أوروبا تحبس أنفاسها من تداعيات أزمة أوكرانيا

هل تضحي واشنطن بحلفائها لحماية نفسها من آثار الأزمة

 

 

يضع الحديث عن الحرب العالمية الوشيكة الكثير من دول العالم أمام سيناريوهات داهمه لحماية نفسها من آثار هذه الحرب، لتجنب تكرار ما حدث في اعقاب الحرب العالمية الثانية، التي دمرت معظم اقتصاديات دول العالم، وخرجت منها الولايات المتحدة منتصرة وباقتصاد قوي أهلها لتربع عرش الهيمنة على العالم، في سيناريو تحاول الولايات المتحدة تكراره اليوم لتلافي أزمة انهيار شامل.

الثورة / أبو بكر عبدالله

واحد من أسوأ تداعيات الحرب الروسية الغربية في اوكرانيا، لخصته نائبة رئيس الوزراء الصربي زورانا ميهايلوفيتش بقولها إن العالم يعيش حاليا حرب طاقة عالمية، وفي إطارها يأتي استهداف البنى التحتية للطاقة، وبعد فقدان الطاقة سيفقد العالم الصناعة والنتيجة الحتمية بعد فقدان الطاقة والصناعة حرب عالمية.
كانت ميهايلوفيتش تشير في الواقع إلى التفجيرات التي استهدفت خطوط تصدير الغاز الروسي إلى أوروبا وما تلاها من تداعيات اقتصادية عصفت بأكثر الدول الأوروبية التي تواجه أزمة طاقة كبيرة في ظل معدلات تضخم مرتفعة للغاية، بما في ذلك ألمانيا وفرنسا صاحبتا أكبر اقتصادين في الاتحاد الأوروبي، وهي الأزمة التي يتوقع أن تتفاقم مع أزمة الركود العالمية التي حذر منها البنك الدولي بحلول العام المقبل.
وإمكان اندلاع الحرب الشاملة بين روسيا والولايات المتحدة وحلفائها الغربيين لم يعد خيارا بالنسبة لبعض صقور نظرية الأحادية القطبية الذين يرفضون كليا ضياع استثمارات الولايات المتحدة في شرق أوروبا وغربها دون مقابل، ولا الجناح البرغماتي الأوروبي الذي صار يتعاطى مع واقع التعددية القطبية كحقيقة، بعدما وجد نفسه جزءاً من معادلة الدائرة في أوكرانيا، فمخاطر تصدع الاقتصاد العالمي وصلت إلى نقطة اللاعودة، ما يجعل الحرب العالمية الثالثة تهديدا حتميا.
لا شيء يدعو للتصعيد الخطير الحاصل في هذه الحرب أكثر من الهواجس الأمريكية التي ترى أن انتصار موسكو سيعني بالضرورة غرق اقتصادي كامل للولايات المتحدة، وفقدان دورها المحوري في الاقتصاد العالمي.
هذه الهواجس تبدو اليوم حقيقية وهي تُفسر التحركات الأمريكية الواسعة لدعم أوكرانيا حتى لو أدى ذلك إلى اندلاع حرب نووية أو حرب عالمية ثالثة، فأكثر ما تخشاه واشنطن هو أن تواجه مصير الاتحاد السوفيتي السابق في ظل التوقعات التي تشير إلى احتمال أن تؤدي مشاكل الديون والتضخم إلى مواجهة الولايات المتحدة أزمة خطيرة في انخفاض الصادرات تضعها أمام خيارين إما تدمير المنافسين أو الموت بشكل منفرد.
ذلك أن فشل واشنطن وحلفائها بهزيمة روسيا عسكريا سيعني شروعها بإجراءات تحافظ على استقرارها الاقتصادي، وما من طريق لذلك سوى زعزعة الاستقرار الاقتصادي للمنافسين وخلق حالة من الذعر تدفع رأس المال من جميع أنحاء العالم إلى “الأصول الأكثر موثوقية” وهي سندات الخزانة والأسهم الأمريكية، ثم تخفيض قيمة الدولار ورأس المال من خلال التضخم المفرط.
لكن المنافسين هذه المرة هم في الواقع الصين التي تحمي اقتصادها بإجراءات صارمة، وثانيا حلفاؤها الأوروبيون الذين يمتلكون نسبة كبيرة من حجم الاقتصاد العالمي، وثالثا حلفاء أمريكا في الشرق الأوسط الذين يمثلون اهم منتجي الطاقة في العالم بعد روسيا.
