عندما تقول في أي مكان (أنا من حضرموت) فهذه من البداية شهادة حسن سيرة وسلوك لك.
لا أقول هذا من باب التعصب أو عن عنصرية مقيتة حاشا لله وانما لمغزى سيفهم لاحقا, لأن من تقول له إنك حضرمي لا يتبادر إلى ذهنه تلك البقعة من الأرض القاحلة الجبلية والصحراوية، بل يتبادر إلى ذهنه مجموعة من القيم الحميدة التي يتميز بها الغالبية من أبناء حضرموت ولا أقول كلهم وأولها (الأمانة والصدق في المعاملة والدين) بمعنى الدين المعاملة وليس إطالة اللحى وتقصير الثياب … لقد نشر الحضارم الإسلام في مهاجرهم الكثيرة وأدخلوا الملايين من شعوب جنوب شرق آسيا والهند وشرق أفريقيا والحبشة وغيرها من الدول في الإسلام بالمعاملة والأمانة والصدق والدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة.
إن المتأمل للمطالب التي طرحها المؤتمرون يجد أنها مطالب حق لحضرموت ولغير حضرموت من المناطق، فلا أحد ينكر على أي منطقة المطالبة بتحقيق العدل والمساواة وتكافؤ الفرص وأولوية أهلها في إدارة أمور مناطقهم وحقهم في أن ينالوا نصيبا من ثروات مناطقهم والمطالبة بحلول جذرية لمشاكل البنية التحتية من خدمات المياه والكهرباء والصحة والتعليم والطرق وغيرها من سبل الحياة الكريمة، فهذه كلها مطالب مشروعة وما أوصلنا لهذا الحال الرديء إلا تجاهلها من قبل المسؤولين في الماضي.
أما التقوقع وحصر حضرموت في التقسيم الإداري الحالي الضيق والذي على أساسه تم بتر سقطرى والمهرة وشبوة منها، فهذا تقزيم لحضرموت وتحويل هذا العملاق العظيم الى قزم ممسوخ بلا أيد ولا أرجل … ان فصل شبوة عن حضرموت هو قمة الجهل بتاريخ حضرموت فقد كانت شبوة عاصمة دولة حضرموت القديمة، فأين نذهب بتلك النقوش والآثار القديمة وحقائق التاريخ الثابتة؟؟؟
إن أبناء حضرموت وأسرهم منتشرون في كل مناطق اليمن بوديانه وجباله وتهائمه شماله وجنوبه، بدءا من عدن وحبّان ومرخة وبيحان ويشبم والصعيد بشبوة وقرى الحضارم بتعز والوهط بلحج ومكيراس ولودر والبيضاء وفي النادرة وفي رداع وادي ريام وفي حريب القراميش ووادي حباب بخولان الطيال وصرواح ومارب وغيرها … هذه أمثلة فقط لانتشار الحضارم في الكثير من المناطق في قطرنا اليمني ناهيك عن الإقليم والمهاجر.
وفي المقابل فإن القبيلتين اللتين تشكلان جزءا هاما من النسيج القبلي والاجتماعي في حضرموت وهما قبيلة يافع بكل مكاتبها قد جاءت من جبل يافع لنصرة السلطان الكثيري بدر بو طويرق وانتشرت في ساحل ووادي حضرموت بطوله وعرضه، وقبيلة همدان التي جاءت قبلهم من الجوف واستقرت في حضرموت وبعض منها في عُمان.
