يواصل الشهيد القائد تعداد مصادر التربية ويذكر منها الأعلام وعظماء الإسلام، وتتسع مساحة هذه المصادر لتشمل كتاب الكون كله، فكل صفحاته تعتبر كتابا حين نتحرك على أساس من هدى الله، ثم بعد الحديث عن المصادر كان لا بد من استقراء رؤية وتقييم الشهيد القائد لواقع التربية والتعليم في اليمن في تلك الفترة، وهذا ما سيجده القارئ في هذه الحلقة..
رابعا: الأعلام من عظماء الإسلام
الحديث عن الأعلام كمصادر للتربية الإيمانية في هذه الأمة خصوصا، بعد الحديث عن أهل البيت عموما للتأكيد على هذه القضية في الفكر التربوي للشهيد القائد؛ وإلا فهناك تداخل بين الأمرين.
لقد انتقد الشهيدُ القائد تغييبَ القدوات النموذجية والذين يسمِّيهم الأعلامُ من مناهج المدارس، ومن الإعلام، ومصادر الثقافة، في العالم الإسلامي عموما وفي اليمن خصوصا، ورأى أن هذا كان متعمَّدا لكي لا ينشدَّ الناسُ إلى العظماء، فيحرِّكوهم بطريقة فاعلة وصحيحة.
بل بالعكس فبدلا من التركيز عليهم «رأينا كيف أنه في مناهجنا الدراسية وعلى شاشات التلفزيون وفي غيره من وسائل الإعلام نرى أعلاما أخرى تقدَّمُ للأمة ويتحدَّثون عنها كثيرا في المساجد، في المعاهد، في المراكز، في الجامعات، وفي كل مكان، هذه الأعلام عند من يفهم واقع الأمة الآن أن أمريكا، أن اليهود والنصارى يتحكَّمون تقريبا في كل شيء، في الجوانب الإعلامية، الثقافية، التربوية، الاقتصادية، السياسية، في الدول كلها يتحكمون فيها، ويتدخلون في كل صغيرة وكبيرة.
هم يعرفون أن تلك الأعلام لا تصنع شيئا؛ لأنه لو جسِّم في نفسك على أكبرِ ما يمكن – لما كان باستطاعته أن يحرِّكَك، ليس فيه ما يحرِّكُك، إنما هي نمورٌ من ورق كما يقال» (معرفة الله وعده ووعيده – الدرس الثالث عشر).
ويستدِلُّ على أهمية الربط بالأعلام حتى ولو كان ربطا شكليا بأن الإمام الحسين سلام الله عليه ظلَّ حالة جامدة في نفوس الطائفة الاثني عشرية لقرونٍ من الزمن، لكنه لما جاء الإمام الخميني رحمه الله استطاع تفعيلَه في نفوسهم وتحويله إلى حالة ثورية واقعية.
ويأخذُ العلَم حيِّزا كبيرا في حركة الشهيد القائد، وحين وضَع ملامح مشروعه الإحيائي جعل للعلَم حضورا متميِّزا، وقويًّا، وفاعلا، وفلسفة العلَم في فكر الشهيد القائد تحتاج إلى بحث خاص، ولا يتسع هذا البحث للاستفاضة فيها أكثر من هذا.
خامسا: العقيدة السوية
يرى أن من مصادر التربية العقيدة السوية، التي تُنْتِج أعمالا تنسجم معها، أما تلك العقيدة الباطلة فلن تجلِبَ إلا التراجُعَ والانحسار، وإلى هذا يُرجِع هزيمة طالبان أمام أمريكا، وكذلك يعيد خوفَ الوهابيين في اليمن ممثَّلا في جامعة الإيمان من تهديدِ الأمريكيين إلى سببية اعتقادهم بعقيدة فكرية تناقِض مفاهيم القرآن، وهي عقيدة (شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي) التي لا تربِّي صاحِبَها على الاستقامة والثبات، بل تشجِّعه على الهروب والفرار.
يقول في ملزمة (في ظلال دعاء مكارم الأخلاق – الجزء الثاني): «نقول لأولئك الدعاة الذين يملؤون محاريب المساجد بأجسامهم الدسمة والضخمة: نحن الآن في مواجهة مع اليهود والنصارى, في مواجهة مع أمريكا وإسرائيل، وأنتم الآن وكما نراكم, وكما ترون أنفسَكم في قائمة المطارَدِين من جانب أمريكا وإسرائيل: راجعوا أنفسكم, وانظروا من جديد إلى ما كنتم تقدِّمونه للناس من عقائد، راجعوا عقائدكم، صحِّحوها، وإلا فإنكم إنما تبنون أمة منهزِمة، وإلا فإنكم إنما تُصَدِّرون الشواهدَ, الشاهد تلو الشاهد على أن الإسلام يقبل الهزيمة، وأنه لا يستطيع أن يصمُدَ في مواجهة الكافرين».