يمكن القول إن هذا السيناريو قد بدأ فعلا، بالنظر إلى ما يشهده العالم اليوم من أزمات اقتصادية تعصف بدول عظمى مثل بريطانيا وفرنسا وألمانيا ودول التكتل الأوروبي ومحاولات دول أخرى تلافي السيناريو الأسوأ بخفض إنتاج صادراتها النفطية والصناعية للحفاظ على قدر من التوازن، في ظل احتمالات مفتوحة يمكن أن تلجأ إليها الولايات المتحدة من أجل تجاوز أزماتها بما في ذلك شطب قائمة الديون واستحقاقاتها والتي تتصدرها السعودية بواقع 159 مليار دولار و40 مليار للكويت و30 ملياراً للعراق وهلم جراً.
وإجراءات الحماية الوقائية كشفتها بوضوح مؤسسة “إنرجي إنتليجنس” المتخصصة في أمن الطاقة والتي أشارت إلى أن قرار مجموعة أوبك+ خفض الإنتاج، جاء لغرض تحقيق المزيد من الاحتياطي في الطاقة، يمكن ان تستخدمه المجوعة لاحقا لإعادة الاستقرار إلى الأسواق.
وطبقا لتقديرات صندوق النقد الدولي فإن الإيرادات الإضافية التي قد تحوزها الدول المصدرة للنفط ستصل إلى نحو 1 ترليون دولار عام 2026م، ويمكن ان تكون وسيلة ناجعة لقادة المنطقة للاستعداد لمواجهة أي أزمات كبيرة في المستقبل.
صراع البقاء
لكن كيف يمكن للولايات المتحدة الخروج من نفق الأزمة الراهنة بتدمير قدرات المنافسين؟
الإجابة على السؤال ربما صارت مفهومة لكثيرين، فالطريق السهل لذلك هو قطع إمدادات الطاقة (النفط والغاز) وهو ما حصل مع إمدادات الطاقة الروسية إلى أوروبا بعد تفجير انابيب تصدير الغاز الروسي نورد ستريم، ومنع تصدير النفط الروسي، وهو السيناريو الذي يتوقع الموردون الرئيسيون للطاقة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا حدوثه معهم لإحداث اضطرابات اقتصادية ومالية تفتح الطريق لرأس المال في هذه المناطق للتدفق نحو الملاذ الآمن في الولايات المتحدة الأمريكية.
هذا الأمر عبر عنه بوضوح الرئيس الكولومبي غوستافو بترو، الذي اتهم قبل أيام الولايات المتحدة بتدمير الاقتصاد العالمي وأشارته إلى أن السلطات الأمريكية عند اتخاذ قرارات معينة، لا تفكر في العواقب، ما جعل اقتصادات دول أمريكا اللاتينية عرضة للتدمير بينما تتعرض دولها للنهب”.
هذه الاتهامات تعالت مؤخرا في غير عاصمة أوروبية، اتهمت واشنطن بتحقيق مكاسب في بيعها الغاز بأضعاف الأسعار التي كانت تحصل عليها من الغاز الروسي، وفق ما أكد وزير الاقتصاد والمالية والصناعة الفرنسي برونو لومير الذي شدد على عدم السماح بأن تكون نتيجة الصراع الأوكراني هي الهيمنة الاقتصادية للولايات المتحدة وإضعاف أوروبا”.
لومير تحدث بوضوح عن بيع واشنطن غازها الطبيعي المسال بسعر أعلى، بأربعة أضعاف مما تبيعه للشركات الأمريكية المصنعة، ناهيك بتأكيده أن “الضعف الاقتصادي” في أوروبا ليس في مصلحة أحد ويتعين على الدول الأوروبية التوصل إلى علاقات اقتصادية أكثر توازنا مع الشركاء الأمريكيين بشأن قضية الطاقة.
هذا التداعي لم يكن فرنسيا لاتينيا على كل حال، فثمة أطراف أخرى تتحدث أيضا لكن بصوت منخفض، كما في التقارير الأوروبية التي أعلنت أن دول أوروبا هي فقط من عانت طوال الشهور الماضية من الحرب في أوكرانيا والعقوبات على روسيا، في حين كانت الولايات المتحدة تحقق مكاسب كبيرة عبر شركات الطاقة الأمريكية التي حققت ثروات مقابل أزمات خطيرة تتصاعد في أكثر الدول الأوروبية.
ولا يبدو أن التداعيات ستقف عند الخسائر الأوروبية السابقة، بل المرجح أن تستمر في التصاعد خصوصا في ظل استمرار المسببات لها، والمتعلقة بأزمة الديون التي تواجهها واشنطن.