هاتان القبيلتان كانتا تحكمان حضرموت حتى الاستقلال سلطنة القعيطي اليافعي وسلطنة الكثيري الهمداني … أضف لهاتين القبيلتين ذرية السيد أحمد بن عيسى المهاجر القادم من المدينة المنورة والمنتشرين في كل مناطق حضرموت واليمن والمهاجر …
أما قبيلة كندة التي تنتسب لها الكثير من القبائل الحضرمية فقد سكنت حضرموت قبلهم جميعا.. وكنده احدى القبائل السبئية اليمنية القحطانية التي تنتسب إلى زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان وتعرف كندة بــ (كندة الملوك) لأنهم كانوا أهل ملك وحكم وقوة، وتنقسم كندة إلى فرعين رئيسيين هما: بنو معاوية الأكبر وبنو الأشرس الذين تفرعوا بدورهم إلى بني السكون وبني السكاسك … وقد تفرعت من كندة بطون وأفخاذ وعشائر لا تحصى في حضرموت وعُمان والجزيرة والعراق والشام ومصر والأندلس، ومن مشاهير كندة الملك حجر بن عمرو المشهور بآكل المرار والشاعر الجاهلي أمرؤ القيس بن حجر بن الحارث الكندي القائل:
تطاول الليل علينا دمون …. دمون إنا معشر يمانون
والقائل:
كأني لم أسمر بدمون ليلة … ولم أشهد الغارات يوما بعندلِ
كما اشتهر منهم القائد المسلم المعروف أبو العلاء الحضرمي وكثير من الصحابة منهم الأشعث بن قيس الكندي الذي كان أحد ملوك كندة حتى الاسلام بعد آخر ملوكهم أمرؤ القيس بن حجر وكان ممن أسلموا عام الوفود مع جمع من قومه، وقد أسست كندة أربع ممالك في الأندلس، كما قامت لكندة عدة دول بحضرموت بعد أن ضعفت دولة بني أمية ثم دولة بني العباس أشهرها دولة آل راشد وأميرها عبدالله بن راشد القحطاني وعاصمتها تريم واتصف حكمها بالعدل والاستقرار في أغلب مدن حضرموت وآخر هذه الدول دولة بن محفوظ بالهجرين.
وهناك قبائل أخرى أصيلة ومؤثرة موجودة في حضرموت مثل قبائل نوح وسيبان الشهيرة وهي قبائل حميرية والقبائل التي ضمها حلف قبائل بني ضنة وغيرهم من القبائل.
ومع احترامي لمن اجتمعوا سواء في الداخل أو في الخارج والذين أعرف البعض منهم وتربطني بهم صداقات قديمة ومن لا أعرفهم ممن لا شك أن لكل منهم ثقله القبلي أو الاجتماعي أو الأكاديمي أو الديني ولا نشكك في وطنية أحد منهم، إلا أن بلدا كحضرموت بهذا التنوع وهذه الخلفية التاريخية والاجتماعية والسياسية لا يمكن لأي مرجعية الانفراد بتحديد ملامح مستقبلها.. هذا النسيج الاجتماعي التعددي المتين لحضرموت والذي تكوَّن عبر حقب طويلة ومتداخلة من التاريخ القريب والبعيد وبهذا التنوع الفريد الذي انصهر في بوتقة من الشراكة والانسجام ليشكل هوية خاصة فريدة وجامعة لكل هذه المكونات المتعددة لهو جدير بالاعتزاز والتمسك به وعدم التفريط فيه بل وتعزيزه بما يزيده قوة وصلابة، وأية دعوة لغير هذا هي افتئات على هذا الإرث التاريخي والحضاري العظيم.
ولذلك نتمنى ألا يتم استغلال هذه المؤتمرات وهذه التجمعات التي عقدت في الداخل والخارج كالمؤتمر الذي عقد في كوالالمبور بماليزيا مؤخرا وحضره حوالي ألف من الشخصيات الحضرمية من الوجاهات الاجتماعية ورجال الأعمال ورجال الفكر والسياسة الذين تبوأوا مناصب وزارية ودبلوماسية في بلدان المهجر ورجال أعمال من العيار الثقيل وتجييره من قبل جهات أخرى لها أجنداتها وحساباتها الخاصة وليست مصلحة حضرموت من بين أولوياتها.
