته ميسورة»، وإذا كان إطعام الطعام، واجب ديني في كل وقت، وعلى كل حال، فهو في شهر رمضان، شهر الخير والمواساة والإحسان، أوجب وأكد وأعظم أجرا، وهو ما يؤكد عليه سماحة السيد القائد عبدالملك بدرالدين الحوثي يحفظه الله، بقوله:- «ولذلك من أهم ما يجب الحرص عليه في شهر رمضان، ومن الأولويات المهمة، التي ينبغي أن تكون لدى كل إنسانٍ مؤمن: المساعدة للآخرين، وفي المقدِّمة في الطعام، المساعدة في الطعام، مساعدتهم في توفير طعامهم، العناية بالمحتاجين في ذلك، وأجر ذلك كبيرٌ جدًّا عند الله، الله «سبحانه وتعالى» عندما قال في القرآن الكريم: {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ}[البلد: 11-16]، لنقتحم في شهر رمضان هذه العقبات، لننال هذا الشرف الكبير، لنرتقي المرتقى الإيماني والإنساني والأخلاقي بعطائنا، وإحساننا، واهتمامنا بفقرائنا ومساكيننا، عندما تنتشر هذه الروح الإيجابية في أوساط المجتمع، عندما يكون كلٌّ منا حريصاً على أن يساهم، على أن يقدِّم، على أن يعين، على أن يغيث، على أن يساعد ذلك المحتاج، ذلك المسكين، ذلك الفقير، كم سيكون لهذا من أثر كبير على المستوى الإنساني، والتكافلي، والاجتماعي، والأخلاقي، وكم سيكون لذلك من آثار كبيرة في تكاتف المجتمع، في تعاونه، في أخوته، في انتشار المحبة بين أبنائه، في بلسمة الجروح، في دفع الكثير من الهموم، والمشاكل، والأخطار، والمشاكل الأمنية… وغيرها، آثار ذلك إيجابية في عاجل الدنيا؛ أمَّا في الآخرة فشيءٌ عظيم».
إن ما تقوم به مؤسسة بنيان التنموية، بالشراكة مع الهيئة العامة للزكاة، من خلال برنامج «إطعام»، ومشاريعه الخيرية العظيمة، هو باب خير عظيم وكثير المنافع، سواء للمستفيدين من الفقراء والمحتاجين، وتعزيز التكافل الاجتماعي، والصمود في وجه العدوان، أو للشركاء المساهمين بكافة فئات المجتمع وأطيافه، في إطار الواجب الديني والقيمي والأخلاقي والإنساني، والإسهام المجتمعي في الإنفاق والإطعام، فيه تزكية النفوس، وتطهيرها من رذيلة البخل والشح، ونشر قيم المحبة والإخاء والمسئولية، بين أبناء المجتمع، فكل إنفاق وإن قل، كثيرٌ في مقام الإحسان، وكل عطاء يطعم جائعا، أجره عند الله عظيم.