يسمي السودانيون العام المنصرف للأزمة بـ “العام الأسود” بعدما عاشوا أيامه تحت غيوم اضطرابات سياسية خلَّفتها تظاهرات دامية أوقعت عشرات القتلى والجرحى، وأنتجت انقسامات وتباينات سياسية أخفقت معها الجهود المحلية والإقليمية والدولية والأممية في التوصل إلى تسوية سياسية تعيد السودان إلى المسار الانتقالي، في ظل تفاقم خطير للأزمات الاقتصادية والمعيشية جعل نصف السودانيين يعيشون تحت خط الفقر المدفع والجوع.
تحليل / أبو بكر عبدالله
مشاعر الإحباط خيَّمت على الشارع السوداني في الذكرى الأولى للإجراءات الاستثنائية التي اتخذها مجلس السيادة الانتقالي السوداني برئاسة قائد الجيش الفريق عبدالفتاح البرهان في 25 أكتوبر 2021م، فلا تغيير في مشهد الأزمة المعقَّد سوى في خطابات النوايا التي وقفت عند الترحيب بـ “الإطار الدستوري الانتقالي” المقترح من نقابة المحامين في ظل تداعيات سياسية ظلت تتفاعل على مدى 12 شهرا، ملوحة ببقاء السودان أسير أزمة انسداد سياسي عصية على الحل.
ونزل آلاف السودانيين إلى شوارع الخرطوم ومدن أخرى في الذكرى الأولى حاملين المطالب ذاتها بعودة الحكومة المدنية ومغادرة العسكر للمشهد السياسي، في مطالب يعتقدون أنها ستحل مشاكلهم في بلد يعاني تبعات عقود من حكم تحالف الضرورة بين العسكر وجماعات الإسلام السياسي افضت إلى منظومة فساد، وعقوبات أمريكية أنهكت السودان لعقود، وتزايدت آثارها مع تعليق المانحين الدوليين مساعداتهم واشتراطهم لإعادتها تسوية سياسية تعيد الحكم المدني.
والمطالب التي عبَّر عنها المتظاهرون في الذكرى الأولى لما يسمونه “انقلاب عسكري” لم تكن داخلية فقط بل عبَّر عنها أيضا البيان المشترك الصادر عن ممثلين من 13 دولة من الاتحاد الأوروبي والآلية الثلاثية التي تضم الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي والهيئة الحكومية لشرق أفريقيا (إيجاد) والتي دعت أيضا إلى تشكيل حكومة انتقالية بقيادة مدنية كخيار وحيد للخروج من الأزمة.
وخلافا للمطالب السياسية غير المحمولة بآليات التنفيذ، كان واضحا أن المتظاهرين نزلوا إلى الشوارع هذه المرة محملين بحالة إحباط من جراء التدهور المريع في الأحوال المعيشية، وعدم لمسهم أي تحسن رغم مضي شهور على القرار الذي أعلنه رئيس المجلس العسكري الفريق عبدالفتاح البرهان بانسحاب مجلس السيادة الانتقالي من المشهد السياسي وتسليم السلطة لحكومة مدنية وإعلان القوى السياسية القبول بمسودة “الإطار الدستوري الانتقالي” المقترح من نقابة المحامين.
في الواقع لم تكن مطالب المتظاهرين سياسية فقط، فقد أشارت أيضا إلى سأم الشارع السوداني من تفاقم معاناتهم جراء غياب الحكومة التنفيذية، بما أفضى إليه ذلك من تدهور اقتصادي يتجلى في ارتفاع الأسعار وانخفاض قيمة العملة الوطنية وارتفاع مهول في معدلات الفقر والبطلة.
ورغم أن المشكلات الاقتصادية كانت دافعا لإعلان المكون العسكري والقوى المدنية القبول بالصيغ المطروحة للحل السياسي التي تقترح خروج العسكر من المشهد السياسي وتسليم السلطة للمدنيين ضمن ترتيبات دستورية انتقالية، وكذلك اعلان القوى السياسية اتخاذ مسودة الدستور الانتقالي لنقابة المحامين أساسا لبناء التسوية السياسية، إلا أن المشهد لا يزل ضبابيا، نتيجة أزمة الثقة بين المكونين المدني والعسكري من جهة وبين المكونات المدنية ذاتها من جهة ثانية، ناهيك عن الخلافات المحتدمة على التفاصيل التي يختبئ بين جنباتها الشيطان.