والمعلوم أن معدل التضخم السنوي في أمريكا ارتفع في سبتمبر بنسبة 8.2 % بينما كان في أغسطس 8.3 % رغم الزيادة لملحوظة في أسعار الفائدة، ما يعني أن مكافحة التضخم في أمريكا لم تحقق نتائج إيجابية وينتظر معها زيادة معدل الفائدة التي ستقود حتما إلى أزمة ديون، ناهيك عن أزمة السندات الأمريكية التي تستثمر فيها العديد من الدول الأوروبية، ويتوقع أن تشهد هزات كبيرة نتيجة أزمة السيولة في سوق السندات واحتمالات لجوء الدول الأوروبية إلى بيعها لتعويض العجز في موازناتها السنوية.
النظام العالمي الجديد
الحديث الروسي المتكرر عن خيار وحيد هو الانتصار في الحرب الدائرة في أوكرانيا، ليس امنيات بل صار خيارا وحيدا، تدعمه التوجهات الروسية التي ذهبت إلى نقطة اللاعودة في ترتيبات دولية لترسيخ أسس النظام العالمي الجديد سياسيا وماليا وعسكريا، وتأكيدها على تحقيق النصر في المعركة مع الغرب، عززه تأكيد الرئيس بوتين في قمة أستانا بقوله إن العالم قد انتقل فعلا لنظام متعدد الأقطاب، داعيا إلى مراجعة مبادئ النظام المالي العالمي التي سمحت لما سماه “المليار الذهبي” العيش على حساب الآخرين، معتبرا أن “الوضع في العالم يتغير بشكل ديناميكي”.
والمؤشرات العملية لذلك بدت في الخطوات الروسية التي قطعت الطريق أمام أوكرانيا والغرب بتنظيمها استفتاءات شعبية أفضت إلى ضم الجمهوريتين الانفصاليتين دونيتسك ولوغانسك ومعها مقاطعتي زابوروجيا وخيرسون إلى السيادة الروسية، ثم إعلان الكرملين المناطق الأربعة التي أعلن انضمامها إلى روسيا، مناطق محمية بالأسلحة النووية، ناهيك بإعلان الرئيس بوتين حالة الحرب في المقاطعات الأربع التي تم ضمها إلى روسيا وتطبيق حالة الأحكام العرفية فيها.
والترتيبات بالانتقال لنظام عالمي جديد، لم تكن روسية وحسب فهناك الصين والهند وتركيا والإمارات ومؤخرا انضمت إندونيسيا بدعوة بنك إندونيسيا المشاركين في معاملات التصدير والاستيراد إلى استخدام العملات الوطنية عند إجراء المعاملات الدولية من أجل تقليل اعتماد الأسواق المالية الإندونيسية على الدولار، كون الغرب يطبع المال من الفراغ، ويشتري به موارد طبيعية مادية حقيقية، وبطبيعة الحال فإن مصدري النفط والغاز هم الضحايا الرئيسيون لهذا الوضع، ويمكن لـ “أوبك الغاز” حماية مصالحها، كما تفعل “أوبك+”.
وبالمثل كانت الإجراءات الأوروبية بعد قيام البنوك المركزي، الأوروبية بتكبير محافظ “الملاذ الآمن” بشرائها نحو 400 طن متري من الذهب، بقيمة إجمالية ناهزت الـ 20 مليار دولار خلال شهر سبتمبر الماضي، بالتزامن مع أكبر انخفاض في أسعاره يحدث لأول مرة منذ سبعينيات القران الماضي، واشاع مخاوف من مؤامرة دولية، وسط توقعات ان يتلوه ارتفاعات هائلة في أسعار المعدن النفيس.
وليس هناك سبب لتسارع وتيرة الإقبال على الذهب أكثر من إدراك الأوروبيين أن الاقتصاد سيكون هذه المرة ساحة الحرب الرئيسية، وأن أمريكا التي صارت على وشك الغرق بأزمة الديون تحاول أن تجعل العالم كله يساهم في سداد ديونها، ولعل المواقف الأميركية الغاضبة من قرارات أوبك بلس يقدم توضيح أكثر.
كوابيس الحرب
هناك مثل روسي شهير يقول “لا أحد يعرف إنجازاتك أكثر من عدوك” وهو ينطبق تماما على التصريحات الأمريكية والروسية حيال الحرب الدائرة في الساحة الأوكرانية، والتي تشير إلى تحقيق الجانبين نجاحات كر وفر في الحرب وإصرارهما على خوض معركة كسر العظم.
