في العيد الثامن لثورة 21سبتمبر، يفترض بنا أن نعيد ترتيب نسقنا الثوري بما يتسق مع مبادئ الثورة، ولا بد لنا من الوقوف أمام عتبة التاريخ حتى نستفيد من التجارب الثورية، بدءا من ثورة الإمام الحسين، ومرورا بالثورات الإنسانية التي أحدثت انحرافا متطورا في حركة التاريخ، وانتهاء بثورة الـ21 من سبتمبر، فالتمجيد للثورات لا يعني الصلاح وسلامة الطريق، ولذلك يفترض بنا الوقوف والمراجعة، فالثورة حركة مستمرة وحين تتحول الثورة إلى عنصر ثابت من عناصر المعادلة التفاعلية الحياتية، تفقد خواص الثورة بشكل متدرج حتى تتحول إلى كتلة جامدة، وقد تستدعي ثورة جديدة تعمل على صهرها مع حركة الواقع، لكن حين يستمر الصهر والتقييم والصناعة، والتعهد للمسار فإن الثورة تستمر كعمل متحرك قابل للتطور والتفاعل مع المستويات الحضارية المعاصرة، فخلفنا الكثير من التجارب الثورية التي يجب أن نستفيد من تجاربها، والكثير من الكتب التي تضع الثورات تحت المجهر، وهي قد تفيدنا كثيراً إذا أحدثنا قياساً من خلالها على واقعنا الثوري .
لن أمجد الثورة اليوم فقد سبق لي الكتابة عنها بما يغني عن التكرار في كل مناسبة ولكني مضطر إلى طرح أفكار ومسارات جديدة اليوم، حتى تستمر الثورة، لتعيد بناء نفسها وفق شروط المراحل والمبادئ الثورية الحسينية .
فالثورة في المسار التاريخي العربي أخذت بعدين لا ثالث لهما هما :
– بعد تغيير جذري : وهذا مسار قاده الرسول الأكرم عليه الصلاة والسلام وقد اعتمد على التغيير في المفاهيم الثقافية والتحول العقدي، والبناء الأخلاقي والقيمي للمجتمع .
– والبعد الثاني هو مقاومة الظلم ومقارعة الظالمين والمفسدين : وهذا البعد قاده الأمام الحسين عليه السلام، انتصارا للفقراء والسواد الأعظم من الناس، وقد كان هذا البعد هو الملهم للمفكرين والثوار في المسار التاريخي وما يزال عنصرا هاما وتفاعليا في المادة الفكرية والأدبية إلى يومنا المشهود، فالثورة الحسينية لم تكن حدثا عابرا بل كانت نقطة تحول كبرى في المسارات السياسية والحضارية والاجتماعية والثقافية .
وأمام هذين البعدين لا بد أن تقف ثورة 21سبتمبر وقفة من يرغب في الصلاح لا من يرغب في التمكين الذي يجر إلى الفساد النفسي والأخلاقي، فالقضية لم تعد فكرة سلطة، ولا فكرة جاه، ومال، إذ لو كانت كذلك لما خاضت الثورة معركة وجود مع عالم متعدد الاتجاهات والرغائب والمصالح، ولكنها فكرة ثورة بكل المقاييس الثورية التي غيرت التاريخ البدوي العربي القائم على التنقل والبحث عن المرعي إلى الاستقرار، واستبدل وعي القرية بوعي المدينة، واستبدل العصبية بالفكرة والتعايش والإنسانية، وخرج من الخيام إلى القصور والبناء والحضارة، وقد ترك أثرا على الحضارة الانسانية كلها من خلال عنصري الإبداع والابتكار، إذ ثمة ابتكارات كانت مثار دهشة العالم في ذلك الزمن، فالصدمة التي نشعر بها من خلال الابتكارات اليوم، هي ذات الصدمة التي شعر بها إنسان ذلك الزمن من التاريخ وكل عوامل وعناصر الدهشة اليوم نحن كنا أساسها في التاريخ، فالخوارزميات التي تشكل أساس وقوام التقنية الالكترونية والتطبيقات التي تجوب العالم في جزء من الثانية نحن من ابتكرها، وكل أساسيات العلوم التطبيقية، والعلوم الطبيعية، والاتجاهات الفكرية والفلسفية، والعلوم الإنسانية، فما من توجه فكري إلا وجدت لها جذرا في ثقافتنا، وما من توجه إنساني إلا وكنا نحن من ابتكره واشتغل عليه، لكننا أهملنا كل شيء ابتكرناه وهم عملوا وسهروا واشتغلوا فكان أن تقدموا وتأخرنا نحن .
اليوم التاريخ والفكر الإنساني والفلسفي يتحدث عن الثورة الفرنسية كثورة غيرت العالم الحديث، وأحدثت حراكا وجوديا في المسار الصناعي والابتكاري والإبداعي، ونقلت المجتمعات من حالة الظلم والحركة الإقطاعية إلى حالة العدل والمساواة أو ما يسمى بالعدالة الاجتماعية، وهذه المبادئ مستمدة من الثورة الحسينية، ثورة الحق والعدل والمساواة والانتصار للفقراء، وثورة الحرية والكرامة والعزة، يقول البردوني في هذا السياق من مقال له : “ بات الحسين دائم الحضور كأنه عبير كل ثورة وتاريخية كل تاريخ، حتى صار رمزا إنسانيا للثورة : فإما أن يكون الإنسان حسينيا، وإما أن يكون يزيديا ولا توسط بين الطرفين .. لأن الحسين رمز الثورة الشعبية الحقيقية، ويزيد رمز التسلط الموروث .. لأن زعامة الحسين بترشيح الواقع وزعامة يزيد بفعل الوراثة والانتهازية “ .
فالثورة التي نحتفل بها اليوم تواجه إشكالات ومعضلات لا بد لها أن تقف أمامها ؛حتى تجتاز العقبات، فالموضوع الثوري لا يعني القوة المقيدة بالعتاد العسكري ولكنه يعني القوة المطلقة في كل المسارات وأهمها القوة الثقافية والفكرية والأدبية والاقتصادية والاجتماعية، وطالما استطاعت الثورة الوقوف أمام المشكلات الحضارية المعاصرة، ووضعت الحلول اللازمة لها، فقد اقتدرت على امتلاك الناصية للمسار الثوري الحقيقي، ولها من تجارب الماضي القريب والبعيد عبر لو أرادت النجاح، فالموضوع ليس خواطر ولا تعبيرات وجدانية نجدها هنا أو هناك بل رؤى وأفكار وفلسفات عميقة، تنفذ إلى الحقائق كما هي في واقعها، ثم تقترح الحلول والمعالجات الضرورية، فالثورات التي حدثت في القرن الماضي لم تنجح نجاحا كليا بسبب بعض الإشكالات العميقة التي صاحبتها وهي إشكالات جوهرية في الفكر والثقافة وفي قضايا حضارية معاصرة .
التحرك الثوري في المسار الثقافي والحضاري بموازاة المسار العسكري من ضرورات الثورة في بعديها المشار اليهما في السياق، وبدونهما نصبح كمن يحرث في بحر دون الوصول للغايات والأهداف ودون القدرة على الصناعة والابتكار، فاليمن من خلال ثورتها قادرة اليوم أن تستعيد زمام المبادرة وتقود المرحلة بما يتسق والبعد الحضاري والتاريخي الذي كانت عليه في ماضيها التليد لكن ذلك يتطلب اشتغالا مكثفا على كل المستويات، ويتطلب ترتيب المهام الثورية بما يتسق مع البعدين اللذين أشرنا إليهما في السياق .