أزمة ثقة
علاوة على الأزمات التي خلفتها إجراءات رئيس مجلس السيادة الانتقالي الفريق عبدالفتاح البرهان، بحل الحكومة المدنية المشكلة بموجب الوثيقة الدستورية، فإن التركة الثقيلة للتظاهرات المستمرة منذ حوالي سنة، تبدو اليوم أزمة بحد ذاتها، بعدما سجلت أعمال العنف 118 قتيلا من المتظاهرين وإصابة المئات دون أن يكون لهذا القدر الهائل من الضحايا اعتبار يدفع الفرقاء لتحقيق تقدم يذكر في العملية السياسية.
هذا المشهد جعل الحديث عن إعلان مجلس السيادة الانتقالي الانسحاب من المشهد السياسي مستفزاً لبعض النخب السودانية التي رأت فيه “مناورة نقلت الانقلاب إلى مستوى آخر، دون الخوض في متطلبات الحل الذي يضمن العودة بالبلاد إلى الحكم المدني وتعبيد الطريق لاستحقاقات المرحلة الانتقالية”، متجاوزة التأكيدات المستمرة من قيادة مجلس السيادة الانتقالي بأن قرار الانسحاب من المشهد السياسي نهائي ولا رجعة عنه ناهيك عن تأكيدها الوقوف على مسافة واحدة من الجميع دون الانحياز لأي طرف ودعمها لخطوات التحول الديمقراطي خلال المرحلة الانتقالية.
هذه التجاذبات عمَّقت أزمة انعدام الثقة بين المكونات السياسية والعسكرية بل إنها عمَّقت الشعور باحتمال حصول تراجع عن التعهدات الأخيرة بالتوصل إلى اتفاق على المشروع المقترح للدستور الانتقالي، الذي ترجم عمليا المطلب الأول في الأزمة بالنص على أن تكون هياكل السلطة كلها مدنية على المستويات السيادية والتنفيذية، والتشريعية وخروج المجلس العسكري من العملية السياسية، والتزام القوات العسكرية بالمهام المنصوص عليها في الدستور والقانون.
هذا الأمر برز إلى الواجهة في التظاهرات الأخيرة التي شهدتها الخرطوم ومدن أخرى والتي حملت رسالة بأن قوى “الحرية والتغيير” المجلس المركزي ومعها لجان المقاومة، لا تزال مصرّة على رفض التعاطي مع المبادرات الأخيرة لمجلس السيادة الانتقالي العسكري ومشروع نقابة المحامين، ما رجح من فرضية استمرار الاضطرابات السياسية حتى لو أفلحت الضغوط الدولية بحمل الفرقاء على توقيع اتفاق بشأنها.
ذلك أن التقدم المحرز حتى الآن في العملية السياسية ليس سوى شبه توافق حول مسودة الدستور الانتقالي المقترح من نقابة المحامين مع احتفاظ المكونات بتحفظات على بعض بنوده، بما في ذلك مدة الفترة الانتقالية والأطراف المسموح لها المشاركة في الحكومة والملفات ذات الصلة بالشأن الاقتصادي والمؤسسة العسكرية والعدالة الانتقالية.
رؤى إقصائية
تؤكد العديد من القوى السودانية أن مشروع نقابة المحامين لبَّى مطالب القوى الثورية في إزاحة المكون العسكري من العملية السياسية وتشكيل الحكومة المدنية، كما منح القوى الموقعة عليه حرية اختيار قادة الحكم المدني الانتقالي، بمن فيهم أعضاء مجلس السيادة ورئيس الوزراء والوزراء وأعضاء المجلس التشريعي وحكام الولايات ورؤساء القضاء والنيابة والمحكمة الدستورية، وحظر ممارسة القوات النظامية للأنشطة التجارية والاستثمارية، كما أخضع القوات المسلحة للسلطة المدنية.
