
مجموعة من الأصدقاء وقليل من الأهل الذين ساعدهم حظهم في اجتياز البحر يحيطون بالشاب فارح الذي يرتدي قبعة التخرج وتحمل يده النحيلة باقة ورد بلاستيكية ويزين عقدا فل صدره وينتظر سماع اسمه بين الخريجين ليصعد إلى منصة الاحتفال ” حينها ضاعفوا من تصفيقكم وكأنني الخريج الوحيد ” مخاطباٍ المحيطين به في الصفوف الأمامية للقاعة ومخفياٍ ابتسامته .
يصعد فارح لتسلم شهادته فتهتز القاعة ويصفق البعض كما لو كانت هذه هي المرة الأخيرة التي سيسمح لهم بالتصفيق فيزداد إحساسه بقيمة ما انجز خلال السنوات الثلاث – لقد جاء فارح إلى اليمن داخل قارب خشبي مكتظ بغيره من أطفال ونساء ورجال فروا من أوجاع الحرب المشتعلة في الصومال منذ عقدين وحين استفاق من هول الرحلة وجد جسده ممداٍ في إحدى سواحل أبين وقد احتاج إلى قطرات ماء ولفحة شمس حتى تعود إليه القدرة على الحركة .
وكأي لاجئ شق طريقه ببطن خاوية وقلب ممتلئ بمشاعر متناقضة ” لا استطيع أن أتذكر كل ما حدث تماماٍ إلا أنه لم يكن ساراٍ ” – قليل من الطعام الذي تقدمه جمعيات خيرية وأهالي كان كافياٍ لاستئناف الرحلة نحو عدن المدينة التي تجعلها إذاعات المهربين في الصومال جنة تنتظر من يأتي للحياة فيها. يقول فارح: ” يتحدث المهربون في مقديشو عن فرص الحياة في اليمن بصورة مبالغ فيها ولا يوجد من يقول لك هذا حقيقي أو غيره ” .
لم تكن عدن مبتغى الشاب الذي غادر وطنه وحيداٍ فقرر القدوم إلى صنعاء مع آخرين يرشدهم الإسفلت والنجوم نحو العاصمة التي يعتقدونها قريبه فتزداد بعدا كل يوم .
في صنعاء وجد فارح إعلاناٍ ملصق على جدار قديم في منطقة الصافية حيث يكثر عدد اللاجئين الصوماليين الذين يأنسون ببعضهم ” كان ذلك الإعلان هو البداية ” كما يقول الشاب موضحاٍ مضمونه بوجود جمعية خيرية تنظم بالتعاون مع مفوضية اللاجئين دورات تأهيل مهنية في تخصصات لا تحتاج الصومال أكثر منها .
ولأن فارح حاصل على ثانوية عامة فقد أهله هذا إلى القبول ضمن مجموعة من الشباب الصوماليين الموجودين في صنعاء ” فكرت بأكثر ما تحتاج بلادي بعد أن يكمل المتحاربون رصاصهم ولم أجد غير هندسة الشبكات الكهربائية والإمدادات ففي حالة السلام سيحتاجون إلى مهندسي كهرباء يضيئون البلاد بعد الظلام”.
رحلته اليومية
أصبح المعهد التقني في مركز رئيس الجمهورية لليتيم هو المقصد اليومي لفارح برفقة زملائه وكل صباح يقف على رصيف الشارع بانتظار الباص الذي يقله إلى حيث يتلقى التدريب المهني في المجال الذي فضله ” أثناء الطريق الطويل كنا نتحدث عن عودتنا إلى بلادنا وقد تعلمنا مهنة نعيش منها ونساهم بها في إعادة الإعمار وكل يوم نتمنى أن يقلنا الباص إلى المستقبل الخالي من المعارك”.
