التطوع سبيل المحسنين

إبراهيم محمد الهمداني

 

 

يعد التطوع من أسمى القيم الدينية، وأرقى السلوكيات الحضارية، إذ تتجلي في القائمين به الملتزمين بنهجه، مجموع الصفات الحميدة، وخلاصة مكارم الأخلاق، فعلاوة على كونهم قد ألزموا أنفسهم طواعية، بما هو أكثر من الواجب عليهم، فإن ما تخلقوا به من عظيم الإيثار، قد أظهر مقدار إحساسهم العالي بالمسئولية، وشغفهم بالبذل والعطاء، سواء بالجهد أو المال أو غيره، دون منٍّ أو انتظار مقابل من أحد، سوى الله تعالى، الذي طالما أثنى عليهم، وشكر لهم صنيعهم، بجزيل ثوابه، وعظيم حبه، الذي خصهم به بقوله:- “والله يحب المحسنين”.
طالما ارتبط التطوع بمفهوم المبادرات، في معناها الواسع الدال على المسارعة في أعمال الخير والبر والإحسان، سواء أكانت تلك الأعمال في جانب العبادات كصيام التطوع وصلاة النوافل والصدقات وغيرها، أو في جانب المعاملات بين الناس، بما من شأنه تعزيز العلاقات والروابط الأخوية بينهم، ويأتي الإيثار في مقدمة تلك السلوكيات الإنسانية، التي تخلص الإنسان من رذيلة الطمع وحب التملك، ونزعة الأنانية المفرطة، وما تنطوي عليه من مخاطر تغلغل الشح في النفس البشرية، حتى يصل الإنسان إلى مرحلة الجشع في حب المال، وسوء الظن بالله تعالى.
بينما الإيثار والبذل والعطاء، يقود الإنسان إلى أعلى مراتب السمو والفضيلة، عند الله تعالى وعند الناس، وفي هذا السياق مدح الله تعالى الأنصار، وأثبت لهم هذه الفضيلة بقوله:- “وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُو ٱلدَّارَ وَٱلإِيمَٰنَ مِن قَبلِهِم يُحِبُّونَ مَن هَاجَرَ إِلَيهِم وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِم حَاجَة مِّمَّآ أُوتُواْ وَيُؤثِرُونَ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِم وَلَو كَانَ بِهِم خَصَاصَة وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفسِهِ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلمُفلِحُونَ”، الحشر/ ٩.
إن التطوع في تموضعه السلوكي الأخلاقي والممارسة الواقعية، يحمل في طياته كل معاني الإيثار والعطاء، والمسارعة في أعمال البر والإحسان، وبذل وتسخير الجهد والمال في خدمة المجتمع، بنفس راضية، وسعادة بالغة، وهو ما جسَّده المتطوعون – أحفاد الأنصار – في واقعنا اليمني اليوم، من خلال المبادرات والأعمال الطوعية، التي قاموا بتنفيذها في مختلف المجالات، وكانت بمثابة الصخرة الصماء، التي تحطمت عليها آمال تحالف العدوان، في نزعته الإجرامية، حين لم يكتفِ بهدم وخراب الأوطان، وحرب الإبادة ومجازر القتل الجماعي، بل سعى إلى هدم بنيان المجتمع وكيان الإنسان، من الداخل، بكافة الوسائل والطرق الوحشية، على مدى ثماني سنوات، لكنه لم يبلغ غايته، فقد مُنِي بأقسى الهزائم، في مختلف الميادين والجبهات، ومثلما سقط مرغما كسيرا في ميادين المواجهة العسكرية، سقط كذلك في ميادين المواجهة الاجتماعية والاقتصادية التنموية.
كان المتطوعون هم المجاهدون المحسنون، الذين أسهموا في صناعة النصر، من خلال إعادة بناء الروابط والعلاقات بين أبناء المجتمع، وتحصينهم ضد مشاريع العدوان الهدامة، وتعزيز قيم التكافل والتكاتف والتراحم، إضافة إلى قيادتهم لعملية بناء الوعي الجمعي بأهمية العمل الطوعي، وتنفيذهم الكثير من المبادرات المجتمعية، التي تصب في خدمة المجتمع، وكان لجهودهم ومبادراتهم الأثر الكبير، في تحقيق ذلك الصمود الأسطوري، الذي أذهل العالم، وقلب الموازين والمعادلات في ميادين المواجهة العسكرية، التي انعكست بدورها على مستوى الساحة السياسية العالمية، الأمر الذي جعل قوى العدوان السعوأمريكي وتحالفها العالمي، تفقد الكثير من أوراقها، وتقف عاجزة أمام أمرين أحلاهما مرُّ؛ فإما أن ترضخ لمتغيرات الواقع، وتعلن نهاية حربها وعدوانها على اليمن، وبذلك تعلن هزيمتها النكراء، وإما أن تستمر في حربها وعدوانها ومكابرتها إلى ما لا نهاية، وحينها ستكون العواقب وخيمة، والتداعيات أكثر خطورة على أمن واستقرار المنطقة، ناهيك عن التكلفة الباهظة لاستمرار الحرب، وتداعياتها على اقتصاد تحالف العدوان، وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية، التي أصيب اقتصادها في مقتل، جراء بعض ضربات الطيران المسير والصواريخ الباليستية اليمنية، حيث وصل بها الأمر إلى أن يتوقف نصف إنتاج شركة أرامكو من النفط، وهو ما انعكس سلبا على السوق العالمية، وبالتالي الاقتصاد العالمي الإمبريالي.
في الجانب الآخر، كانت اليمن تشهد نموا اقتصاديا لا بأس به، ونهضة تنموية صاعدة، وإن كانت بطيئة نوعا ما، فذلك لأنها نشأت من تحت الصفر، بجهود أولئك المتطوعين الأبطال، الذين بلغوا أعلى مراتب العطاء ومنازل الإحسان، حين بذلوا جهدهم ومالهم ووقتهم، وكل ما يمكن بذله وتقديمه، ولأنهم تلذذوا بقيمة العطاء شعوريا وأخلاقيا، وأدمنوا البذل والإيثار، وحين لم يبق لديهم غير أرواحهم، العارية من غواية الطمع ورذيلة الشح، جادوا بتلك الأرواح الطاهرة عن رضى وطواعية، مختارين ما عند الله من جزيل الأجر والثواب، على ما كان في أيديهم من النعم الزائلة، فاستحقوا رضى الله وحبه، “والله يحب المحسنين”.

قد يعجبك ايضا