الكثير من الناس يرون في أنفسهم الكمال والخير، ولا يرون في غيرهم إلا النقصان والشر، وهذا معيار يقوم على المكون النفسي والثقافي، والذات بكل عوالمها النفسية والأخلاقية والبيئية تفرض غلبتها على ملامح الموقف، ولذلك كانت تقول العرب مثلاً مشهوراً « كل إناء بما فيه ينضح « فالمتوجس لا ينضح إلا توجسا، والخائن لا يرى غيره إلا مثله، وكل فرد من أفراد البشر – مع الفوارق طبعا بين بيئة وأخرى وثقافة وأخرى وجنس وآخر – يرى غيره بعين طبعه، فالمسالم لا يرى سواه إلا مسالما، والذي جبل على كراهية الناس لا يرى غيره إلا مثله، هذه من المسلمات والثوابت، التي يمكن للمرء أن يسلم بها في الحياة وبين بني البشر .
تقول الفلاسفة أن الآريين جنس متطور عن الساميين، فهم لا يتقبلون الكليات ككليات بل كقضايا يمكن تحليلها وتجزئتها لمعرفة أسسها وأبعادها ومدى توافقها مع العقل والمنطق، في حين تجد أجناساً من البشر – ونحن منهم طبعا كعرب – يتقبلون القضايا ككليات دون تفكير أو تحليل أو تجزئة، ولذلك تجد القرآن يقول هذه الحقائق، فقد رفض العرب رسالة النبي عليه الصلاة والسلام، لأنه خالف العادة والتقليد، ولم يأت وفق الصورة النمطية التي كانت في أذهانهم، فالصورة التي دأبوا عليها كانت تعتقد أن النبي لا بد أن يكون في منزلة وثراء وله بسطة من الجسم وقوة وبأس « أي رجل من القريتين عظيم « لكن أن يكون فقيراً يمشي في الأسواق، وليس له حشم وخدم وعبيد، فالأمر خارج منطق التصور الذهني، والأمر الآخر كان رفض قريش للدعوة رفضاً كلياً دون تجزئة وتحليل وفق منطق الأشياء، ولذلك تجد حتى صفوة الناس من أهل العلم يفسر الحالة الجدلية في موضوع ذبح البقرة عند بني إسرائيل بذات الصورة والمنطق، ويرون ذلك جدلاً عقيماً وعصياناً ومروقاً عن الطاعة، في حين يرى غيرهم أن ذلك لم يكن مروقاً ولا عصياناً بل تحليلاً مشروعاً لمنطق الأشياء للوصول إلى اليقين بقناعة المنطق لا وفق معيار التصور الذهني، فالقرآن كان بيانا وتعليماً ومنهجاً متكاملاً في العلوم كلها، ولذلك لم يورد القصة في متنه للتسلية أو للانتقام من جماعة، أو للحط من قدر أمة على حساب أخرى بل أورد القصص للتعلم وللبيان وللعظة في سبيل بلوغ كمال الخيرية والعدل والمعرفة عن يقين، فالله أجل وأسمى من كل الصفات البشرية التي قد نفسر بها قرآنه .
فالقرآن كان معجزة الرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ولذلك كان آية في الأساليب، وفي البلاغة، فأهل الأدب أفادوا منه، ووجد أرباب العلم إشارات تهديهم إلى أسرار الكون، ووجد علماء النفس ضالتهم بين آياته، وكان أرباب علم الاجتماع بكل تشعباته وأبعاده يتجولون في حدائقه، فالتنوع في الأساليب القرآنية بين السرد والقص والأسلوب الانشائي والأسلوب الخبري، وبين الإيجاز والإطناب لم يكن للتسلية ولا للمتعة لكنه جاء متسقاً مع الحاجة الفطرية للبشر في التنوع وفي الإشباع للوجدان، وبلاغاً، وفكراً، ومنطقاً، فأهل الفلسفة عرفوا سبل الجدل المنطقي فيه، وأهل الفلسفة يلتقطون مقاصده وغاياته من خلال الإشارات الخفية بين الاساليب السردية والقصصية، ثم تتحول تلك الإشارات إلى أفكار ومشاريع فلسفية كان بعضها سببا مباشرا في النهوض والوصول إلى المستويات الحضارية المعاصرة، فالثورة الفرنسية كأساس للنهضة المعاصرة في عالم اليوم، إذا قست منطلقاتها وأسسها ومبادئها لا تجد تعارضا بينها وبين مقاصد الله ولا بين مقاصد القرآن، ففكرة العدل، والخيرية، والمساواة، ورفض الظلم والثورة عليه، من مقاصد الإسلام كدين بشري يتسق مع الفطرة السليمة، والثابت أن الإسلام هو دين البشرية كلها منذ آدم وهذا ثابت في القرآن ومنصوص عليه، والشرائع والمناهج المتنوعة لم تكن إلا حالة تكاملية، فكل شرعة أو منهاج اختص بخصيصة بعينها في البناء العام، فمعظم الشرائع القديمة إذا تأملنا فيها من خلال النص القرآني نجد الحالة الجدلية وأسس التحليل والمنطق السليم عند إبراهيم عليه السلام، ونجد أخلاق السيطرة على أسرار الكون عند سليمان عليه السلام ، ونجد الصناعة وأسسها عند داوود عليه السلام، ونجد النظرية الاقتصادية وترتيب المبادئ بين المجتمع وعلاقات الإنتاج عند موسى عليه السلام، ونجد الإنسان وتموجات الفنون في تكامله الاجتماعي الثقافي في مزامير داوود التي أصبحت طقسا تعبديا في الكنائس، ونجد روح السلام والتناغم بين الروحي والمادي والرغبة في سعادة الشعوب وتحقيق الممكن من الرفاه عند عيسى عليه السلام ، وحين بلغت الغايات قمم التمام كانت بحاجة إلى النظرية الأخلاقية التي حمل أبعادها الروحية والنفسية والثقافية رسولنا الأكرم محمد عليه وعلى آله الصلاة والسلام، فالإسلام بلغ كمال الشرائع من خلال سد ثغرات البعد الأخلاقي الذي كان ينقص المجتمعات البشرية ولذلك قال تعالى « اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا» فالإسلام الذي ارتضاه الله للبشر هو دين مر بمراحل عملية منذ آدم إلى كماله برسالة خاتم المرسلين محمد عليه الصلاة والسلام، وهو دين عالمي لا يخص جماعة دون أخرى بل يعني عموم البشرية .
وعالمية القرآن ثابتة ومنصوص عليها في القرآن وفي المرجعيات الفكرية والثقافية والعقدية ولا مراء في ذلك، وهي تفرض علينا مسؤولية مضاعفة في تحقيق مقاصد الله في العدل والخيرية للبشرية، وقد استشعر غيرنا خطورة الفكرة فعمل على تعزيز فكرة الصراع – صراع الحضارات – والفصل بين البشر، وفكرة الانقسامات، والتقوقع والتحيزات الفكرية، والكثير من الجماعات التي تصنعها الاستخبارات الغربية تحاول إفساد حياة البشر باسم الإسلام والجهاد ويظنون بذلك أنهم يحسنون صنعاَ، وينالون رضى الله والجنة، ويبدو أن ثمة خللاً في مشروعنا الثقافي يحتاج إلى إصلاح، ومثل ذلك لا يمكن أن يتحقق إلا بثورة ثقافية تشبه ثورة الرسول الأكرم محمد عليه الصلاة والسلام ،فلن يصلح حالنا اليوم إلا بإصلاح ما فسد والعودة إلى المنهج الصحيح .