إن مستقبل حضرموت لا يحدده سوى تاريخها وتماسكها وأرثها الثقافي والحضاري وامتداداتها بفروعها وجذورها وقوتها الناعمة المنتشرة في كل مكان في الوطن والإقليم ودول العالم المختلفة.
إن أعداد الحضارم الموجودين في المهجر تفوق بمرات تعداد الموجودين في حضرموت ومنهم وزراء وسلاطين ورؤساء في بروناي وماليزيا وغينيا الجديدة وجزر القمر وكينيا، ناهيك عن أباطرة المال في شرق أفريقيا والسودان والحبشة والسعودية وغيرها ونتمنى ألا يغيب صوتهم في أي لقاءات قادمة فمن حقهم أن يسمع صوتهم فهم قوة حضرموت الناعمة المنتشرة في أصقاع العالم … إن اليمن منتشر في حضرموت وحضرموت منتشرة ليس في اليمن فقط، بل في الإقليم وما وراء الإقليم في المهاجر، لقد اندمج الحضارم في مجتمعات بلدان المهجر وأصبحوا جزءا لا يتجزأ من النسيج الاجتماعي الوطني لتلك البلدان وأثروا وتأثروا بثقافات وعادات تلك المجتمعات وهضموها واستوعبوها وصبغوها بهويتهم وتجد شواهد ذلك وآثاره في طرق لبسهم وفي مأكولاتهم كما تجده في الكثير من المفردات من لغات تلك البلدان في اللهجة الحضرمية الدارجة، لقد كانت هوية الحضرمي وجنسيته الأصيلة إسلامه وتاريخه وأخلاقه السمحة وأمانته وسمعته، وأي محاولة لسلخه عن هويته الأصلية لحساب أجندات محلية أو إقليمية تكيد لحضرموت، انما هي كمن يحاول إبدال جلده، أو كمن يأتي إلى هذه الدوحة الكبيرة ليقطع أغصانها الفارهة ويجتثها من جذورها، فأنى لها أن تبقى بعد ذلك؟
وعلى من تولوا أمانة إرشاد الناس وتعليمهم ونشر قيم التسامح وإصلاح ذات البين في المجتمع منذ القدم وإحياء منهج الوسطية الذي تميزت به مدرسة حضرموت الأصيلة في تعليم الناس ودعوتهم هذه المدرسة التي كان لها أكبر الأثر في دخول عشرات الملايين من البشر في الإسلام بالدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وعلى رموز هذه المدرسة المعاصرين، أن يضطلعوا بدورهم في هذه المرحلة الهامة والمفصلية من تاريخ حضرموت وأن يكونوا من عوامل التوحد ولم الشمل والاعتصام بحبل الله، فهذه الأمانة ستظل في أعناقهم وسيحاسبون إن لم يؤدوها كما يجب.
حافظوا على حضرموت التاريخ والحضارة والهوية، حضرموت التنوع والتعايش المشترك، وليكن هدف هذه التجمعات بالفعل جامعا كما هو شعار مؤتمراتكم ولا تكونوا دعاة تفرقة وتشظ وإثارة للنعرات والعصبيات المقيتة والضيقة، بل كونوا عامل توازن وتأليف القلوب والجهود لوطن يتسع للجميع ويساوي بين الجميع وطن يتسع لجميع أبنائه وما حصل لحضرموت من ظلم وتهميش في الفترات السابقة لا ينكره أحد وطال الكثير من مناطق الوطن الأخرى أيضا وليست حضرموت فقط ومن حق كل مظلوم أن يتم أنصافه أما أن نعالج أخطاء الماضي بأخطاء أخرى فليس ذلك من الحكمة في شيء.
نسأل الله التوفيق والسداد للجميع.
* عضو الهيئة الوطنية العليا لمكافحة الفساد-
رئيس لجنة تقييم وتطوير القوانين المتعلقة بمكافحة الفساد