ومع ذلك فإننا رأينا اليوم في هذا العدوان على بلدنا أصحاب تلك الأجسام الدسمة والضخمة يسيرون في ركاب الأمريكيين والصهاينة وعملائهم آل سعود لتدمير اليمن، وقتل رجاله ونسائه وأطفاله، وتدمير مقدراته، ولا يبعد أن تكون تلك العقائد الفاسدة بالإضافة إلى التأثير الأمريكي في صناعتهم والتمكين لهم سببا في توجيههم في هذا الاتجاه المدمِّر.
سادسًا: كتاب الكون
وما أجمل ما قاله في الملزمة السابقة حين قال: «متى ما كانت رؤى الناس صحيحة سينفتح عليهم العلم واسعا، بل يصبح الكون كله كتابا واحدا، كل شيء أمامك كتاب، كل شيء يعطي علما، كل شيء يعطي معرفة».
وهو هنا يبيِّن أن من مصادر التربية للناس هذا الكون كله بما فيه من تجارب وأعمال وخبرات واعتباراتٍ ونظائر.
وسائل التربية وطرقها
في ما اطلعت عليه لم يتحدّث الشهيد القائد عن الوسائل والطرق التربوية بشكل مفصَّل، ربما لوضوح الأمر فيها، ولأنه لم يكن متخصِّصا في علوم التربية على النحو المتعارف عليه، لكنه أكّد على أهمية الالتزام بالمنهجية القرآنية في التربية، وكذلك بالوسائل والأساليب التي يذكرها القرآن الكريم، أو يستخدمها في معالجة قضية من القضايا.
بيْدَ أنه من المعروف أن الشهيد القائد ركّز على أهمية الاستفادة من القرآن الكريم والاهتداء به في أمرين أساسيين، وهما: أولا المضامين والتوجيهات الإلهية الكريمة، وثانيا المنهجية والوسائل والأساليب التي يطرقها القرآن، فهي هداية بحد ذاتها.
كما ورد في سياق كلامه ذكرُ وزارة التربية، ووزارة الثقافة، ووزارة الأوقاف، ووزارة الإعلام، والمناهج الدراسية، والمعاهد، والمساجد، والمدارس، والمراكز، والجامعات، والإذاعة، والتلفزيون، ووسائل الإعلام المختلفة، والتربية المنزلية، وهي وسائل تربوية بشكل عام.
وإذ أشار إلى التربية المنزلية ومسؤولية رب الأسرة في أسرته، أو المرشد في القبيلة باتباع الطرق الموصلة إلى الهداية مباشرة، حيث قال: «يوجد أشياء معينة توجيهية تحرص على أن يقرأوا القرآن، تتابع عملية تربيتهم»، فإنه أيضا أشار إليها في سياق العملية التربوية الأكبر، وهي أن هذه العملية مما يجب على ولاة الأمر وأعلام الأمة، وأنها «قضية منوطة بالقائمين على حياة الناس» (سورة البقرة – الدرس التاسع من دروس رمضان).
واقع التربية في اليمن
في ملزمة الثقافة القرآنية انتقد الشهيد القائد «تغييبَ القرآنِ في المناهج المدرسية وانتقاصَ مقرراته»، ولما عرَضَ أنهم كلَّ مرة ينتقصون من مقرراته توقَّع أنه سيأتي اليوم الذي يجعلُهم يُلْغُونه تماما، وبحسب طلب اليهود الماكرين.
وعلى خلاف ما روّج له الأمريكيون بعد حادثة البرج من أن المناهج المدرسية تنتج التكفيريين – رأى أن «المدارس الحكومية في مختلف بلدان الدنيا هذه لا تنتج متشددين، بل لا تنتج حتى ملتزمين بالإسلام! فلماذا بادروا إليها ليحتووها، ويغيروا المناهج التعليمية ويصيغوها على ما يريدون؟ مع أنه منهج لا يخرِّج ملتزمين بالدين؟!»، بل ذكر أن «المدارس الحكومية لا تخرِّج حتى ولا مصلين» (آيات من سورة الكهف).
وعرض مظهرا هاما من مظاهر فشل التربية الخاطئة، التربية التي لا تستند إلى مبادئ الدين، قال: «لاحظِ الناسَ وهم في الأسواق، لاحظِ الناسَ وهم في حركتهم، هل تلمس احتراماً متبادَلا بينهم؟ هل تلمس بأن هذا الشخص فعلاً يمكن أن يصل إلى درجة أن يضحِّيَ بنفسه، ومالِه من أجل ذلك؟ أبداً».
يواصل بالقول: «فسدت العلاقات فيما بين الناس، فأصبحوا في حالة لم يعُد أحدٌ يهتم بالآخرين، ولا يعطف على الآخر ولا يبالي بالآخر، وبالتالي فإنه غير متوقَّع أن يأتيَ أحدٌ من الناس ليضحي من أجل الآخرين، وهو يحمل هذا العنوان فقط: وطن. بمعنى أنه يضحي من أجلك، أو من أجل التربة»، ويقول: «أليس البعض يحلف يمينا فاجرة من أجل التربة حتى لا يترك صاحبه الآخر يأخذها، هل هذا سيضحي بدمه من أجل تربة الآخر؟» (سورة البقرة – الدرس التاسع من دروس رمضان).