هذا الأمر عبّر عنه أمين عام حلف “الناتو” ينس ستولتنبرغ مؤخرا بالتأكيد على أن “انتصار روسيا في أوكرانيا سيكون هزيمة لـ “الناتو” ولا يمكن السماح بذلك”.
ومخاطر انخراط الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها الغربيين في الحرب المباشرة ضد روسيا، لم تعد سيناريو قابل للتغيير، فالبيت الأبيض استبق التغيير المحتمل في المواقف الأوروبية وأعلن أن “مخاطر انخراط الولايات المتحدة وحلف “الناتو” في الصراع بأوكرانيا أصبحت مرتفعة”.
على ذلك تذهب كثير من التقديرات إلى أن واشنطن قد تفعل كل شيء للتصدي لمخاطر انهيار نظام القطب الواحد، غير أن أسوأ ما يمكن ان تواجهه في حال دفعت باتجاه توسع الصراع في أوكرانيا، أنها قد تضطر لخوض الحرب بعربة غربية مفككة.
ذلك أن الحلفاء الرئيسيين لواشنطن في الاتحاد الأوروبي منقسمون حيال السيناريوهات التي تذهب إلى تطبيق سياسة للتدخل الجماعي لأمريكا والغرب تحت مظلة “الناتو” في الحرب الدائرة في أوكرانيا، لكونها ستزيد الأعباء على دول الاتحاد عند التصعيد الذي سيفضي إلى خطوات بقطع شريان الطاقة المتبقي الذي يزود أوروبا بالغاز الروسي عبر بولندا، كما سيفاقم من مخاطر أزمة الغذاء وأزمة الأسمدة والأزمة الصناعية التي تعانيها الدول الأوروبية حاليا.
وطبقا لتقييم حديث، صدر عن صندوق النقد الدولي، فإن الارتفاع الحاد في قيمة الدولار الأمريكي في العام الجاري وصعوده إلى مستوى قياسي منذ عام 2000 سيؤدي لعواقب اقتصادية كبيرة في جميع بلدان العالم تقريبا، وهي التقديرات التي زادت من وتيرة التظاهرات في العواصم الأوروبية التي تطالب حكوماتها بوقف الدعم المقدم لأوكرانيا، كما عملت على إحداث تغيير كبير في المواقف الأوروبية عبرت عنه تصريحات الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون بقوله” الحرب في أوكرانيا تغير حياتنا في أوروبا ولا يمكن أن تدوم” فضلا عن تأكيدات وزير الدفاع البريطاني الذي أكد على ” استعداد لندن مساعدة موسكو وكييف في التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار”.
وبموجب تقارير البنك الدولي التي توقعت حدوث ركود في الاقتصاد العالمي العام القادم سيتعين على كل الدول الصناعية خفض الواردات والحفاظ على مستوى الصادرات لتلافي تكبد قدر أكبر من الضرر، ولكي تحافظ للولايات المتحدة على صدارتها في التصدير خلال الأزمة الراهنة عليها أن تعمل من أجل القضاء على الإنتاج في البلدان الأخرى المنافسة، وفي المقام الأول الصين ودول الاتحاد الأوروبي التي تواجه مشكلات عميقة في الطاقة ستنعكس على كل الصناعات الأوروبية.
ولا يبدو أن هناك ضمانات لدى الأوروبيين بتحقيق الانتصار في حال استجابت لمطالب واشنطن الانخراط في حرب شاملة تحت مظلة “الناتو”، فالواضح أن لدى أوروبا مخاوف جادة، من الاستعدادات التي بدأتها روسيا لخوض الحرب، مع لجوء موسكو لاستخدام معدات عسكرية سوفيتية تعود للحرب العالمية الثانية، بعد أن تولت إعادة تأهيل كم هائل من الأسلحة السوفيتية المتراكمة في المستودعات، كما يعتقد أنها حصلت على صواريخ إيرانية رخيصة في تداعيات اشرت إلى تبييت موسكو النية لاستنزاف السلاح الغربي المتدفق إلى أوكرانيا بمقابل حرصها الحفاظ على مخزونها الاستراتيجي من الأسلحة الحديثة التي تدخرها لحرب وشيكه مع حلف “الناتو” ستكون فيها الدول الأوروبية في حال قررت المشاركة الخاسر الأكبر.

قد يعجبك ايضا