التربية في فكر الشهيد القائد 2

د. حمود عبدالله الأهنومي

حول مفهوم التربية واشتقاقها ومواردها تنطلق الرؤية التربوية عند الشهيد القائد – سلام الله عليه – كاملة شاملة وعميقة وجذابة بعمق وشمول وعظمة مصدرها الأساس وهو القرآن الكريم؛ حيث الله هو المربِّي في الأساس لجميع خلقه، وهذا ما سيتضح من خلال ما سيأتي من شرح لهذا الموضوع.
الرب والربانيون والتربية
الربُّ في الأصل: مصدرٌ، وهو التربية، وهي إنشاء الشيء حالا فحالا إلى حد التمام، ويقال ربّه، ورباه وربَّبَه .. ، فالربُّ مصدرٌ استُعِير للفاعل، ولا يقال الرب مطلقا إلا لله تعالى المتكفِّل بمصلحة الموجودات بحسب ما ورد عند الأصفهاني في مفردات القرآن الكريم.
وصف القرآنُ الكريمُ العلماءَ المعلِّمين بأنهم ربانيون، حيث قال: ﴿وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ﴾ (آل عمران:79). حيث أخبر أنه لا يمكن لرسولٍ أن يدعو الناس إلا لأن يكونوا ربانيين، بسبب أنهم يعلّمون كتاب الله عز وجل، وبسبب أنهم يدرسون، يدرسون أيّ علمٍ نافعٍ، يدرسون كلَّ ما مِن شأنه أن يُدْرَس.
والعلماءُ الربانيون هم أولئك الذين خلُصَتْ حياتُهم لله، في سبيل إصلاح وتربية خليقته، إنهم ربانيون، منسوبون إلى الرب، وهي الصفة الإلهية المشتقة من التربية، همهم تربية هذا المجتمع على هدى الله، وتنشئته التنشئة الفاضلة بحسب ما يريده عز وجل. وهذا أمير المؤمنين علي عليه السلام يبيِّن في نهج البلاغة أن من حق العامة على العلماء الحكام أن يعلّموهم حتى لا يجهلوا، وأن يؤدّبوهم كيما يتعلموا.
حول هذا المفهوم تتصل الرؤية التربوية للشهيد القائد بالله عز وجل؛ حيث هو المربِّي في الأساس لجميع خلقه، وحتى أولئك الأعلام الذين يولِّيهم الله تربية الأمة، فإنهم يربونها على النحو الذي أمر اللهُ في دينه القويم، وقد جاءت تشريعاته سبحانه وتعالى للناس لكي تقوِّمَ سلوكَهم، وتصحِّح مسارَهم على النحو الذي فُطِروا عليه، وتصِل بهم إلى الغاية المنشودةِ من خلقِهم، ومن هذا جاء اسمُ الربِّ تبارك وتعالى؛ فهو يقول في ملزمة الاستقامة: «ربنا الله وحده لا شريك له، لا نعبد سواه، ..؛ لأن الربوبية هي من التربية، الله هو الذي ربَّانا، ويُرَبِّينا باستمرار، هو الذي يقوم بتدبير شؤونا، هو القيُّوم على كلِّ أمورنا».
ويبيِّن السيد الشهيد معنى (ربنا الله) بشكل أكثر تفصيلا فيذكر أيضا في ملزمة الاستقامة أن ذلك يعني: «أنه هو وحده الذي يملك حقَّ تدبيرِ شؤوننا في هذه الحياة، هو وحده الذي يملك حق الأمر والنهي فينا في هذه الحياة الدنيا ولا أحد سواه، باعتبارنا عبيدا له، هو الذي خلقنا، هو الذي رزقنا، هو الذي مهَّد لنا هذه الأرض التي نعيش عليها، نحن مملوكون له بكل ما تعنيه الكلمة، لا أحد سواه يملِكُ أن يشرِّعَ لنا، لا أحد سواه يملك أن يتحكَّم كما يريد في شؤوننا، يأمر وينهى كما يريد في مختلف مجالات حياتنا».
وحين نتأمل ما أورده السيد الشهيد هنا نجده تفصيلا لما أجمله الإمام القاسم بن إبراهيم عليه السلام، وهو يفسر قوله تعالى: ﴿رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾؛ إذ قال: «وتأويل ﴿رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ فهو السيد المليك الذي ليس معه فيما ملَك مالِكٌ ولا شريكٌ» كما ذكره الإمام الشرفي في تفسير المصابيح.