وعرض في هذه الملزمة نفسها صورةً يوميةً للمعلِّم الذي لا يرتبِط بروحية القرآن في التربية، وهي صورة نمَطية للمدرسة الخاوية عن روحية القرآن الكريم، وصورة نمطية للمدرِّس الأجوف الذي نشاهده يوميا، فيقول: «هذه المدارس ما داخلُها ؟ المعلِّمون أنفسُهم ما هي ثقافتهم؟ هل هم يحملون روحا إسلامية, روحا عربية، كما يحمل المعلم اليهودي داخل المدرسة روحا يهودية, روحا قومية يهودية؟»..
يجيب: «لا . بل معلم أجوف لا يهمه شيء، يهمه أن ينظُر إلى الساعة متى ستنتهي الساعات التي هو مُلْزَم بالعمل فيها, و(يُمَشِّي) حال الطلاب بأي شيء. ليس هناك تربية لا داخل مدارسنا, ولا داخل مساجدنا, ولا داخل جامعاتنا، ولا داخل مراكزنا». وكان يقارن هذا بتحرك الأمريكيين في تغيير المناهج بذريعة مكافحة الإرهاب.
واعتبر أخطرَ أمرٍ عمِلَتْه السلطةُ اليمنيةُ حينذاك أن سمحوا للأمريكيين بأن يتَّجِهوا للتحكم على مدارسِنا، ومساجدِنا، ويعلِّل تجرُّؤ الأمريكان على ذلك، بأنهم: كانوا يتحدثون عن الإرهاب في بعض الجامعات، وحين سكت الناس إذا بهم يتحدَّثون عن وجوبِ تغييرِ المناهِج وتنقيتها من مصادر الإرهاب على حد زعمهم (آيات من سورة الكهف)، وسيأتي تفصيل أكثر حول هذا الموضوع.
وشرَح كيف سيطر الوهابيون في اليمن على التربية والمساجد بتمويل سعودي، حيث كانت ميزانية المعاهد من السعودية، والذين هم في خدمة الأمريكان، والأمريكيون يخطِّطون لإحلالِ الوهابية ونشرِها، لإيجادِ خلخلةٍ في الشعوب، لينشروا عقائدَ ليست جيدة، حتى إذا كثروا، قالوا: هؤلاء إرهابيون وعندئذ يسهُلُ ضرْبُهم وضرْبُ الإسلام من خلالهم، وكذلك ضربُ الشعوب ومقدراتِها (لقاء المعلمين). وسنقف حول هذا الموضوع لاحقا أيضا.
وعلّق في ملزمة (الإسلام وثقافة الاتباع) على ظاهرة التخبُّط في المناهج المدرسية، ظاهرة المناهج التجريبية التي تستمر سنينا طويلة، وظاهرة التعديلات في كل مرة، ويقول: «لاحظوا الآن وزارة التربية والتعليم، والحكومة بكلها فيما يتعلق بالمناهج الدراسية، أربعون سنة ولما يستقر المنهج الدراسي، أربعون سنة!. ومازال الآن المنهج تجريبيا».
ويُرْجِع ذلك إلى عدم الأخذ بالمنهجية القرآنية، يقول: «ما تزال المناهج الدراسية تحت التجريب، وما زالوا يبحثون عن تخريج خبراء، بكيفية إنشاء منهج، فإذا صمّم منهجا قالوا: ليس هو بالشكل المطلوب، ثم قالوا: سنعمل تعديلات» (لقاء المعلمين).
وبيّن خطورة الأخطاء في مجال التربية ومآلاتها السيئة، حيث قال: «الأخطاء في مجال التربية تكون آثارها سيئة، ولو كانوا بمعدَّل عشرة طلاب فقط في الفصل الواحد، و ليس خمسة وعشرين أو أكثر، ما دامت تربية سيئة، فسيتخرج هؤلاء عناصر فاسدة في الغالب، وسيُفْسِد المتخرِّج منهم سواء أمسك عملاً إدارياً، أو في أي مجال هو فيه» ؛ذلك أن «تربيته تربية فاسدة في معظم ما يقدم إليه».
ويعزو ما نراه «فساداً في الشباب، في كثير من الشباب، في كثير من الكبار الذين هم خريجو مدارس» إلى «خطأ في التربية، من القائمين على التربية»، وأنه ليس «القضية أن هناك زحمة في السكان ! لا. بل لأنها تربية سيئة … تربيته تربية فاسدة في معظم ما يقدَّمُ إليه».
ويضيف محذرا: «أما ونحن أيضاً فاتحون المجال بأن يأتي اليهود يُرَبُّون الناس، فهذا أطمُّ، وهو أيضاً أسوأ، وهذا جاء من القائمين على الناس، الذين همُّ أحدِهم أن يسلَم منصِبُه، أن تسْلَمَ رؤوسُ أمواله، أن تسْلَمَ مصالحُه، ولو ضحَّى بالناس، وبدين الله، و بكتابه» (سورة البقرة – الدرس التاسع من دروس رمضان).
وللموضوع بقية في الحلقات المقبلة..
Next Post