لكن هذه الرؤية لم تكن مقبولة تماما من المكونين المدني والعسكري، حيث يطالب المجلس العسكري والمكونات القريبة منه، بمشاركة سائر القوى السياسية والحركات المسلحة جنبا إلى جنب مع قوى الحرية والتغيير ولجان المقاومة في الحكومة المدنية واستحقاقات المرحلة الانتقالية، بينما يطالب تكتل المعارضة الرئيسي في تحالف “الحرية والتغيير” المجلس المركزي بإقصاء الأحزاب التي أيَّدت “انقلاب 25 أكتوبر” وكذلك حزب المؤتمر الشعبي الحاكم سابقا والأحزاب التي شاركت نظام الرئيس المعزول عمر البشير، مع إعطاء “قوى الثورة” الدور الأهم في قيادة المرحلة الانتقالية واختيار رئيس الوزراء المدني، ومنح القوى الأخرى مشاركة أقل في المجالس التشريعية، مع استبعاد القوى التي تتهمها بدعم “الانقلاب”.
هذه المعطيات وحدها تكفي للتوقع بأن عقبات كبيرة ستواجه مساعي التوافق، خصوصا وهي تتعارض مع مقترحات مشروع الدستور الانتقالي الذي أقر مبدأ توسيع القاعدة بإشراك جميع الأطراف السياسية والمهنية والثورية في التوافق على الترتيبات الدستورية المقترحة، بما في ذلك قادة الحركات المسلحة وممثلو الأحزاب التي تحالفت مع نظام الرئيس المعزول عمر البشير، سعيا لتلافي أخطاء سابقة كانت قد أقصت أطرافا سياسية بعينها وخصوصا تلك التي ارتبطت بنظام البشير الذي أطيح به بانتفاضة شعبية العام 2019م.
أكثر من ذلك أن التحالف المعارض في “الحرية والتغيير” المجلس المركزي، يتجه نحو التمترس خلف رؤية تطالب بإشراف الحكومة المدنية الجديدة على المؤسسات الاقتصادية التابعة للجيش، وتفكيك بنية النظام السابق، معتبراً أن قبول التحالف بأي حل سياسي سيكون مرهونا باقترابه من هذه الرؤية، بما يفضي إلى ترتيبات دستورية تكمل مهام “ثورة ديسمبر”.
هذه التقاطعات ستقود حتما إلى نتيجة واحدة وهي عرقلة جهود التسوية وبالتالي احتفاظ مجلس السيادة الانتقالي العسكري بالسيطرة على السلطة لفترة أطول، كما ستقود إلى خروج قوى سياسية كبيرة وفي المقدمة “الإخوان المسلمين” من طاولة التفاوض في ظل خشيتهم من أن يؤدي إقصاؤهم عن المشهد السياسي” إلى تداعيات أكبر بوضعهم في قوائم الجماعات المحظورة، كما حدث في تجارب عربية أخرى.
الجيش والتنسيقيات
ثمة إشكاليات أخرى قد تعترض جهود التسوية السياسية السودانية، على صلة بمطالب الإطار الدستوري الانتقالي المتمثلة في توحيد الجيش واستيعاب قوات الدعم السريع ضمن القوات المسلحة السودانية، وهي خطة قد تواجه عراقيل في ظل الانقسام الحاد بين الجيش وقوات الدعم السريع، وبقاؤها دون حلول توافقية والتزامات دستورية يمكن أن يقوَّض أي فرص لتنظيم انتخابات حرة ونزيهة.
تضاف إلى ذلك القضايا موضع الخلاف بين المكونين المدني والعسكري بشأن الضمانات التي يطالب بها قادة الجيش للعمل باستقلالية، وعدم الملاحقة القانونية على الجرائم المرتكبة بحق المتظاهرين العام الماضي وأثناء ثورة ديسمبر 2019م، فضلا عن مطالبه بالإبقاء على منسوبيه في المؤسسات ذات الطابع المدني، وإبقاء الصناعات العسكرية تحت إمرة الجيش بالكامل، بينما تصر المعارضة في “الحرية والتغيير” على تبعية كل المؤسسات الاقتصادية التابعة للقوات النظامية للحكومة المدنية”.
ومن جانب آخر فإن تنسيقيات لجان المقاومة وبعض الأحزاب السياسية التي ترفض الحوار مع الجيش، لا تزال عند مواقفها المتصلبة إزاء المكوّن العسكري وهي المواقف التي بدت واضحة في التظاهرات الأخيرة التي قادتها وحاولت فيها اقتحام القصر الرئاسي في الخرطوم، مطالبة بإنهاء الانقلاب واستكمال الطريق نحو الدولة المدنية وعودة الجيش السوداني إلى الثكنات وسط تعهدات بعدم التراجع عن أهداف الثورة.
