بمهارة المبدع، امتلك الدكتور عبد العزيز المقالح، الشاعر والإنسان كلمة السر التي مكنته من المواءمة بين علاقته بالإبداع والإنسان المبدع، الذي نادراً ما يجد له في البلدان المتخلفة مكاناً لدى الحاكم وبين علاقته بالسلطة، باعتبارها في الأصل ملك الشعب، لولا حالة التغول لمن يقفزون لنهب هذا الحق، ولكل مذهبه في تقييم هذه العلاقة، إلا أن المقالح أثبت جدارة وقدرة فائقة في المحافظة على هذه المعادلة الصعبة التي عاش بها ومن خلالها قريباً من السلطة التي جعلها نافذة يقدم من خلالها ما يستطيع لمن يستطيع خدمته، كما عاش قريباً من كل من عرفه قرباً فيه من الدفء والحميمية مالا تستطيع إيجاده عند غيره .
وزع قصيدته على الوطن حُباً وحزناً عميقاً قل أن تجد ما يضاهيه، لقد سجل الشاعر والأستاذ والإنسان عبدالعزيز المقالح حضوره في صفحة اليمن كعاشق لصنعاء، التي اعتبرها رمزاً للوطن وعبّر عنها فور وصوله إليها بقصيدة من أبياتها: (صنعاء هذا العاشق الأشهر * عاد به من أسره المهجر) – وبقي محافظاً على معادلة حياة السلطة والشاعر في جسد واحد وعلى الحضور بالحرف والروح التي وزعت ألق حُزنها على الجميع، وما أصعب امتلاك هذه المعادلة.
كان المقالح حاضراً في كل منتديات الشعر العربي، رغم غيابه جسداً نتيجة توقفه عن السفر، منذ أن تم ترحيله من القاهرة لموقفه القومي من اتفاقية كامب ديفيد عام 1978م التي وقعها محمد أنور السادات، الذي غيّر اسم الجمهورية العربية المتحدة إلى جمهورية مصر العربية مع رئيس وزراء إسرائيل حينها مناحيم بيجين في منتجع كامب ديفيد، لتبدأ مصر مرحلة جديدة من الانحدار والتقوقع باسم الواقعية السياسية.
وقد اختلف من عرف المقالح حول تفسير كُرهه للسفر بالطائرة منذ ذلك الحين كما كان يُردد لمن يدعوه لحضور أي مناسبة خارج الوطن، هل هو حقيقة أم أنه هروب ذكي من الاستجابة لتلبية الدعوات التي كانت تنهال عليه من كثير من البلدان، والتي رأى في تلبيتها مضيعة للوقت، يحد من طموحه في محاولة إحياء المشهد الثقافي في اليمن وفق ما يراه.
كان صوته الخافت المدوي المكتظ بالحزن مليء بالتعابير والمعاني الإنسانية ولهذا فهو لا يُنسى، وعطاؤه لا يقتصر على الكلمة شعراً ونثراً ونقداً، ولكنه عاش هم كل من لجأ إليه في أي أمر وكأنه لا يشغله شيء غير هم من قصده، يقرأ باستمرار ويستمع باستمرار ويكتب باستمرار، عاش حالة تجلٍ ليس فيها فراغ، وهو بذلك يعكس جزء من فلسفته ونظرته للحياة معناها ومبناها أن العمر ليس فيه محطة انتظار، فهو يبدأ بمحطة الانطلاق – أي الميلاد – وتنتهي بمحطة الموت – أي رحيل الجسد – وما بين المحطتين هو المحتوى الذي يخلّد صاحب الرحلة من المحطة الأولى إلى الثانية .
كانت أول علاقتي به عقب وصوله صنعاء في 1978م، حيث ذهبت لزيارته مع الأخ العزيز إبراهيم المقحفي بمنزل صهره المرحوم الأستاذ النبيل عبد الملك زبارة أمام الهلال الأحمر اليمني، وطلبت منه خلال الزيارة المساهمة في مجلة الحراس، فلبى الطلب بكل سرور ودون تردد، هذه إشارة سريعة وتعبير خاطف كتبته فور سماعي فاجعة رحيله.. فلروحه السلام.. وله من الله الرحمة والغفران، والعزاء كل العزاء لكل أهله وذويه وللوطن.