يقول مطهر الحيدري وهو منسق مشروع تأهيل اللاجئين بين الجمعية الخيرية والمفوضية إنه يلمس حرصهم على التعلم ومثابرتهم واجتهادهم المتواصل حتى يستفيدوا من كل معلومة ” لأنهم قادمون من معارك ومن بلد مدمر فلديهم شعور بالمسؤولية ودائماٍ يتحدثون معنا عن مستقبلهم ” .
ويضيف الحيدري أن التخصص يترك لهم حرية اختياره وقد تم وضع البرامج بحيث تلبي حاجات السوق سوى اليمنية أو الصومالية وجميعها مهنية تشمل هندسة الكهرباء والأجهزة الالكترونية والنجارة والحدادة وغيرها من المهن المطلوبة .
” كما أننا لا نتخلى عنهم فور تخرجهم ” يقول الحيدري مورداٍ الخطة التي وضعت لصقل المهن بعد التخرج بحيث يتم اختيار عدد من المحلات الفنية ويطلب من صاحبها السماح للمتخرج بالعمل لديه كمتدرب حتى يجيد عمله. ويقول مطهر ” هذا نوع من دمج اللاجئين بالمجتمع المضيف وقد نجحت هذه التجربة وحصل الخريجون على أماكن تدربوا فيها جيداٍ وأصبحوا جاهزين للعمل بشكل مستقل تماماٍ ” .
في اللحظة التي كانت الفرحة تغمر فارح كانت الجهة المنظمة للاحتفال تقدم له هدية مكتملة من المعدات التي يحتاج إليها في عمله يقول الحيدري ” نسلمهم أدوات العمل حتى تمكنهم من مزاولة مهنتهم الجديدة وتغير من واقعهم وحتى لا يجدوا عوائق أمامهم سوى عملوا هنا أو ذهبوا إلى مكان آخر ” .
نقطة حزينة
مرت سنوات منذ تخرج فارح مع زملائه ولم تنته رصاص المتحاربين في الصومال بل ربما ازدادت ولم يجد إمكانية لتنفيذ حلمه بالعودة والعمل ضمن فرق إعادة الإعمار وكما يقول فإنه كل يوم يمني نفسه بأن غدا سيكون أفضل وستشهد المعركة نهايتها وستفتح صفحة جديدة تمكنه من ممارسة مهنته التي يحبها .
أعداد أخرى تتخرج ضمن برنامج تأهيل اللاجئين جميعهم يصبحون أكثر تمسكاٍ بالعودة أكثر من أولئك الذين يفتقدون مهنة وتعليماٍ ومع ذلك لم يتسرب اليأس إلى قلوبهم ويكفيهم وجود الأمل الذي ينتصر في النهاية .
عكس الطريق
بينما تترك المعاهد المهنية والفنية في بلادنا للتصوير التلفزيوني ويتخلى الطلاب عن الرغبة في أن يصبحوا مهنيين جيدين وبالكاد يكمل الطالب سنوات التعلم وقد استفاد من المعلومات التي منحت له بل إنه وحتى تلك البرامج التي صممها المعهد المهني الذي كان يعرف بالمدرسة الصينية في أمانة العاصمة لم تلقى نجاحاٍ وتخلى عدد كبير من المهنيين الذين يعملون في السوق عن البرنامج الذي كان يبدأ عصر كل يوم ويستهدف العاملين في ورش هندسة السيارات. وحسب تعليق أحد اليمنيين الذين أوقفوا تعلمهم إنه لا يعجبه العودة الساعة ثلاث عصراٍ إلى المعهد رغم انه مقتنع بفائدة البرنامج الخاص بالعاملين بدون تأهيل .
وحتى أولئك الذين يتجهون للاغتراب في دول الجوار يقبلون العمل بأجور زهيدة في مهن تكرر نفسها كبائعين في محلات تجارية بينما لو حصلوا على تأهيل جيد لتصدروا قائمة المطلوبين للعمل في الشركات والمصانع ودائماٍ يطرح مسؤولو وزارات العمل في دول الجوار إشكالية عدم تأهل الكادر اليمني وعدم وجود تخصصات فنية.