وفي دروس (في ظلال دعاء مكارم الأخلاق)، عند دعاء الإمام زين العابدين عليه السلام: (وبلِّغ بإيماني أكمل الإيمان، واجعل يقيني أفضل اليقين، وانتهِ بنيتي إلى أحسن النيات، وبعملي إلى أحسن الأعمال) – توقَّف الشهيد القائد طويلا في شرحها وتفعيلها، واعتبر ذلك من أهم مصاديق ربوبية الله تعالى للمؤمنين، وما يجب أن يكونوا عليه من الازدياد في الإيمان، واليقين، وحسن النية، والعمل.
واعتبر زيادة الإيمان من أهم مصاديق هذه التربية الإلهية بقوله: «إنه لا بد أن يبتليني بتكاليفَ متنوِّعة، ما بين شاقٍّ على نفسي، أو شاقٍّ على جسمي، وما بين سهل، ما بين صعب علي باعتباره مخالفاً لهواي، أو لمصالحي الشخصية، أو لأي اعتبار آخر من الاعتبارات الدنيوية، وبين ما هو بعيد عن هذا الاعتبار» (ملزمة الاستقامة).
وبصدد وجوب استقامة أفعال المكلفين مع أقوالهم، وتفاعُلِ المربوبين مع أساليب التربية الإلهية، نحَى باللائمة على أولئك الذين يناقِضُ قولُهم سلوكَهم، فيقولون: الله ربنا، «ولكن يدينون بالولاء لتشريعاتٍ بعيدة عن الله، لأنظمةٍ بعيدة عن الله، هذا إقرارٌ يناقضُه العمل».
ووصف ولاية الله لعباده التي تمتد إلى ولاية الأنبياء والرسل على أممهم، ثم إلى أعلام الهدى على شعوبهم، بأنها «ولاية رحمة، ولاية رعاية، ولاية تربية، وليست مجرد سلطة قاسية، أوامر ونواهي فقط، ولاية رحمة بكل ما تعنيه الكلمة»( الدرس الثالث والعشرون من دروس رمضان).
وحين علَّل بعض التشريعات والتكاليف وصفها بأنها أحكامٌ تربوية، وتشريعات تربوية، تعالج النفس البشرية وتهذِّب طِباعَها، وتقوِّم سلوكها، وتخلق فيها قوة الإرادة.
ويلتقي في هذا مع ما يقوله السيد العلامة محمد حسين فضل الله رحمه الله في تفسيره ﴿رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾، الذي عنْوَن فقرته بقوله: (الله هو المربِّي)، ثم شرح امتزاج معنى الربوبية بالألوهية قائلا: «فهو الإله الذي يخلق الخلق، ولكن لا ليتركهم في الفراغ، بل ليرعاهم فيربّي لهم إحساسَهم من خلال الأجهزة التي أودعها في داخل كيانهم، ومن خلال الأشياء التي خلقها لهم من الطعام والشراب وغير ذلك، مما يتوقف عليه نموّ أجسادهم، ومما يربّي لهم عقولهم من خلال العناصر الدقيقة الخفية التي أقام عليها كيانَهم الفكري، ومن خلال الوسائل الحسية التي حرَّكها لتموِّن جهازَ العقل في وجودهم، ليبْدِعَ ما شاء اللّه له من النتاج الفكري الذي يرفع مستوى الحياة في أكثر من مجال، ويربّي لهم حياتَهم الروحية والعملية بالرسالات التي تمثّل أعلى درجات السموّ والخير والإبداع.
ثُمَّ كانت تربيته للوجود كلّه في مخلوقاته الحيّة والنامية والجامدة، في ما أبدعه من النظام الكوني الذي يضع لكلّ موجودٍ نظاماً بديعاً من الداخل والخارج، ويربط فيه بين المخلوقات في عملية التكامل الذي يتمثّل في الترابط الوجودي المتحرّك أو الساكن في وجود الأشياء».
الإنسان هو الهدف
تجعل مسيرة الشهيد القائد الإنسانَ محورا لعملية البناء والتربية، شأنها في ذلك شأن كثير من المشاريع النهضوية الفاعلة والناجحة، وكثيرا ما ركز الشهيد القائد أن ميدان حركة المؤمنين وجهادهم هو الناس، وقلوبهم، وقد أوردت (مذكرة أسس وموجهات العمل)، تحت عنوان (موجهات متعلقة بعملية البناء) عددا من الموجهات الهامة، وهي:
– إدراك أن محور البناء الأساسي هو الإنسان: مسألة مهمة جدا.