هذ الأمر أشاع مخاوف من احتمال حدوث اضطرابات سياسية وأعمال عنف تلوح بتقويض جهود إقرار مشروع الدستور الانتقالي والمساعي المبذولة لإعادة السلطة إلى المدنيين، ما سيبقي الأزمة السودانية عالقة في حافة هاوية.
ورغم مشروعية المطالب التي تبنتها تنسيقيات لجان المقاومة في تظاهراتها الأخيرة، إلا أنها بدت خارج السياق أو أنها تغرّد خارج السرب بعد الخطوات التي اتخذها مجلس السيادة بإعلانه المتكرر عن الانسحاب من المشهد السياسي في حال التوافق على تشكيل حكومة مدنية، ما دعا قيادة الجيش إلى التحذير من محاولات بعض الأطراف الزج بها في المعترك السياسي واستخدامها كوسيلة في الدفاع والاستقواء السياسي”.
وتجاوز مواقف تنسيقيات المقاومة التي تلعب دورا مهما في تحريك الشارع، قد يقود أطراف الصراع السياسي إلى شكل من اشكال تقاسم السلطة من أجل إضعاف هذه التنسيقيات، وهو أمر إن حدث قد تكون له تداعيات في إضعاف مواقف القوى المشاركة في عملية التسوية حيال الالتزامات الواردة في الدستور الانتقالي.
آمال ضعيفة
رغم العقبات التي تعترض مسار التسوية النهائية بين المكونات السودانية، فإن الجميع أبدوا نيات حسنة في الوصول إلى تسوية نهائية للأزمة، كونها ستنعكس فورا على الوضع الاقتصادي والمعيشي الذي يعانيه السودانيون بصورة عامة، في ظل الوعود والتطمينات الخارجية التي تشير إلى أن عودة الحكومة المدنية ستقود فورا إلى تدفق مليارات من المساعدات الدولية المجمدة وكذلك تدفق الاستثمارات في مجالات البنية التحتية والمشاريع الزراعية، التي يمكن أن تحدث فارقا كبيرا في إنعاش الاقتصاد السوداني وتخفف من وطأة الأزمات المعيشية، وهو أكثر ما يحتاجه الشارع السوداني اليوم.
لكن المشكلة القائمة أن النيات الحسنة لم تترجم إلى تنازلات وموقف موحد حتى الآن، فالقوى السياسية فشلت خلال عام في تحقيق توافق أو إنتاج برنامج سياسي موحَّد، وفشلت أيضا في تحقيق حد أدنى من الاتفاق على آليات لتنفيذ متطلبات مشروع الدستور الانتقالي حتى أن الشارع السوداني الذي ينخرط في حراك ثوري شعبي متنامٍ، لم يجد حتى اليوم قيادة موحَّدة تعبّر عن مطالبه وآماله وتطلعاته.
وفي مقابل من يرى في التفاعلات السياسية الجارية مؤشر تفاؤل على إحداث اختراق في المشهد، تذهب أطراف أخرى إلى التأكيد على استمرار حالة الانسداد، ما لم ترضخ كل القوى للرؤى التي حملها مشروع الدستور الانتقالي لنقابة المحامين باعتبارها الوحيدة القابلة للتطبيق ولا تحتاج سوى لتنازلات من أطراف الأزمة المختلفة.
وسوى ذلك ليس إلا عودة بالسودان من جديد إلى المربع القديم بإبرام اتفاقيات ثنائية بين المكون العسكري ممثلا بمجلس السيادة الانتقالي وقوى المعارضة في تحالف “الحرية والتغيير” المجلس المركزي، بما يعيد صيغة الشراكة الثنائية التي كانت سائدة قبل 25 أكتوبر2021م بكل أزماتها.
وهذا السيناريو لم يكن بعيداً عن مخاوف بعض القوى السياسية السودانية ولجان المقاومة وكذلك الأحزاب السياسية الرافعة لشعار “لا تفاوض، لا شرعية، لا شراكة”، والتي أعلنت أنها ستناهض أي توجهات تتيح للمتورطين بقتل المتظاهرين الإفلات من العقاب، كما ستواجه أي محاولات تعيد إنتاج أزمة تحكم قوى سياسية بالسلطة على حساب بقية المكونات.