شكا إليَّ حفيدي الذي يدرس في الفصل الثامن من التعليم الأساسي كثافة المقررات المطلوب حفظها في المنهج لاحظوا (المطلوب حفظها) وليس فهمها، ما يعني أن المطلوب تربية عجول وليس تنمية عقول وهذه السياسة متوارثة بيد من يتحكم بالقرار السياسي الخالي من رؤية وطنية توازن بين ما في الماضي والحاضر من إيجابيات لبناء مستقبل أفضل لأجيالنا التي نطمح في إخراجها من عقد الماضي ومآسيه ونساعدها على فهم الحاضر بما يحتويه من تقدم وكثافة في الخيارات والنظريات ومخرجاتها، هذه الشكوى المعتقة ليست شكوى ضد مجهول ولكنها ضد الجهل الذي صار ناشباً مخالبه وأنيابه في عقول الصغار والكبار من ذكر وأنثى منذ زمن يفترس الحاضر والمستقبل مستخدماً خيبات من سلف ومتخذاً منهجاً يسمونه قويماً وهو أقرب إلى القيامة من حبل الوريد.
هذه السياسة أسوأ ميراث تدميري للجميع لو كنا نفقه أو نعقل لمعاداتها للعلم، وما وقفت أمة ضد العلم الحقيقي باسم الدين الذي شوهه بعض الفقهاء المغالين بمختلف مذاهبهم وتوجهاتهم إلا ذلَّت، ومن المؤكد أن هذه المواقف المتطرفة سيأتي من يجتثها باسم العلمانية المتطرفة.
شكوى حفيدي ذكرتني بشكوى أحد أبنائي قبل أكثر من ثلاثين عاما من المنهج (مادة اللغة الإنجليزية) ولنفس الفصل، وهي ملخص سورة الكهف باللغة الإنجليزية، وأذكر أني نقلت حينها شعور الطلاب لبعض مسؤولي وزارة التربية والتعليم مع تصوري حول مشكلات المنهج الدراسي السبب الرئيس لحالة النفور شبه الأزلي بين الطالب وكل من المدرس والمدرسة، وقلت لهم حينها بأن سورة الكهف يصعب فهمها باللغة العربية على من هم في سن المقرر عليهم فما بالنا من الإنجليزية؟! ولكن يا فصيح لمن تصيح فغالبية من يعدون مناهج التعليم ليسوا على مستوى المهمة ولا من المختصين الأكفاء، أو أنهم ينفذون سياسة هدفها تربسة العقول وتجميدها لا فتح الآفاق وتنمية القدرات والمهارات، ووزارة التربية والتعليم ما تزال كما أسماها الصديق المرحوم الأستاذ الشاعر والفنان المبدع عبد اللطيف الربيع في إحدى خواطره (قفشاته) بزاويته الساخرة على صحيفة المستقبل بعنوان: (شر البلية) والتي كان يكتبها باسمه المستعار ذي الدلالة العميقة (فرحان آل مغموم) أسماها: (وزارة التربسة والتعليب).
ويبدو أن مسافة بعد الوزارة والمعنيين وطنياً عن الاهتمام بإنجاز رؤية وطنية للسياسة التربوية وفي المقدمة المنهج الدراسي النظري والتطبيقي والعمل الجاد في سبيل تنفيذها قد اتسعت.
إن وزارة التربية والتعليم ووزارة التعليم العالي وكل المؤسسات التربوية والتعليمية في مقدمة المؤسسات الأكثر صلة بصنع الحياة وتطويرها وبناء المستقبل وفق أحدث النظريات التربوية والتعليمية، ولا بد أن ندرك أن ما يجري في مدارسنا بات خطراً محققاً على وعي أطفالنا، والإنسان كما تقول الشعارات التي نرددها باستمرار في المناسبات والمهرجانات والوثائق النظرية الرسمية والمجتمعية هو وسيلة التنمية وغايتها، هذه الشعارات مع الأسف الشديد لم تجد طريقها للتطبيق لا بل ونمارس ما يناقضها.
ولكي يبقى طريق العلم الحقيقي إلى وعي الإنسان سالكا لا بد من الحرص على أفضل الطرق لتحقيق السلام، وسلام الوطن مبتدأه السلام مع النفس وأساسه الإحساس بأهمية الحرية والعدالة والقدرة على الاختيار والفعل المبدع الخلاق الرافض للتقليد كما يقول ابن الهيثم، ورفض التقليد لا يجب أن ينظر إليه على أنه معاداة الدين أو القيم كمبرر لتحريض السلطة ضد حرية الإنسان بما لها من أولوية في الحياة سواء كانت سلطة سياسية أو دينية وهما في حالة اختلاط وهذا من أهم أسباب التخلف، التقليد الأعمى طريق الجمود بل الفناء، ومناهج التربية والتعليم بكل تفاصيلها الأساسية والثانوية والتعليم العالي تحتاج إلى مراجعة جادة ودائمة لعلاقتها بالحياة كوسيلة للوصول إلى سلام حقيقي يصنعه الأحرار الأقوياء بعقولهم لا بعضلاتهم، وما لم يكن لدى معدي المناهج القدرة على التفريق بين العلم التجريبي والإنساني وبين المعرفة الدينية التي يتداخل فيها علم الغيب بعلم الشهادة والعقيدة بالشريعة فسنظل نراوح في مكاننا إن لم نتقهقر، لعدم حرصنا على سلامة عقول أطفالنا وشبابنا، والعلم والجهل في هذا العصر أصبحا ملك يمين كل إنسان قادر على التعامل مع وسائل التكنولوجياً المعلوماتية التي تمضي إلى الأمام كالصاروخ يستقي منها ما ينفعه فإن لم يفعل هاجمه ما يضر الجميع، وبالطبع المسؤولية بالدرجة الأولى على من بيده السلطة، ولم يعد بين العلم وبين الإنسان الحي حجاب، وليس في مقدور أي مستبد أن يصنع مجتمعا من العبيد، والأفضل أن يفهم أهمية بناء مجتمع الأحرار لكي تبقى وحدة الوطن مبنية على العلم وعلى الحب أيضاً.
راياتهُ البيضُ خفاقة في القلوب
فتعلم من الصمت كل الحروف ولا تبتئس
الطريق إلى الله والناس
بابه العلم لو تعلمون.
Next Post