– العناية القصوى بالتأهيل والتربية الإيمانية، وعملية البناء تشمل التأهيل كركن أساسي.
– أن يكون هناك اهتمام بالتأهيل الثقافي والتربوي والعلمي والعملي.
– بناء الفرد وتقويم سلوكه ومعالجة الظواهر السلبية.
– الاهتمام ببناء المهارات والقدرات العملية والاهتمام بتطوير الأداء العملي وآليات العمل.
– الاستفادة من الأحداث والصراع في إيجاد البدائل وفي الإبداع والابتكار والتطوير والتطوُّر والإنتاج والبناء.
ويرد فيها عنوان هام جداً هو: (أساس بناء الحياة يبدأ ببناء الإنسان)، وعنوان آخر هو: (الاهتمام ببناء الفرد تربية وتثقيفا وتقويم سلوك)، وتورد نصاً للشهيد القائد يتضمن تصحيح الوعي في ذهنية المجتمع، ويجعله يفهم الأمور فهما صحيحا إذا تهيأ المجتمع لأن يتحرك متوحدا، وتهيأت نفوس أهله إلى أن تكون متآلفة؛ «لأنه حتى صلاح نفوسنا وزكاء نفوسنا، وأن نكون واعين وفاهمين، ولدينا قدرة على أن نفهم الأمور كما هي عليه هو مرتبط بالدين أيضا، مرتبط بالدين؛ لأن من مهام الدين هو أن يزكِّي النفوس، ويجعلها نفوسا زاكية، وأرواحا سامية، طاهرة، ويخلق معرفة، ووعيا، وفهما بالأمور كلها.
التربية ليست مقيدة بعمر معين
ومن الأهمية بمكان التنبيه أن الشهيد القائد قصد بالتربية تربية الإنسان بغض النظر عن عمره أو مكانه أو وظيفته، فلا مكان محدد للتربية لديه، ولا مرحلة عمرية معينة، وليس الفرد فقط هو من يجب أن تُوَجَّه إليه العملية التربوية، بل كل الأمة هي بحاجة أيضا إلى التربية الدائمة، في كل وقت، وفي كل زمان، صغارا وكبارا، وهو بهذا يعطي بُعْدا واسعا وعميقا للتربية، وهو أمرٌ مفهوم من شخصية قيادية تطمَح لتغيير حال المجتمع وتحاوِلُ أن تحيي فيه قيم النهضة والحرية، وتربي فيه العزة والكرامة.
لهذا لم يتحدَّثِ الشهيد القائد بالتفصيل عن التربية للناشئة، وعن الطرق والوسائل التي تناسِبهم، ولا عن طرق التدريس، ولم يهمه تصنيف (بلوم) (أحد علماء ومنظري التربية)، للأهداف المعرفية، ولم يهمه أيضا الحديث عن التقويم وطرقه، ولا مهارات التدريس الفاعِلة، كالتعزيز والتقويم وإدارة الصف، كما لم يبحث نظريات فلاسفة التربية الآخرين، ولا آخر ما توصلوا إليه في عملية تحليل المناهج وصياغتها.
بل ركّز همَّه على الموضوع الذي شغل باله كثيرا، وهو كيف يجب أن نحرِّك جمودَ هذه الأمة، ونحيي مُواتَها؟ وأين الحلقة المفقودة بين أقوالها وأفعالها، بين نظرياتها وتطبيقاتها؟ أين الخلل في واقع هذه الأمة؟ ولماذا صارت ضعيفة مهانة؟ وكيف يتم الأخذ بيدها؟ ومن أين يجب الإصلاح والاستنهاض؟ وأين واقعها مما افترضه القرآن الكريم عليها؟
لقد كان دائمَ السؤال: لماذا نجح رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – في إدخال أهل الجزيرة العربية إلى الإسلام في غضون عشر سنوات، بينما نحن (وقصَدَ الناشطين في العمل الإسلامي الزيدي بالتحديد) لم نحقِّق شيئا خلال 12 سنة؟ ولماذا فشل الإخوان المسلمون أيضا في تحقيق أهدافهم ولهم خمسون سنة في العمل التربوي والدعوي؟ وهو سؤال طالما طرحه في أكثر من محاضرة.
وهذه الأسئلة ما ستجيب عليها الحلقات المقبلة.

قد يعجبك ايضا